صفحات سوريةناصر الرباط

الجلاء السوريّ: في ذكرى ولادة وطن/ ناصر الرباط

 

 

 

قبل سبعين سنةً تماماً، جلا الفرنسيون عن سورية ونشأت دولة حديثة ومشروع وطن. اليوم، الدولة في طريقها للانهيار والوطن ممزق وربما لن يكون ممكناً إعادة لحمته ثانية.

سورية كلمة قديمة. الكثيرون يظنون أنها كلمة إغريقية، ولكنها أقدم من الإغريق. كلمة استقطعت من آشور، وحوّرها اللسان الإغريقي، قبل أن تنطلق غرباً، لكي تبلل أقدامها في مياه البحر الأبيض المتوسط. عاشت لقرون موطناً لدولة سلوقيا. صهرت في ثقافتها تراثات الشعوب التي سبقتها على هذه الأرض وصاغت منها هوية سورية، يونانية الفكر وآرامية الروح. استمرّت بهذه الصفات لقرون عدة لاحقة، في ظل الإمبراطورية الرومانية ثم البيزنطية: جزء من عالم المتوسط الكلاسيكي، وإن كان فيها حنين لاستقلال تجدد التعبير عنه مراتٍ عبر ثورات ومشاريع دول وديانات جديدة بزغت من أرضها لتنير العالم.

تراجعت كاسم عندما أصبحت قلب إمبراطورية عربية – إسلامية. لكنها توسعت كفكرة ومدت فروعها على قارات العالم القديم الثلاث. استقت منها علماً وفناً وأساليب حياة، وأنشأت معها حضارةً جديدة حافظت على صيغتها القديمة: مزج المكونات الحضارية جميعها لتشكيل هوية خاصة. أفسحت سورية المجال للغة الفاتحين العرب لتعطيها اسماً قديماً – جديداً: الشام. لكنها بقيت حيّة في تعريف السريان لأنفسهم وفي حديثهم اليومي، وطبعاً في كتاباتهم. وسافرت معها اسماً لهذه الأرض في لغات العالم الأخرى.

عادت سورية اسماً لأرض محددة مع العصر الحديث وصعود الهويات الوطنية. ربما كان لاستمرار الاسم في الأدبيات الأوروبية دور في إعادة إحيائه. لكنه قطعاً عاد بحيوية مع الإحياء العربي في لحظة تفكك السلطنة العثمانية. حمله أولاً المهاجرون إلى العالم الجديد الذين سموا «سوريين» في أوطانهم الجديدة. ثم اتخذه رواد الاستقلال عن السلطنة اسماً لحركتهم، سورية الفتاة، قبل أن يندمج الذين نجوا من بطش جمال باشا السفاح منهم في الثورة العربية التي بدأها الشريف حسين في مكة.

نجــحت الثورة في طرد العثمانيين، لكنها فشلت في تحقيق حلم الدولة العربية الكبرى. حاول السوريون إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر إنشاء المملكة السورية التي طمحت إلى حكم بلاد الشام. لكن هذا المشروع لم يعمر طويلاً وانهار تماماً أمام زحف الاستعمار. تقاسمت الدولتان المنتصرتان في الحرب العالمية الأولى، فرنسا وبريطانيا، بلاد الشام والعراق وأصبحت سورية دولة تحت الانتداب الفرنسي. انكمشت حدودها، بل جُزئت إلى خمس دويلات طائفـــية أو مناطقية ولواء منفصل، ثم توحدت أربع منها في دولة سورية (بالتاء المربوطة)، ولكنها عادت وخسرت اللواء الذي منحته فرنسا لتركيا وخسرت معه عاصمة سورية السلوقية والمسيحية، إنطاكية، والكثير من ذكريات سورية الكلاسيكية.

جاء الاستقلال في ١٧ نيسان (إبريل) ١٩٤٦. وظهرت الجمهورية السورية كدولة – وطن صغير بترته معاهدة سايكس – بيكو ورشوة الفرنسيين للأتراك، لكنه بقي يحمل عبء تاريخ طويل تتجاوز إرهاصاته وتبعاته حدوده السياسية المعاصرة. بدأت الجمهورية بدايةً واعدةً وإن متعثرة بفعل إرث الاستعمار وقوة الهويات المناطقية والطائفية التي كانت بحاجة لتهذيب وطني. لم تسمح الظروف الدولية أو الإقليمية لهذا التهذيب بأن يستكمل مشواره إلى قلوب السوريين وعقولهم. فقيام إسرائيل واحتدام الحرب الباردة والصراع على نفط الخليج وضعت الوطن الصغير في دوامة أكبر منه ومن إمكانيات سياسييه. فحل العسكر محلهم عبر سلسلة من الانقلابات لم يفقْها عدداً وضرراً إلا انقلابات بوليفيا.

لم تغير تجربة الوحدة مع مصر عبد الناصر حظ سورية مع السياسة. فقد جاءها حزب البعث عام ١٩٦٣ لابساً بساطير العسكر أيضاً. وتربع على الحكم ببنادق العسكر وبطشهم من جهة، وبأيديولوجية عروبية ملتبسة، استخدمها كورقة توت مهترئة لتجنب استحقاقات إدارة الوطن السوري من جهة أخرى. تمظهرت العسكرة والمناطقية كسياسة بطريقة أكبر بعد انقلاب حافظ الأسد عام ١٩٧٠. وتحولت لاحقاً وبمجهود دؤوب إلى عبادة للفرد، طاول تأثيرها كل مناحي الحياة في الوطن الصغير. ظهرت أجيال جديدة زُرع في عقلها الواعي واللاواعي فكرة أن سورية هي سورية الأسد فقط، وأن الوطن يُختزل بالفرد الحاكم الملهم والمتعالي.

لم يغير موت الأب وصعود الابن مكانه عام ٢٠٠٠ تعنّت السلطة أو تمحورها حول سلطة الفرد الواحد المنزهة عن كل سؤال، وإن تغيرت نبرة الخطاب السلطوي قليلاً بفعل صعود الاقتصاد النيو-ليبرالي مكان اشتراكية الدولة والتراجع الحاد للفكر العروبي، خصوصاً بعد الخروج المزري للجيش السوري من لبنان وتأكد دوران النظام السوري في فلك السياسة الإيرانية في المنطقة.

عانت البلاد خلال هذه الفترة كلها من نظام قمعي، تطاول نواسه بين القطري والقومي وعبادة الفرد، ما أضعف فكرة سورية كتاريخ وكجغرافيا متنوعة وكوطن حديث ذي حدود محددة وخطاب وطني واضح. ومع ذلك تمسك السوريون الذين ثاروا على الاستبداد عام ٢٠١١، بسوريتهم خلال المرحلة السلمية من الثورة، قبل أن يدفع بطش النظام الغبي من جهة، وتدخل قوى خارجية مختلفة المشارب والأهواء من جهة أخرى، إلى عسكرة الثورة وتسلط الهويات المناطقية والطائفية والعرقية عليها. وأتى «داعش» بعد ذلك بهوية فوق وطنية أخرى، الخلافة الإسلامية، التي تشارك هوية البعث العربجية وعقيدة نظام الأسد الفردانية في إهمالها للوطني وتفضيلها للخيالي المتصعّد، وفرضتها على جزء كبير من سورية.

ها نحن اليوم، ونحن ندخل السنة السبعين لجلاء الاستعمار وقيام الدولة الحديثة، نجدنا على أرذل حال من القتال والتشرذم. ونجد فكرة الوطن على الدرب للانضمام إلى الحرية والديموقراطية والعدالة، كمفاهيم جميلة كلها، لكنها على درجات متفاوتة من الاضمحلال على أرض هذا البلد الذبيح.

لكننا، ونحن نندب تراجع هذه المفاهيم كلها، يجب أن نذكر أنفسنا بأن سورية ما زالت تدل على المكان ذاته والناس أنفسهم والتاريخ ذاته، وأن استعادتها يجب أن تتم من غير حنين إلى الماضي، ولكن بوعي كامل به.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى