صفحات العالم

الثورة بالثياب النسائية الداخلية

 

ساطع نور الدين

   كان الامل و لا يزال، ان تكون الحقبة الراهنة من الربيع العربي اختبارا للإسلاميين تؤدي الى تفكيك أساطير الدولة الإسلامية وحكم الشريعة ونظام المرشد، وتمهد لعودة ثورة الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية الى أصحابها المدنيين. ما يحصل الان هو العكس تماما، حيث يبدو ان الحالة المدنية العربية هي الأسطورة، التي يمكن ان تنحدر في أي وقت الى مستوى الخرافة، وتعيد خيار الجمهور مرة اخرى الى الثنائية التقليدية  المحكومة بالصراع بين العسكر والمشايخ.

  سنتان واكثر مرتا على حلول الربيع الذي كان منعطفا في تاريخ العرب وثقافتهم ووعيهم، ولم تظهر حتى الان الملامح الأولى لتنظيم او إطار جامع لتلك الشرائح من الشبان والشابات الذين اسقطوا اعتى الطغاة العرب، ووضعوا أسس دولة القانون والمؤسسات والانتخابات.. لكنهم سرعان ما افسحوا المجال لمظاهر ومواقف وسلوكيات استفزازية، تتسبب بغربتهم المتزايدة عن جمهور يتجدد اعتقاده في ان الإسلام السياسي هو ملاذه الآمن.

  في تونس كما في مصر كما في ليبيا، وربما لاحقا في سوريا، معالم لا تمت الى الربيع بصلة. هي اقرب الى الجنون، بل الانحطاط، الذي يسيء الى الحرية الفردية والاجتماعية المستعادة بمبادرة جريئة من المدنيين والديموقراطيين، ويجعل من الإسلاميين حكماء يتمتعون بالوعي والمسؤولية عن أمن بلدانهم واستقرار مجتمعاتهم اكثر من تلك الحفنة من الشبان والشابات الذين تقطعت بهم السبل في الميادين والساحات العامة، وما عادوا يجدون سبيلا للخروج منها.

  في تونس مفارقة عجيبة: يحكم الإسلاميون بالطريقة الأكثر حنكة وعقلانية، فيما يعارضهم إلليبراليون واليساريون باشكال والوان لا يقبلها عقل، ولا يبررها اي منطق، تقوم على تدنيس مقدسات الإسلاميين والمس بقيمهم ورموزهم الجوهرية.. الى ان وصلت في الفترة الماضية الى حد الفضيحة التي تحطم صورة الربيع العربي عندما رفعت صور بشار الاسد في التظاهرات وأطلقت الهتافات الداعمة لنظامه.

  في ليبيا تجربة اشد غرابة: لم يرتق الصراع السياسي الى هذا المستوى، او بالأحرى لم يبدأ مثل هذا الصراع، لان الثورة ما زالت في مراحلها الأولى،حيث يعبر الليبيون عن حريتهم المستعادة بالسير في اتجاهين متناقضين، لا يجمعهما سوى هاجس الانتقام من حكم معمر القذافي، سواء بالتحرر الفردي المبالغ به والمتفلت من القيم الاجتماعية التقليدية، او بالعودة الى الجذور الإسلامية العميقة.. من دون التخلي طبعا عن السلاح ودوره.

  اما في مصر فمأساة حقيقية تنذر بالقضاء على الثورة وكل ما حققته : المليونيات الأسبوعية التي لم تعد تجمع سوى المئات تكاد تفرغ ذلك السلوك الثوري من محتواه، وتجعله مثارا للسخرية، ومنفذا لفئات خرجت من قاع المجتمع المصري، وباتت تتصدر العناوين والصور، وتبدد رصيد الثورة والثوار.. وتمدد الحكم الإسلامي، الذي كان يسقط تدريجيا في وهم تجربته وسوء إدارته.

  في أسبوع واحد ثبت مجددا ان مصر بلد واحد بشوارع متعددة تديرها مجموعات شبابية صغيرة، تفتقد الى جسم سياسي يستوعبها وينظم حركتها الاحتجاجية، التي بلغت من الإسفاف حد رمي العلف الحيواني أمام منزل الرئيس محمد مرسي او التلويح بالثياب النسائية الداخلية الحمراء أمام منزل وزير الداخلية، في تعبير غير مفهوم عن الغضب.. او لامست حد الصراع الأهلي بانجرافها للرد في الشارع على بعض الرعاع الإسلاميين، او بتساهلها مع أصحاب السوابق الذين يحتلون الشوارع، ويروعون البلد كله.

   في مستهل العام الثالث على الربيع العربي، لا يمكن الزعم ان مدنية تونس او ليبيا او مصر على ما يرام او ان ثورتها بخير. إذا استمر الانحدار بوتيرته الراهنة، فان ذلك التيار المدني المفترض انه الاذكى والارقى لن يجد الملابس الداخلية التي تستر عريه الذي كان تحديا فرديا عابرا، لكنه صار تهديدا لثورة لا تزال تتلمس طريقها وتبحث عن ثيابها المناسبة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى