صفحات الثقافة

الجمعة التي تبحث عن اسمها

 


نبيل سليمان

ذات ظهيرة ربيعية من شهر آذار المنصرم، كنا متحلقين حول طاولة في مقهى البستان في اللاذقية، نقلّب القول في ما كان قد أخذ يصخب في البلاد منذ أسبوع، وقبالتنا، ولكن على رصيف المقهى، كان آخرون في مثل حلقتنا، وربما في مثل حديثنا. وفجأة رأيناهم يغادرون مسرعين، بينما كان أحدنا يتلقى هاتفاً ينصح بالعودة إلى البيوت فوراً.

كنا صرنا على الرصيف مبلبلين عندما أدركنا أن تظاهرة انطلقت غير بعيد. ولم أتردد لحظة: سأرى بعينيّ هذا الذي بدأ يطنّ في أذني منذ أسبوع من أنباء التظاهرات. وقال ثائر ديب – الكاتب والمترجم: سأمضي معك، بينما غادر الآخرون إلى البيوت.

مشيت وثائر إلى ساحة أوغاريت. المدينة هادئة أضعاف عادتها في يوم العطلة. ليس من سيارة أجرة أو خاصة تعبر في وسط البلد، حيث نحن. وها هي ساحة أوغاريت نفسها، حيث تردد في المقهى أن التظاهرة تملأها، هادئة. ثمة عابرون قليلون ومتباطئون، وثمة ما يعيق السير في مفارق الساحة، وثمة لوحة إعلانية كبيرة في وسطها، محطمة.

إنها آثار التظاهرة إذاً، وتلك هي في الاتجاه المعاكس – استدرنا – قرب نهاية شارع القوتلي، ولا بد أنها تمضي إذاً إلى ساحة الشيخ ضاهر القريبة: كذلك قدّرنا، فعدنا عبر ما يخص الصاغة من شارع المالكي، ثم انعطفنا إلى شارع هنانو: ها هي الساحة الموعودة.

كانت صلاة الجمعة قد انقضت منذ ساعتين، عندما رأيناهم قادمين يهتفون. كانوا جمهرة من الشباب – لا أظنهم كانوا مئة – يحفّ بهم عناصر وضباط من الشرطة. ولما توقفوا جميعاً قرب تمثال الرئيس الراحل حافظ الأسد، كان هتاف المتظاهرين يفتدي درعا، ويفتدي الشهيد، وينادي الحرية والوحدة والوطنية. وكان عليّ أن أصدق عينيّ وأذنيّ، فآخر عهدي بالتظاهرة المعارضة كان زمن انفصال سورية عن مصر، وانهيار الجمهورية العربية المتحدة في أيلول – سبتمبر عام 1961.

كنت يومئذٍ واحداً من طلاب الثانوية الصناعية، الذين يملأون مع طلاب ثانوية جول جمال كل ضحى تقريباً ساحة الشيخ ضاهر، يتحدون الشرطة ويهتفون لجمال عبدالناصر والوحدة. لكنني بعد خمسين سنة وقفت وثائر ديب على رصيف قسم الشرطة بين آخرين، منهم من كان يحمل عصياً غليظة بلباسٍ مدني، وكانت جزيرة التمثال تفصل بيننا وبين المتظاهرين. ولا أحسب المرء يحتاج إلى كبير ذكاء ليقدّر أن حملة العصي هم من عناصر جهازٍ أمني ما.

بعد نصف ساعة غادرنا مشياً إلى حارتينا البعيدتين. وما إن ابتعدت ساحة الشيخ ضاهر حتى ظهرت جمهرة صامتة من المدنيين. وباقترابنا منها تبيّن أنها تحمل صوراً لرئيس الجمهورية، وتخفي عصياً خلف الظهور. تجاوزنا هذه الجمهرة الأكبر من جمهرة ساحة الشيخ ضاهر، وإذا برتل من الشاحنات البيضاء ذات النمرة الخضراء – أي حكومية – يدابر الجمهرة. ولا يحتاج المرء إلى كبير ذكاء كي يقدر أن هذه الشاحنات هي التي جاءت بهذه الجمهرة، وها هي تنتظر أن تعيد أولئك الشباب من حيث جاؤوا، والله أعلم.

في الجمعة التالية، أي في اليوم التالي لكذبة نيسان المنصرم، مضيت مبكراً إلى بيتي الريفي في قريتي (البودي)، أي لجأت إلى مكتبتي وعزلتي، خوفاً من أن أتحول إلى كائن تلفزيوني، شأني منذ ثلاثة أشهر، أي منذ كرّت السبّحة: الثورة التونسية، فالمصرية، فالليبية، فاليمنية. لكن الهاتف عاجلني بعد صلاة الجمعة بأخبار مقلقة من أهلي وأصدقائي في جبلة وفي اللاذقية، فكابرت حتى الغروب، ثم استسلمت لهواجسي ولتحذيرات الهاتف: لا تنم في القرية. وأسرعت إلى جبلة لأزور والدتي في طريقي إلى اللاذقية. لكن حاجزاً أمنياً منعني من دخول جبلة. ولم يكن الأمر في مدخل اللاذقية أهون. سوى أن الحاجز هنا كان مواكب من السيارات المدججة بالشبان والأعلام والصور والأبواق والهتافات، كما كان الحاجز متحركاً، فزججت سيارتي فيه ساعة بطولها، لتقطع أقل من ألفي متر بين مدخل المدينة وبيتي. وسرعان ما أدركت أن أوصال المدينة تتقطع، وأن (الشبيحة) – أي البلطجية في مصر، أو البلاطجة في اليمن – يصولون فيها ويجولون رافعين شارات النصر، فأطبق الضيق عليّ. وبعد حين، عندما أخذ الرصاص يلعلع، خفت من المدينة، وخفت عليها، ولبثت مشبوحاً في ليلها حتى سرى في روحي همسها، يذكرني بالجمعة الفائتة، ويلوح بالجمعة المقبلة، ويسألني أن أبحث لكل جمعة عن اسمها.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى