صفحات العالم

الثورة في سورية مسألة مصيرية

 


خليل قانصو

حقّ للإنسان في أي بلد عربي كان، بعد انقضاء سنوات طويلة في ظل سلطة نظام لم يتبدل وانطلاقة الانتفاضات وبدء الاعتصامات ضده، أن يتساءل عن مسؤولية الحاكم الذي يرأس هذا النظام في كل ما يقع الآن من تطورات تداخلت تعبيراتها واختلفت الاتجاهات التي تنحو نحوها. فباستثناء السيد بن علي التونسي، الذي اعترف قبل ساعات من رحيله بأنه ‘فهم’ أخيرا ما لم يفهمه طيلة ما يقرب من خمسة وعشرين عاما، كان خلالها الرئيس والآمر الناهي، لم نسمع أن رئيس دولة عربية أقر بالاخطاء التي ارتكبها او استقال من منصبه أو وقف أمام العدالة في بلاده لينال جزاء ما اقترفت يداه. هذا إذا تجاوزنا مسألة كيفية وصول الحاكم إلى السلطة، ثم انصرافه الكلي بعد ذلك إلى استخدام أجهزة الدولة وما في خزائنها من أجل الحفاظ على موقعه. وهذا يعني ضمنيا أمرين، الأول هو سعيه الدائم للقضاء على الذين هم مثله يريدون أن يصيروا رؤساء بالطريقة التي اتبعها، أما الثاني فهو حرصه على توفير الظروف بكافة الوسائل والسبل لوأد الحراك الشعبي احتجاجا ضد توظيف الدولة وإمكانياتها في خدمته وخدمة حاشيته، على حساب المصلحة العامة.

إن أحداثا جساما وأليمة تدور في الراهن، على امتداد الساحة من المغرب إلى شواطئ الخليج العربي، لا يصعب تحديد المسؤولين عنها. فعندما يقتل خمسون مواطنا في مدينة سورية، لا تقع المسؤولية على ضابط الأمن أو على موظف وحده ، وانما تقع أيضا على السلطة التي أنتدبت إلى هذه المدينة ضابطا أمنيا أو موظفا إداريا لا يتحلى بأخلاق رفيعة، ولا يمتلك الكفاءة المطلوبة لتأدية مهامه. وهنا ينهض سؤال حول طبيعة هذا المهام من ناحية، وعن اشكالية لجوء الناس إلى العنف بما هي انعكاس لنوعية العلاقة التي تربط بين هؤلاء الناس من جهة، وبين السلطة من ناحية ثانية. وبكلام آخر، هل توجد وسائل تتيح المشاركة في إدارة الشأن العام بواسطة تبادل حر للآراء غايته انتقاء ما تجمع الأكثرية على أنه الأفضل للجمع الوطني، من دون ممارسة أية ضغوط؟

أما إذا كانت وسائل التعبير ممنوعة والاقتراح محرما، وإذا كان الناس يعانون من ضيق المعيشة، قلقين مما أصابهم من وهن يشجع العدوان عليهم، فإن مسؤولية السلطة عما لحق بهم من أذى بسبب انتفاضتهم، لا تكون موضع شك. فهذه السلطة أخطأت في اختيار ضابط الأمن أو الموظف الإداري الذي تولى معالجة الانتفاضة بعد انفجارها. واستنادا إليه، من المحتمل أن يتكرر هذا الخطأ، طالما لم تتغير السياسة والمبادئ وآليات تعيين الأشخاص في إدارات الدولة وأجهزتها، فضلا عن الاستمرار في عدم مراعاة الجدارة وحسن السيرة في التوظيف والتجنيد والتكليف. ولكن خطأها الأكبر هو في سلوكها نهجا أدخل الناس في نفق مظلم ولم يترك لهم سبيلا للخروج منه، وهو نهج تستسيغه، كما هو معروف، نظم الحكم العربية بوجه عام، لأنه يكرّس مفهومية قديمة رجعية تافهة ومتخلفة للسلطة، تتجسد بقبول فوقية الحاكم كونه ‘وليا للأمر’ تتوجب طاعته وخدمته والصفح عن أخطائه والتستر عن عيوبه، مادام حيا.

طبيعي أن ترتجع هذه الأخطاء مجتمعة، أمام المعنيين، الخطأ الأصلي والجوهري المتمثل في اختيار الحاكم لنفسه حاكما على الناس في بلاده من دون توكيل منهم. ما هي قرائن هذا الحاكم في مواجهة الناس إذا خرجوا لإسقاط مقولة ‘ولاية الأمر’ التي تثير في هذا الزمان لدى شعوب العالم الاستهزاء والنفور؟ هل يستحق شعب الملامة أو القصف بالطائرات والمدافع، لأنه انتفض وثار ضد حاكم مضى على استلامه السلطة سنوات عديدة، فازاداد الفقر وعم الجهل وتفرعن الأعداء عليه؟

لا غلو في القول ان حدثا كبيرا يدور على الساحة العربية. ومن المرجح أن الأمور مرشحة لأن تتفاعل أكثر فأكثر لمدة طويلة يصعب تقديرها. وان أحدا لا يستطيع في الحاضر التنبؤ بما سوف تسفر عنه. ولعل من الدلالات التي يمكن تبينها في هذه المرحلة، هي الدلالة على الخطر الذي يتهدد الشعوب العربية جميعها، ونظم الحكم أيضا التي تعاني هذه الشعوب من نيرها، مما يستتبع بالنتيجة خطرا على الأوطان نفسها. بمعنى آخر اننا حيال خيارين، اما أن تكنس الثورات والانتفاضات العوائق التي تحول دون البناء والتطور، فيصير العيش في الأوطان ميسورا والدفاع عنها ممكنا، واما أن تغرق كتائب أنظمة الحكم هذه الثورات في بحر من الدماء، فيهجر الناس أو يهجروا بالسلاح أو بالدولارات، قبل أن يأخذ الحكام بدورهم طريق المنفى، أو يلقوا مصيرا آخر. وفي خلاصة هذا الموضوع ينبغي أن نأخذ بالحسبان أن البلاد العربية لا تهم المستعمرين بالدرجة نفسها. أقتضب من هذا الاستطراد لأقول بأن موقع سورية على خريطة الشرق الأوسط، وما تمثله في التصدي لمقاومة التمدد الإسرائيلي وفي رفض تصفية القضية الفلسطينية يضعها في الظروف الراهنة، على رأس سلم أولويات المستعمرين. ينبني عليه أن الثورة في سورية هي أكثر الحاحا منها في أي بلد عربي آخر، وان نجاحها ضرورة مطلقة ليس للسوريين وحسب وانما لجميع العرب ايضا.

واستنادا إلى هذه الرؤية، فإن الوقت في سورية ليس لانتصار النظام على الشعب أو لانتصار الشعب على النظام، ولكنه لطي صفحة الماضي نهائيا ومن دون أبطاء، ولاتفاق الطرفين، الشعب والنظام، على البدء بإعادة بناء الدولة على دعائم ترتكز على شرعية ثورية حقيقية، في إطار سيرورة يضطلع النظام خلالها بما يقتضيه الحراك الثوري نحو الأهداف التي يصبو إلى بلوغها، وفي مقدمتها إعادة السلطات التشريعية والقضائية إلى الشعب، واخضاع السلطة التنفيذية لمراقبته ومحاسبته. ان المواطن يدافع عن وطنه بعكس السجين الذي يفكر دائما في كيفية الفرار من السجن والعبد في كيفية التحرر من العبودية.

 

‘ كاتب عربي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى