صفحات سورية

“الثورة المنتكسة”.. هل اقتربت لحظة إعلان انتصار الأسد؟/ عبيدة عامر

 

 

بعَلَم ممتد يصل طوله إلى كيلومتر كامل من بداية المظاهرة إلى نهايتها، يحمله نصف مليون متظاهر يصرخون بهتاف يطابق اسم جمعة التظاهر، وفي “ساحة العاصي” التي جاء اسمها رمزيا ليُتم مشهد العصيان الحموي، مدينة المجزرة الشهيرة، كانت مظاهرات “لا للحوار”[1] في صيف عام ٢٠١١ الملتهب في سوريا، وتحديدا في الثامن من (يوليو/تموز). لكن استثنائية تلك الجمعة لم تكن بحجم مظاهرات لم يتكرر فقط، بل بأحد الزوار الاستثنائيين لتلك المظاهرة، من لم يتكرر بعدها كذلك.

لم يكن ذلك الزائر، خريج جامعة “جون هوبكينز” الأميركية والجامعة الأميركية في القاهرة، مميزا بقميصه الأحمر ونظارته الشمسية فقط، بل كان غريبا عن ذلك المشهد في كل شيء، محتميا بسيارة دبلوماسية مصفحة، لكنه كان محل احتفاء وترحيب بأغصان الزيتون من متظاهري حماة، لا لكونه “أحد أفضل المستعربين في وزارة الخارجية” [2]، لإجادته العربية -بجانب الألمانية والتركية والفرنسية والإنجليزية لغته الأم- [3] وحسب، بل لأن حضوره كان يعني تمثيلا رسميا للدولة الأكثر تأثيرا عالميا في المظاهرة، سفير الولايات المتحدة في سوريا: روبرت فورد.

عُرف عن فورد، من بدأ عمله كدبلوماسي أميركي قديم منذ الثمانينيات في فِرق السلام في المغرب، أنه “صديق أصحاب المتاجر وسائقي سيارات الأجرة”، كما تروي عنه إحدى زميلاته في رحلة دبلوماسية للعراق بعد الاحتلال الأميركي كيف سهّل افتتاحية جلسة صعبة، مع الناطق باسم البرلمان العراقي، بنكتة عربية دون أي خطأ، إضافة إلى كونه “مستمعا جيّدا يزيل التوتر أثناء الجلسات” [4].

كانت صفات “فورد” الشخصية حاضرة كذلك أثناء مهمته الصعبة التي انتدبه لها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في سوريا، كأول سفير أميركي هناك عام ٢٠١١، بعد انقطاع دبلوماسي استمر خمس سنوات بسبب مقاطعة سوريا لاتهامها بالضلوع باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. وتقاطعت تلك الصفات أيضا مع الثورة السورية، إذ عُرف عن فورد بداية الثورة نزوله للشوارع بجانب المتظاهرين، أشهرهما في مناسبتين: زيارته لمظاهرة حماة الكبيرة المذكورة أعلاه، وزيارته لعزاء الناشط السلمي غياث مطر، المقتول تحت التعذيب، في داريا في ١٣ (سبتمبر/أيلول) لنفس عام الثورة، وأدى توجه فورد هذا إلى استفزاز مؤيدي النظام ليفرغوا غضبهم في السفارة الأميركية في دمشق أكثر من مرة، إلى أن اضطر روبرت لمغادرتها في ٢٤ (أكتوبر/تشرين الأول) التالي مباشرة، بعد ما سُمي بـ “تهديدات جدية على سلامته”، ثم ترك منصبه كليًّا عام ٢٠١٤ كسفير لسوريا لاختلافه مع سياسة أوباما السورية، منتقدا إياها جهارا ومرارا في أكثر من مناسبة.

يمثل “فورد” أحد الوجوه والأقلام الأميركية الحاضرة إعلاميا، عربيا وأجنبيا، في الشأن السوري، ويكتب ويظهر في عدة مواقع ذائعة الصيت، كان من آخرها مقاله على مجلة “فورين أفيرز” الأميركية، في (أكتوبر/تشرين الأول) المنصرم، معنونا إياه بـ “البقاء خارج سوريا: أقل الخيارات سوءا” [5]، قائلا فيها إن “آمال إسقاط الأسد أو تحقيق حكومة إصلاحية أصبحت خيالات بعيدة، ودعم الفصائل المعارضة للحكومة يجب أن لا يكون مطروحا ضمن الخيارات”، مضيفا أن “جوهر الدولة الأمنية الوحشية، التي استخدمت السلاح الكيماوي وألقت البراميل المتفجرة وتعاونت مع التنظيمات الإرهابية وقتلت وعذبت الآلاف، سيبقى”.

نظريا، يبدو الفارق كبيرا، حتى لدرجة التناقض، بين الموقف المبدئي لفورد قبل سبعة أعوام، وبين موقفه الواقعي جدا اليوم، لكنه بجوهره ليس أكثر من مجرد انعكاس للخارطة السورية الحالية وتغيراتها الجوهرية الضخمة، سياسيا وعسكريا، ولخارطة “حلفاء” وأعداء تغيرت كل توجهاتهم بالتعامل مع الأزمة السورية ككل، وتحديدا منذ سقوط مدينة حلب بيد النظام السوري نهاية العام الماضي ٢٠١٦، لتكون النتيجة باختصار: تراجع مد أخضر ثوري في الخارطة لأربعة مناطق محددة وثباته، مقابل توسع مد أحمر للنظام وحلفائه (روسيا وإيران وحزب الله)، مرسخا مناطقه في “سوريا المفيدة” بعد تثبيت قبضته في كل المدن الرئيسة وأهمها دمشق وحلب، وتوسع أصفر للانفصاليين الأكراد، بدعم من حلفائهم الأميركيين، على حساب “تنظيم الدولة الإسلامية” ذي اللون الأسود، في المنطقة الشرقية، من يؤول إلى الزوال والخروج من الخارطة السورية، وتبدل أدوات وبيئة اللعب السورية كاملة.

أصدقاء سوريا الجديدة

“ما مضى قد مضى وانتهى”، كان ذلك جواب “فورد” بلقاء متلفز [6] في (فبراير/شباط) عام ٢٠١٢، بعد خروجه من سوريا بثلاثة أشهر فقط، في إشارة إلى فيتو روسيا بمجلس الأمن مستخدمة إياه ضد مشروع قرار يدين النظام السوري ويدعو لـ “عملية سياسية شاملة وعاجلة”. في المقابلة، كشف فورد عن فكرة الرئيس الفرنسي وقتها “نيكولاس ساركوزي” لتشكيل مجموعة داعمة للمعارضة السورية خارج مجلس الأمن، فكرة أكد وجودها الباحث الأميركي “كريستوفر فيليبس” في كتاب صدر مؤخرا عن الدبلوماسية الدولية حول سوريا [7]، كاشفا المزيد عن الجهود الأميركية التي قادها فريدريك هوف، كبير مستشاري وزيرة الخارجية الأميركية حينها هيلاري كلينتون، على غرار مجموعة “أصدقاء ليبيا الجديدة”، لتكون هذه المجموعة “مجموعة أصدقاء سوريا”، ولتبدأ بعقد اجتماعاتها بشكل دوري منذ (فبراير/شباط) ٢٠١٢، متعهدة بالسعي لإسقاط الأسد ودعم المعارضة ماليا وعسكريا وسياسيا.

بينما اجتمعت ١١٤ دولة حول العالم في مراكش ضمن المؤتمر الرابع لأصدقاء سوريا، قائلين “كلمات نارية” ووعودا كبيرة دعما للمعارضة السورية ومتعهدين بإسقاط النظام السوري، كانت الأجواء هادئة في القصر الرئاسي قرب دمشق. حين كان أحد الشخصيات المعارضة رفقة أسماء الأسد، زوجة الرئيس السوري بشار الأسد، أثناء انعقاد المؤتمر، سائلا إياها: “ألا تشعرين بالخوف؟”، لتبتسم بثقة قائلة: “بالطبع لا، فإن كان العالم كله ضدنا، فالمهم أن الشعب السوري معنا”، بحسب ما روى المُعارض لـ “ميدان” طالبا إخفاء هويته.

لم تكن ثقة الزوجة المفرطة، إن كانت قناعة نابعة من داخلها كما تحدثت، هي الحالة العامة في أوساط النظام في دمشق، وهي أوساط سيطر عليها القلق الشديد والخوف، إذ يروي الباحث السويدي “أرون لاند” أن كل شخصيات النظام السوري التي التقاها في دمشق كانت تُجمع على أن عامي ٢٠١٢-٢٠١٣ هما “اللحظة الأسوأ في الحرب” [8] بالنسبة لهم، وهم يشاهدون المدن الرئيسة في البلاد تحت التهديد، والشخصيات الأمنية والعسكرية الكبرى تغتال أو تحت الخطر، مما دفع الكثير من طبقة التجار المؤيدة إلى سحب أموالها للخارج والهروب خارج البلاد.

ترافق هذا الدعم الدبلوماسي مع دعم مالي وعسكري للمعارضة السورية المسلحة منذ بداية عام ٢٠١٢، من دول الخليج المتنافسة فيما بينها بتمويل جماعات مختلفة، حاولت تركيا تنظيمها وتنسيقها عن طريق غرف عمليات في أضنة، دعم وصل إلى ثلاثة مليارات دولار تقريبا بغضون عام ٢٠١٣ [9]، بينما أدى الضغط الداخلي من أفراد في إدارة أوباما، رغم رفضه الشخصي، إلى بدء برنامج تسليح المعارضة السورية عن طريق المخابرات الأميركية، تحت اسم “Timber Sycamore”، أحد أكثر البرامج كلفة في تاريخ المخابرات الأميركية، ليصل إلى مليار دولار سنويا بحلول عام ٢٠١٥ [10].

استطاع هذا الدعم تحقيق نتائج فعلية، إذ وصلت المعارضة إلى مشارف دمشق، وسيطرت على نصف حلب وحمص ودرعا وعلى كل الأرياف تقريبا بحلول منتصف عام ٢٠١٣، وأصبح كل العمل الدولي هو البحث عن بدائل لنظام الأسد عند سقوطه المنتظر، مترافقا مع العمل السياسي المتمثل بمسار جنيف، والداعي لتشكيل حكومة انتقالية بدون حكم “بشار”. لكن، وبشكل تدريجي يبدو مفاجئا، ولأسباب ذاتية وموضوعية بدأ التراجع شيئا فشيئا، على كل الأصعدة، إلى أن وصلت النتيجة إلى أسوأ أحوالها اليوم بالنسبة للمعارضة، وأفضلها للنظام، أو بحسب ما وصفها فورد: لقد انتصر الأسد.

من الناحية الذاتية، لم تنجح المعارضة بخلق جبهة مسلحة منظمة ومتماسكة، بل عملت فصائلها غالبا فيما بينهم وضد بعضهم كأمراء حرب، بالترافق مع تمويل كبير، مُغرٍ إن جاز القول، جاء فجأة من دول الغرب، إضافة إلى ارتفاع مستويات “الأدلجة” و”المنهجة” و”الأسلمة” داخل الثورة السورية، فكريا بتحولها من “ثورة شعبية” ذات مطالب سياسية واجتماعية وسياسية عامة إلى حركة ذات مطالب أيديولوجية محددة بإقامة “الشريعة والدولة الإسلامية”، ورفضها للعمل مع حكومات تعتبرها “كافرة”، وعمليا بالسماح للتنظيمات “الجهادية” المسلحة المحلية والعالمية، وأبرزها “جبهة النصرة” المرتبطة بتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ “داعش”، بالتوسع على حساب الفصائل الوطنية.

في نفس الوقت استخدم النظام السوري ورقة الطائفية داخليا لحشد مؤيدين لم تنجح المعارضة في حشدهم بسبب “هيمنة الخطاب الأقصى” كما يسميه الباحث السوري أحمد أبازيد، وورقة الإرهاب خارجيا لتقديم نفسه كبديل شرعي دولي، وهو ما نجح به بالفعل، وأدى إلى تحول الرغبة بإسقاط النظام السوري لدى داعمي المعارضة المسلحة إلى الرغبة بمواجهة تهديد التنظيمات المسلحة الآخذة في التوسع واتخاذ سوريا ملجأ آمنا ومناسبا لها، ما أدى في النهاية إلى تراجع الدعم حتى نهايته مع وصول إدارة الرئيس الأميركي الجديد “دونالد ترمب”.

أما موضوعيا، فقد عمل النظام السوري على الاستعانة بحلفائه تدريجيا، بدءا من المليشيات المحلية الطائفية [11]، من بدأت إيران بتمويلها وتدريبها وحشدها منذ منتصف عام ٢٠١٢، ثم حزب الله اللبناني المشترك في الصراع كقوة عسكرية مسلحة ومدربة بشكل علني منتصف عام ٢٠١٣ مع معركة القصير، بالترافق مع حشد المزيد من عشرات آلاف المقاتلين من المقاتلين الشيعة الأجانب من العراق وأفغانستان وباكستان بعد ذلك بقليل [12]، وصولا إلى التدخل الروسي العسكري المباشر منذ (أكتوبر/تشرين الأول) عام ٢٠١٥، بعد عام تقريبا من التدخل الأميركي ضد “التنظيمات الإرهابية” كما أسمتها، وأبرزها تنظيم الدولة، من كان صعوده عاملا مهما في قلب الخريطة السورية منذ منتصف عام ٢٠١٤ [13]، بينما أتى ذلك بالتوازي مع انقلاب (يوليو/تموز) العسكري في مصر، والذي أدى إلى اختلال العلاقات والتحالفات داخل المعسكر الداعم للمعارضة السورية.

في المحصلة، تحول الصراع السوري من كونه موضوعا لدعم معسكرين مختلفين لأطراف محليين إلى مساحة مهمة لتصفية حسابات الدول بين بعضها، وتحقيق مصالحها والبحث عن أهدافها الذاتية داخل الكعكة السورية، وتحولت سوريا من كونها بلادا تشهد ثورة شعبية وشرعية على نظام غير ديمقراطي، إلى مسرح لحرب أهلية وإقليمية ودولية، بشكل مباشر أو بالوكالة. فبينما غاب اهتمام الخليج عن سوريا في ظل الصراع الخليجي الداخلي، أصبحت أميركا تريد مكافحة “الإرهاب”، وتركيا لمكافحة “الأكراد”، بينما لم يعد أحد على الإطلاق يهتم ببقاء الأسد من رحيله، وهو ما استغلته روسيا بالدرجة الرئيسة بتشكيل المشهد العسكري والسياسي كما تريده.

سوريا المفيدة

“إن روسيا تفعل بحلب ما تفعله بغروزني”.

ضمن إطلالاته الإعلامية وصف [14] السفير فورد الحملة العسكرية الروسية ضد مناطق المعارضة في مدينة حلب بما فعلته في غروزني الشيشانية، في إشارة إلى التدمير الممنهج وسياسة الأرض المحروقة المتبعة روسيًّا ضد الانفصاليين الشيشان، والمنتهية بهزيمتهم وتسوية الدولة كاملة تقريبا بالأرض، دون الحاجة إلى حنكة دبلوماسية أو خبرة عسكرية لإدراك حجم الدمار الذي سببه طيران الكرملين على أحياء حلب، والتي تدمرت نصف منازلها بشكل كلي أو جزئي، بحسب تقرير [15]لـ “معهد الشرق الأوسط”، وهو معهد تفرغ به روبرت فورد كباحث بعد استقالته من مهمته الدبلوماسية.

في مشهد قاسٍ على المعارضة، لملم أفرادها آخر طلقاتهم وذكرياتهم هناك، وودعوا ما تبقى من حاراتهم التي شهدت أحلامهم، وخرجوا مع 40 ألف مدني باتفاق إجلاء تم بين الأطراف والداخلية والخارجية في الحافلات الخضراء، نحو مجهول لا يعرفونه، وإلى نفق مظلم دخلته المعارضة بعد أن خسرت آخر معاقلها في “سوريا المفيدة”.

بإتمام السيطرة على حلب نهاية عام ٢٠١٦ استطاع النظام السوري، ومن ورائه روسيا وإيران، تشديد السيطرة على ما أسموه بـ “سوريا المفيدة”، وهي الدولة الممتدة على الأوتوستراد الواصل بين درعا جنوبا والعاصمة دمشق، مرورا بحماة وحمص ووصولا إلى حلب، إضافة إلى غربه باتجاه الساحل، معقل النظام السوري الذي يضم قاعدة “حميميم” الروسية، كبرى القواعد الروسية هناك، لتكون المسيطرة على العمق السوري كاملا، وتاركة للمعارضة جيوبا ريفية صغيرة بالمقارنة مع ممتلكاتها الكبرى سابقا: جيبا صغيرا في جنوب البلاد، وجيبا في الغوطة الشرقية (بعد أن فرغت بعض البلدات المهمة في العاصمة دمشق، مثل حيي برزة والقابون)، وجيبا في حمص الشمالي، والجيب الأكبر لها بين حلب والساحل: جيب إدلب.

بجانب إتمام السيطرة الروسية على “سوريا المفيدة” وتثبيت مصالحها وقواعدها هناك، مثّل اتفاق إجلاء المدنيين، التام بنجاح بين الأطراف الإقليمية والدولية كتركيا التي ضمنت المعارضة، وروسيا التي ضمنت النظام وإيران، تجربة مناسبة لخلق بيئة عمل جديدة متمايزة، خاصة عن “جنيف” الواصلة إلى طريق مسدود سياسيا بسبب رفض النظام التنازل عن مطلب رحيل الأسد، وفشل المعارضة والدول الداعمة لها بالضغط عليه للقبول بذلك، واختير لذلك بعناية العاصمة الكازاخستانية “أستانة”، ليكون أول الاجتماعات هناك في ٢٣-٢٤ (يناير/كانون الثاني) بداية عامنا الحالي، برعاية روسية – تركية – إيرانية، وبمشاركة جزئية من المعارضة العسكرية والسياسية السورية، ولتكون أهم نتائجه هو ما أسمي بـ “اتفاق خفض التصعيد” [16]، في الجولة الخامسة من أستانة، ناصًّا على وقف إطلاق النار والقصف في المناطق الثلاث الرئيسة للمعارضة، ثم أضيفت إليها إدلب في الجولة السادسة.

يمثل مسار أستانة انقلابا جوهريا لمسار جنيف، إذ كان العمل العسكري في جنيف هو الضاغط للوصول إلى حل سياسي، في حين أن مسار أستانة يعتمد على العمل السياسي لتوجيه العمل العسكري باتجاه ما تعتبره روسيا “إرهابيا”، وضبط العمل العسكري داخل مناطق السيطرة المختلفة عن طريق “وكلاء محليين” باتفاقات محلية مباشرة مع روسيا [17]، تمهيدا للعملية السياسية النهائية التي لمّحت لها روسيا في “مؤتمر شعوب سوريا” في سوتشي [18]، والذي كان سيعمل (قبل أن يتم إلغاء المؤتمر) على كتابة دستور جديد للبلاد، تحت إشراف روسي كذلك.

لم يبتعد مسار المفاوضات الدولي الأصلي الموازي المتمثل في جنيف والرياض كثيرا عن نتائج أستانة، فقد اجتمع المعارضون في مؤتمر “الرياض ٢”، نهاية (نوفمبر/ تشرين الثاني)، في أجواء مليئة بالشك أدت إلى استقالة معارضين بارزين، منهم رياض حجاب، الرئيس الأسبق للهيئة العليا للمفاوضات المنبثقة عن الرياض ١، مما ضاعف من وجود “المنصات” الأقل جذرية، مثل منصة “القاهرة” و”موسكو” القريبة والممثلة لصوت نظام بشار في الهيئة الجديدة للمفاوضات، إضافة إلى إصدار بيان يدعو لـ “مفاوضات مباشرة بدون شروط مسبقة”، ما يعني عمليا التخلي عن رحيل الأسد، ونقل الصراع أخيرا إلى حل وتفاوض نهائيين [19] بين الطرفين الكبار: أميركا وروسيا، حسمته الأخيرة لصالحها وأعلنته في قمة ثلاثية عقدتها مع تركيا وإيران في سوتشي، دعت بها للاعتراف ببقاء الأسد، وكتابة دستور جديد وإجراء انتخابات، على حساب مرحلة انتقالية في مسار جنيف [20]. أما في سوريا غير المفيدة، فإن التنافس والصراع ما زالا محتدمين كذلك، ولكن بطريقة مشابهة إلى حد ما.

سوريا غير المفيدة

“إن الاستياء الشديد مما قام به حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال شرق سوريا، من فكرة الحكم الذاتي المفروضة من قبل الأكراد، وفرض تدريس اللغة الكردية، والانفصالية الكردية عن سوريا، هو شيء واحد من عدد قليل من أشياء وافقت عليها حكومة الأسد والمعارضة السنية على حد سواء”. بهذه الكلمات الدبلوماسية، المخالفة للسياسة الأميركية الداعمة للأكراد، أجاب السفير الأميركي السابق فورد عند سؤاله عن رأيه بالأكراد وعملياتهم المتوسعة في شمال شرق سوريا ضد تنظيم الدولة، والذي فقد عاصمته في الرقة، ولم يبق له الكثير في عاصمته الأخيرة في دير الزور على حد سواء.

بالفعل، صدقت تنبؤات فورد مجددا، فحال سيطرة الأكراد على الرقة قاموا برفع صورة ضخمة، تشبه صورة الأسد على أطلال مدينة حمص، لقائد حزب العمال الكردستاني (الذي تعده الولايات المتحدة إرهابيا) عبد الله أوجلان، رغم النفي المتكرر من جانب المقاتلين الأكراد السوريين للربط بينهم وبين حزب العمال. يمثل توسع الأكراد في مناطق تنظيم الدولة هاجسا مشتركا لكل من النظام السوري وحلفائه، وللمعارضة السورية على حد سواء، لكنه يمثل الخطر الأكبر بالنسبة لتركيا، والتي تدخلت عسكريا وبشكل كبير ومباشر بعملية “درع الفرات” في ريف حلب، لا لإبعاد تنظيم الدولة عن حدودها وحسب، بل لقطع الطريق على الأكراد لوصل جيب “عفرين” في أقصى شمال غرب البلاد بجيب كوباني الممتد إلى الجزيرة السورية، في واحدة من أنجع العمليات العسكرية ضد تنظيم الدولة.

أصبحت مناطق تنظيم الدولة شرق البلاد محل تنافس وصراع بين الأطراف المختلفة، إذ رغم أن مناطق شرق سوريا لا تمثل أهمية كبيرة من الجانب الاجتماعي بالنسبة لروسيا والنظام السوري وإيران، باعتبارها “سوريا غير المفيدة” [21]، لكنها المنطقة الأكثر أهمية اقتصاديا لكل الأطراف، بما تحتويه من نفط وغاز طبيعي، يمثلان العصب الاقتصادي الحيوي للبلاد، كما أن تنظيم الدولة الآن، وفي ظل وقف أعمال التصعيد، هو الجانب الوحيد الذي يمكن النزاع والسيطرة على مناطقه بطريقة ويستفالية إن جاز القول، بحيث أن من يسيطر يمتلك مباشرة.

أدرك النظام السوري والمليشيات الإيرانية بغطاء روسي كل ذلك، فتوسعوا مباشرة جنوب درع الفرات سعيا للوصول إلى الرقة ودير الزور والبادية السورية، ليصطدموا مباشرة مع “قوات سوريا الديمقراطية” المتمتعة بالغطاء الأميركي، بما يهدد بتحول الصراع بين الأطراف المحلية -النظام والمليشيات الإيرانية من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية من جهة ثانية- إلى صراع دولي بين رعاة هذه الأطراف، متمثلين بواشنطن وموسكو، مما أدى إلى اتفاقات محلية تنتابها بعض المناوشات بين هذه الأطراف بتقسيم التركة. فعلى سبيل المثال، تم الاتفاق بين روسيا وأميركا في دير الزور على بقاء قوات سوريا الديمقراطية شرقي الفرات، بينما تبقى قوات النظام وحلفاؤه غربا.

أما في إدلب الواقعة تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام”، المصنفة “إرهابية” من قبل أنقرة وواشنطن وموسكو، وضمن اتفاق “خفض التصعيد”، فقد تم الاتفاق بين روسيا وتركيا، كأطراف ضامنة، على تحييد المنطقة، بحيث تتسلم “وزارة إنقاذ” بإشراف تركي السيطرة المدنية، بما يبدو كمحاولات لتطبيع العلاقات مع الهيئة، وتحويلها إلى طرف شرعي مسيطر ضمن اتفاقات متشظية متعددة في سوريا.

يعكس الصراع الممتد على سوريا غير المفيدة، سواء في البادية السورية أو في المنطقة الشرقية أو في ريف حلب الشمالي بمنطقة “درع الفرات” أو في إدلب، الجانب الآخر الراهن من المشهد الحالي، والمتمثل بتدويل الأزمة السورية بشكل مباشر بالقواعد العسكرية الدولية الموزعة في أنحاء مختلفة من البلاد، إذ تملك الولايات المتحدة تسع قواعد عسكرية، منها ثلاثة مطارات كشفت عنها وكالة الأناضول التركية [22]، وما يقارب ١٠٠٠ – ٢٠٠٠ جندي وتقني بحسب ما كشف فورد في مقاله الأخير بفورين أفيرز [23]، بينما تملك روسيا سبع قواعد كبرى منها خمسة مطارات، إضافة إلى قاعدتين أميركيتين وتركيتين، وقاعدة مشتركة (أميركية – بريطانية – أردنية) للتحالف الدولي في التنف على الحدود السورية العراقية، بجانب القواعد غير المعلنة لإيران وحزب الله، والشرطة العسكرية الروسية أو التركية المنتشرة في مناطق خفض التصعيد الأربعة للإشراف على وقف إطلاق النار.

في المرة الأولى صدقت توقعات فورد أن موسكو تحول حلب إلى غروزني، وأن المعارضة السورية تتحول إلى حركات تمرد أو حروب عصابات، ثم صدقت أن النظام والمعارضة يشتركان بالاستياء من الأكراد، لكن توقعه أن النظام سيبقى أو أنه انتصر لا يزال محل نظر، إذ إن المشهد الحالي مقسم ما بين شكلين أساسيين: المحلية العالية عبر اتفاقات إقليمية ودولية يتم تنفيذها بوساطة وكلاء محليين، وبدلت المشهد العسكري لتحقيق ضغط سياسي إلى مشهد سياسي لترتيب العنف واحتكاره، والشكل الثاني هو عدم وجود أي نقطة أساسية، سواء في سوريا المفيدة أو خارجها، بدون وجود دولي (روسي أو أميركي أو تركي أو إيراني) على شكل قواعد عسكرية أو جنود أو شرطة عسكرية، بما يطرح السؤال حول معنى انتصار النظام أو هزيمة المعارضة، في ظل هذا المشهد الأكثر تعقيدا من كل التخيلات والتوقعات، والمنفتح على كل الاحتمالات المستقبلية في ظل التشظي العالي بين الأطراف المختلفة، وانسداد الأفق السياسي والاقتصادي على حد سواء.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى