صفحات سوريةعمر قدور

الثورة بوصفها شراً/ عمر قدور

 

 

 

مع انقضاء العام الخامس على انطلاق الثورة السورية، لا بد من الاعتراف بأنها قطعت أشواطاً تبتعد فيها عن حساسية البداية وزخمها. يمكن القول أيضاً بأن المظاهرات الأخيرة التي عادت إلى الساحات، مع ما سُمّي وقف الأعمال العدائية، تستعيد بعضاً مما صار عسيراً استعادته، سواء بتكرار شعارات هي أقرب إلى الأمنيات، أو لجهة استهداف المظاهرات من قبل سلطات أمر واقع جديدة تدلل على أن العقبات أمام الثورة أكبر بكثير مما يُظنّ.

وعلى رغم الاحتفاء المشروع بعودة مظاهر الحراك السلمي، بعد انقطاع قسري، سيكون مشروعاً أيضاً التشكيك في ذلك الحنين الرومانسي إلى زمن انقضى بالفعل، لأنه حنين يراهن على عودة ماضٍ تستحيل عودته على المثال الأول. على صعيد متصل، هو حنين إلى لحظة الصفاء الثوري الأولى، قبل أن تنخرط الثورة فعلياً في أوحال التغيير، وأيضاً في أوحال القوى الممانعة للتغيير. هو، بالأحرى، حنين إلى لحظة الثورة بوصفها خيراً مطلقاً، في حين تقتضي الواقعية الإقرار بأن الثورة هي ذلك الشر، وربما الشر الرهيب، الذي لا بد منه.

في الأصل، من السذاجة توقع مسار غير باهظ، وغير دموي، للثورة. مثل هذا التوقع يصح عندما تكون السلطة واعية لانقضاء زمنها التاريخي، وجاهزة للتسليم أو لإبرام تسوية تاريخية مع القوى الاجتماعية الصاعدة ضدها. ذلك يستلزم سلطة لم تتوصل إلى درجة عليا من التمركز العصبوي، وإلى درجة عليا من احتكار الفضاء العام، الأمر الذي يصحّ الجزم بحدوث عكسه تماماً في سوريا. أما في الحالات العامة، عبر التاريخ العالمي ككل، فقد كان مسار الثورات محكوماً بالمآسي، ومن الخفة الظن بأن الثورات كانت تحدث بين ليلة وضحاها منجزة ذلك التحول الكبير، مع ضرورة التمييز جيداً بين الانقلابات العسكرية والثورات بمفهومها العميق. فالانقلاب الناجح الذي يملك مفاتيح القوة يدلل على أن القوى الصاعدة خطفت أهم مظاهر العنف العام من السلطة الآفلة، على العكس من المثال النموذجي الذي تحتفظ به السلطة بمفاتيح القوة أو معظمها.

الثورة شرّ، من حيث لا بد أن تتسبب بهيجان الشرور الكامنة في المجتمع، والمضبوطة سابقاً بحكم القمع. وفق هذا المعيار، الثورة شر لأنها لا بد أن تستدرج العنف منذ البداية، وسيكون من العسير عليها تفادي الانخراط في دورة العنف المفروضة عليها. لا معنى هنا للقول بأن نظام بشار قد استدرج الثورة إلى العنف بحنكته ودهائه، فنظام بشار والقوى المتحالفة معه لم يلجآ إلى العنف بناء على عبقرية أو دهاء. العنف منذ اللحظة الأولى كان خياراً إجبارياً للنظام بالمعنى التاريخي للكلمة، بالمعنى الذي ينصّ على أن جميع قوى الماضي تواجه حركات التغيير بالعنف.

على الصعيد ذاته، من المتوقع دائماً في مثل هذه الحالات انبثاق قوى الماضي الأخرى، التي يقعمها النظام القائم بحكم ماضويته واحتكاريته معاً، لا بحكم حداثته كما يُشاع. هذه القوى الأصولية ترى فرصتها السانحة في ضعف النظام الذي تتسبب به الثورة، وأيضاً في ضعف الثورة التي لم تتمكن بعد من امتلاك الفضاء العام. ومن المتوقع بقوة أن تنشأ تحالفات مؤقتة أو عابرة بين أطراف الصراع، مثلما ينبغي توقع العكس. الحديث مثلاً عن تنسيق بين النظام وداعش، أو حتى عن خدمات موضوعية قدمتها جبهة النصرة للنظام أو للجيش الحر، هذا الحديث ينبغي ألا يكون مثار استغراب.

في المحصلة، ما ينبغي ألا يثير الاستغراب هو التحالف الموضوعي بين النظام وقوى الماضي كلها، حتى إذا اقتضى بعض التكتيكات ما يخالفها. بالقدر ذاته، ينبغي ألا يثير الاستغراب لجوء القوى الأصولية إلى قمع الثورة، على المنوال العنيف ذاته الذي يستخدمه النظام، لأن العنف أولاً هو وسيلة القوى المضادة للمستقبل. سيكون مفهوماً، إلى حد ضئيل فقط، استنكار أفعال جبهة النصرة أخيراً، على قاعدة استعجالها المعركة القادمة بعد رحيل النظام، لكن من هذا المنطلق يصعب “لومها” على ادراكها لحتمية المعركة المقبلة.

مع استعراض الخسارة السورية الإجمالية، خلال السنوات الخمس، والتي لا تلخصها الإشارة إلى ما يزيد عن نصف مليون قتيل وما يزيد عن مئتي ألف معتقل وأكثر من 11 مليون مشرد، سيكون من البؤس التغني الرومانسي بجمال الثورة، بل قد يكون فعلاً لا أخلاقياً إزاء مجموع المتضررين من حدث لم يكن للبعض يد أو رغبة فيه. من المحتمل أيضاً، وبقوة، أن يشعر بعض مناصري الثورة بالندم على حدوثها، بسبب التكاليف الباهظة، ولأن المسار والمآلات الحالية يبدوان مخالفين للحظة البداية. ثمة خيط يجمع بين رومانسية التغني بالثورة والإحساس بالندامة على حدوثها هو عدم الواقعية، وعدم إدراك الثورة على حقيقتها كفعل تاريخي عميق، بكل ما ينطوي عليه الوصف من تقدم ومن ثمن ملاصق له. النظرة الطهرانية للثورة هي نظرة نخبوية أساساً، ولا تستند إلى الوقائع بقدر استنادها إلى الأدب الرومانسي الثوري؛ بالطبع ذلك لا يعفي الثورة نهائياً من الاشتراطات الأخلاقية.

نعم، من سوء حظنا عموماً أن نعيش كل هذه الأهوال، وأن نعيش الشرور التي أيقظتها الثورة، وإن كان من حظّ حسنٍ فهو سيذهب إلى الأجيال التي ستقطف ثمار التغيير، لا إلى أولئك الذين دفعوا ثمنه الباهظ على الصعيدين المادي والنفسي. لم تندلع الثورة السورية بإرادة مجموعة أو مجموعات ثورية منتظمة، وعدم القدرة على التحكم بها “أو لنقل فوضويتها” دلالة أخرى على بأسها وعلى مستوى البؤس الذي خرجت منه، لكنه من زاوية أخرى حجة على “ثورات” أخرى في الربيع العربي أمكن استيعابها وترويضها بسهولة شديدة. هذا ليس مديحاً آخر، إذ لا توجد شعوب هاوية أو محترفة ثورات، دائماً تكون الثورة ذلك الشر الذي لا مفر منه.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى