صفحات سوريةعبدالناصر العايد

الجذري والسياسي في ثورة الشباب العربي


عبدالناصر العايد *

ثمَّة مفارقتان تستلفتان المرء عند تأمل ثورات الربيع العربي المنتصرة؛ أولاهما أن الثورات تلك فجرها وقادها إلى النصر جيل من الشباب طالما وصف بأنه غير مسيّس وسلبي في نظرته إلى العمل في الشأن العام. وثانيتهما غياب الشباب تمثيلاً وبرامج عن المشهد السياسي لما بعد الثورة الذي صنعوه.

والأخيرة تستدعي التساؤل عما إذا كان الثوار الشباب قد وقعوا ضحية تلاعب القوى والشخصيات التقليدية، والأكثر خبرة وحنكة، لتغييبهم عن المشهد السياسي. لكن تركيب المفارقتين معاً يدعو التفكير في ما إذا كانت دوافع ثورة الشباب أصلاً سياسية، وبالتالي هل أن أولويتها الوصول إلى السلطة، أم إلى ما هو أبعد منها بكثير.

ليس لدينا ما يثبت أن شبان الثورة قد تم إقصاؤهم قسراً أو احتيالاً عن مركز صنع القرار السياسي، على العكس هنالك إشارات إلى هروب عدد منهم قصدياً من دائرة الضوء بعيد انتصار الثورة. لسنا هنا أمام نزعة ثقافية ضد – سياسية بين شبان الثورة، وإن كانت النزعة الضد إيديولوجية منتشرة على نطاق واسع بينهم، لكن معاينة ما يكتبونه في وسائل التواصل الاجتماعي تشير إلى نزعة براغماتية واقعية لا تثمن العمل السياسي ولا ترى فيه كالأجيال السابقة، سبيل الخلاص الكلي.

ويؤكد ذلك عدم تطوير الشباب للشكل الكتلي للثوار المحتجين إلى تنظيمات وأطر سياسية كانت بمستطاعهم على رغم غياب النظرية السياسية أو اليوتويبا، فشبان الثورة أثبتوا قدرة تنظيمية رفيعة وديناميكية بوسائل تواصلهم الاجتماعية الحديثة، وكان بوسعهم أن يحشدوا جموعهم وراء شعار سياسي عام ليحجزوا موقعاً سياسياً يمثلهم ريثما يطورون برامجهم وكوادرهم. لكنهم لم يفعلوا ذلك، ولا يبدو أنهم يرغبون بفعله.

إن إطلالة على مدونات الشباب في البلدان التي انتصرت ثوراتها، ومعايشة يومية لثورة الشباب السوري السائرين على الطريق ذاته، تسمح لنا بالقول إن ثورات الشباب ليست ثورات سياسية. وقد تكون السياسة كسلطة اضطهدتهم واستلبت أحلامهم، تقع على رأس قائمة ما ثاروا عليه لا من أجله.

لتقرّي وتحديد أولويات الشباب الثائر، في هذه المرحلة التكوينية العاصفة، لا بد من معاينة حالات ناجزة، خاصة قضية البوعزيزي، نقطة الانبثاق المتعينة والرمزية لثوراتهم. إن ما دفع البوعزيزي إلى القيام بفعله الاحتجاجي الثوري ليس عقيدة أو جهة سياسية، والجوانب التي أثرت بالرأي العام في قضيته وأطلقت موجة الاحتجاجات في أوساط الشباب هي الظلم، والبطالة، والفساد، والإهانة والانتهاك، وانسداد الأفق. وقد استخدم كل ذلك في دعاية القوى السياسية المناهضة للسلطة بهدف إسقاطها والحلول مكانها، لكن الجيل الشباب استخدمها بذاتها لإسقاطها هي ذاتها. يتأكد ذلك بالحالة المصرية التالية للحالة التونسية، فقد عجزت قواها السياسية ذات التاريخ العريق عن مناكفة السلطة عن رفع أي شعار فعال، أو تكريس قضية تثوِّر الرأي العام الشبابي، بينما استطاعت أن تضطلع بهذا الدور قضية الشاب خالد سعيد، التي تشترك مع قضية البوعزيزي في كونها لا تحيل إلى رؤية سياسية، بل إلى قضايا أخلاقية وقانونية واقتصادية واجتماعية، أصابها خلل عميق، أصبح القول السياسي فيها غير كافٍ، ولا يُعبأ له.

وتضيف الخبرة السورية الغنية، على رغم عدم اكتمالها، مزيداً من المصداقية لهذه الرؤية، فالسلطة ذاتها أدركت منذ الأيام الأولى أن مطالبات الشارع السوري جذرية وليست خلافية سياسية، ولم تضع الوقت في أي مسعى سياسي لحل الأزمة، واتجهت مباشرة إلى الحل الوحيد الذي قد ينقذها وهو الاستئصال الوجودي للحالة الثورية من طريق القمع الدموي.

من ناحية أخرى لا يخفى على أي مراقب خاصة من الداخل مدى الانفصال بين القوى السياسية والثوار، وقد رفع هؤلاء منذ أشهر شعار ينفي أن تكون هيئة التنسيق الوطنية، التي تمثل قوى وأحزاب المعارضة الداخلية، تمثلهم. أما المجلس الوطني الذي يذاع خطأً أنه يمثل معارضة الخارج، فهو ليس هيئة سياسية بمقدار ما هو جمعية تمثيلية ليس لها حق التشريع أو التفاوض السياسي من دون الرجوع إلى الثوار الذين اضطروا لمنحه هذه الوظيفة الإجرائية لاستحالة تكوين رأس في الداخل يدير حراكهم.

والسؤال الآن، إن لم تكن السياسة في صلب دوافع الشبان، وليست من أوليات المنجز الذي يطمحون إلى تحقيقه من خلال ثورتهم، فما هي دوافعهم وما هي أولوياتهم؟ ومرة أخرى لا نستطيع أن نركن سوى إلى ما يقدمه الاستنتاج من الوقائع الجزئية نظراً إلى أن الظاهرة التي نتحدث عنها قيد الاكتمال، وفي مقدمة تلك الاستنتاجات أولوية الشأن الاقتصادي المطلقة. فالبطالة المستشرية بين جموع الشباب بمعناها البسيط الذي هو العمل، وبمعناها الأعقد الذي هو إيجاد الذات، تنتصب مثل غول يهدد بدفع الجيل إلى الانتحار. والأولوية الموازية للأولى من حيث الأهمية هي البيئة العامة التي يحيا فيها الإنسان بسعادة، والتي يتحرر داخلها المرء من أكبر قدر ممكن من الضغوط وضروب المنع والحرمان والكبت، أي بيئة الحرية التي تمثل الديموقراطية جانبها السياسي وحسب.

والخلاصة التي يمكن استنتاجها لمنفعة السياسيين، من كل ما سلف ومما يمكن أن يستشرفه التحليل، هو أن الثورات العربية هي حقاً وفعلاً: ثورات. بمعنى أنها لم تقم لدعم لاعب سياسي أو استبداله بآخر، بل لتغير قواعد اللعبة ذاتها. هنالك جدول أولويات يلوح في الأفق، وسلم قيم جديد يعلن عن نفسه بتبديات مختلفة، وقواعد سلوك ستفرض نفسها بالتدريج، وهي جميعاً أشمل وأوسع بكثير من السياسة. وعلى من يتنطع للعمل العام في هذه المرحلة أن يدرك كل ذلك، أو يتلمسه بحدسه السياسي على الأقل. ومن المأمول أيضاً من جيل الشباب أن يقبضوا على مسار ثورتهم ذهنياً وفكرياً لترسيخ المكاسب التي أنجزتها العاطفة والحس الأخلاقي السليم.

من دون ذلك قد نفوت فرصة هذه الثورة أيضاً، أو نضطر للدخول في جولة تكميلية لإنجاز العملية الثورية.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى