حسان شمسصفحات مميزة

الجَولان المحتل: صراع إرادات أهلية وسباق تخريب محموم بين العدوّ والنظام!


حسان شمس()

إنه لمِن سخريات القدر وغاية المرارة، أن يعيش المرء تحت سطوة احتلال إسرائيلي غاشم حالة استقرار تزيد عما يعيشه شعبه داخل الوطن! فعام ويزيد، وماكينة إجرام النظام السوري تُعمِل قتلا وتدميرا وتهجيرا واعتقالا في أربع جهات الوطن؛ فيما عيون الجولانيين، كما هي على الدوام، شاخصة إلى بلدهم وشعبهم منذ وطأت أقدام جنود العدوّ أرضهم.

أهالي الهضبة المحتلة، الذين سطّروا أروع ملاحم البطولة في صراعهم الطويل والمرير مع العدو الإسرائيلي، ولم يتركوا قضية عادلة إلا وقفوا إلى جانبها، مِن فلسطين إلى لبنان فالعراق؛ هم أنفسهم، أو إن استقام القول بعض مَن جيّر لنفسه منهم سلطة لا يملكها؛ ارتأوا تقبيض عذابات الأهل وتضحياتهم ومواقفهم المشرّفة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبالمجّان، إلى غير مستحقيها في وطنهم! وإلا، فكيف يستقيم لِمَن قاوم ظلم الاحتلال وقهره، طيلة تلك السنين، أن يزكّي ظلماً آخر أشدّ مضاضة في وطنه؟

مِن النافل التذكير، أنّ مَن يدعمون الثورة في الجولان المحتل جهارا، نظّموا العديد مِن النشاطات والمظاهرات نصرة لها، وكانوا أول جهة، داخل الوطن وخارجه، تصدر بيانا واضح اللهجة عقب أسبوع على اندلاعها، رسمَ سقوفا مرتفعة وصل إليها الثائرون في وقتنا الراهن. لكن الصحيح أيضا، أنّهم ظلوا شريحة محصورة العدد، مورست عليها كافة أشكال التخوين والمضايقات والاعتداءات مِن قبل تيار أعمّ، تمادى المتطرفون فيه في ابتداع فنون الرقص على دماء شعبهم المذبوح وعذاباته، وتقديم قرابين الطاعة والولاء لنظام لم يكتفِ بالتخلي عن الجولان عام سبعة وستين في ظروف ملتبسة وحسب، ولا ببيع الجولانيين والشعب السوري عموما وعود تحرير مؤجلة مِن غير رصيد لأكثر مِن أربعة عقود؛ بل سجّل إخفاقا بمجمل القضايا التي ظل يتاجر ويقرقع بها، إلا في تصحير كل يا يمتّ إلى الحياة الإنسانية والسياسية في سوريا بصلة وإعدامها؛ ما جعله يمثّل كارثة وطنية، بكل مقياس، في عيون مَن ثاروا عليه وكثيرين غيرهم.

جمعة «بروتوكول الموت» في سوريا، كانون أول المنصرم، والتي كانت مجدل شمس المحتلة إحدى ميادينها، إذ شهدت مظاهرة لمؤيدي الثورة؛ صدحت فيها الحناجر لحرية الوطن وإسقاط النظام؛ شكّلت نقطة تحوّل بالغة على الساحة الجولانية، إن لجهة ترسيخ الانقسام والفرز بين مؤيّدي النظام ومعارضيه، أو لناحية فضح نزق أتباع النظام واحتياط البلطجة الجاهز لديهم للاستخدام بوجه كل رأي مخالف.

مِن «مآثر» نظام دمشق، أنه نجح أخيرا في ما عجزت إسرائيل عن فعله طيلة أربعة وأربعين عاما، لجهة شرخ المجتمع الجولاني، أفقيا وعاموديا! فلم يسبق لأهالي الهضبة المحتلة الذين وقفوا، منذ بداية الاحتلال، صفا متراصّا في وجه مخططاته الرامية إلى سلخهم عن انتمائهم السوري، رغم كل ما عصف بهذه المنطقة مِن تجاذبات وصراعات استقطاب، أن لجأوا إلى العنف لفضّ إشكالاتهم وفرض أجنداتهم على بعضهم البعض. فمحازبو النظام، الذين أقاموا العديد مِن مظاهر التأييد له من دون أي تدخّل مِن أنصار الثورة، لم يكتفوا بالاستهانة بالدم السوري المسفوح، ومحاولة تظهير مواقفهم على أنها المعبّر الحصري عن إرادة الجولانيين، في مسعى سافر لتزوير إرادة الأهالي، بل اعتمدوا كل صنوف التشهير والتهديد والإرهاب ومحاولة إقحام الهيئة الدينية للضغط على المعارضين وكم أفواههم، لمنعهم مِن إبداء أي تعاطف مع الثورة. وأخيرا وليس آخرا، ممارسة العنف الجسدي ضدهم؛ في مظهر «تشبيحي» لم يسبق لقرى الجولان المحتل أن عرفت له مثيلا. هذا عدا حملات التشهير المنظّمة والتحريض التي يشنّها أتباع النظام بحقّ الأسير المحرّر وئام عماشة، والاعتداءات المتكرّرة على منزله، جرّاء مواقفه الداعمة للثورة ورفعه الصوت عاليا بوجه النظام.

قد يجد المراقب للشأن الجولاني مسوّغا مفهوما (رغم لا أخلاقيته) لمن ربطوا مصيرهم، منذ زمن بعيد، بمصير النظام، وهم مقتنعون بالفعل برواياته التي ما انفكوا يلوكونها، وبأحقّية خلوده، واستمروا بالعمل على الساحة الجولانية بما يشبه «تكليفا شرعيا» منه؛ أو لبعض الموالين لاعتبارات نفعية، ممّن خصّص النظام لهم رواتب شهرية لقاء تضرّر مصالحهم تحت الاحتلال، أو لأولئك الذين قرأوا مِنح طلبة الجولان المحتل في جامعة دمشق وتصريف محاصيل التفاح الجولاني في الأسواق السورية على أنها (مكرمات مِن القيادة)، لا على كونها واجبا على دولتهم الأم لدعم صمودهم في أرضهم المحتلة، وأنها في المحصلة تأتي مِن جيوب دافع الضرائب السوري لا مِن جيوب النظام نفسه. وقد يلحظ أيضا تحفظات البعض المستندة إلى التفكير بذهنية أقلّوية وما ينتج عنها مِن مخاوف، مبالغ فيها غالب الأحيان! علاوة على مَن يشكّل الاحتلال لديهم حساسية مفرطة، أدّت إلى ما يمكن تسميته بـ «فوضى مشاعر وطنية»، دافعة بهم إلى حصر الانتماء للوطن مِن بوابة الولاء للنظام فيه. أمّا أن تتصدّر بعض الشخصيات الجولانية الموسومة بتعاملها الموصوف مع الاحتلال الإسرائيلي، والمفترض أنها منبوذة اجتماعيا ووطنيا واجهة المهرجانات والمسيرات المؤيّدة للنظام، فذلك مبحث آخر، لن يتّسع له المقام في هذه السطور القليلة.

مِن دون شك، أنّ أميز ما قدّمته الثورة، هو تكثيفها مشهدا تراجيديا سوريا طويلا، يعيشه الشعب منذ خمسين عاما ببضعة أشهر؛ إن لجهة إماطة اللثام عن عذابات السوريين وهول معاناتهم، أو لناحية كشف النظام عن وجهه الحقيقي وفائض الوحشية والإجرام الذي يتصف به. والحال، فأن يخوض نظام دمشق حرب «يا قاتل يا مقتول» داخل الأراضي السورية، رغم لاأحقيّتها ولاأخلاقيتها؛ فذلك لا يبدو بالأمر المستهجَن أو الشاذ عن ثقافته التي انتهجها منذ اليوم الأول لاختطافه الحكم؛ أما أن ينقل إستراتيجيته تلك إلى الساحة الجولانية المحتلة، دون الأخذ بالحسبان خصوصية هذه المنطقة، المتمثلة في خضوعها لاحتلال إسرائيلي منذ ما يقارب نصف قرن؛ فذلك يتجاوز كل مقاسيس الخسّة الأخلاقية والنذالة السياسية والوطنية!

لكن على المقلب الآخر، مَن ذا الذي يعطي نفسه حق الادّعاء أن غالبية أهالي الجولان المحتل يدينون بولائهم المطلق للنظام!؟ ومَن هو الذي يمتلك قدرة على قياس رأي عام لمجموعة ما في أجواء مشحونة بكل صنوف الضغط والإرهاب والتخويف، وفي ظل وجود مئات الأسر الجولانية التي لديها أبناء يدرسون في جامعة دمشق، علاوة على مئات العائلات التي شتّت الاحتلال شملها عام سبعة وستين بين الوطن والجولان المحتل، إضافة إلى تلك المحاذير التي ظلّت، غالب الأحيان، تتحكم بمسارات ما يُعرَف بالأقليات ومصائرها، سيّما أن نظراءهم في السويداء وجبل الشيخ لم يحسموا موقفم لصالح الثورة بعد؛ خلا بعض النخب والنشطاء، وذلك جرّاء ما انتهجه النظام بحقهم لعقود، مِن سياسات التهميش والتفتيت والقهر وشراء ضمائر بعض المتنفذين، ضمانا لإحكام قبضته عليهم، وجرّهم إلى قتال أهلهم واستخدامهم وقودا «لمعارك التحرير» التي يخوضها راهنا ضد شعبه وبلده؛ تماما على نسق ما فعلته إسرائيل بدروز فلسطين تحت يافطة حمايتهم، وأخفقت في تطبيقه على الساحة الجولانية!؟

ما ضاعف حظوظ نجاح العابثين في هذا المضمار وزاد مِن تأثير تلك الحسابات والاعتبارات، أنّ «أشباه الدول» التي ابتُليت بها شعوب المشرق العربي، عبر تسلّط ديكتاتوريات على بعض دوله عجزت عن توفير حد أدنى مِن الشعور بالأمان لشعوبها، سيّما الأقليات منها، الأمر الذي دفعها إلى زيادة الانعزال والتقوقع، واعتماد الخلوة والكنيسة والجامع والحسينية ملاذا أوحد لها وملجأ أخيراً. لكن في السياق عينه، ورغم كل ما سيق، فإن ما لا يمكن تبريره أو التسليم به، هو استفزاز بقية مركبات الشعب وتحديها واستعدائها، أو الاستقواء عليها بأنظمة شمولية مترنحة زائلة، اختارت ألا تحاكي شعوبها إلا بلغة الحديد والنار؛ ما قد يرتّب آثارا سلبية، وربمّا مدمّرة، لن يكون مِن السهل تخطّيها لأجل بعيد.

خطيئة النظام السوري الكبرى وما فاقم الوضع على الساحة الجولانية، أنه لم يوفّر حتى أهالي هذه القرى المحتلة، مِن دائرة عبثه الأمني والطائفي. وذلك تجلّى، على سبيل المثال لا الحصر، بالجهود الجبّارة التي بذلها على صعيد حرق وليد جنبلاط (درزياً) يوم كان صقرا في حركة «14 آذار»، عبر استحضار وئام وهّاب، غير مرّة، إلى تلّة الصيحات على خط وقف النار، شرقي مجدل شمس المحتلة، حيث يتخاطب الأهل في الجزء المحتل والمحرر بواسطة مكبرات الصوت، وإتباع ذلك بزيارات لكل مِن طلال أرسلان وسمير القنطار لذات الغرض؟ زد على ذلك حضور وهّاب الدائم في استقبال مشايخ الجولان المحتل أثناء زياراتهم السنوية إلى مقام النبي هابيل في سوريا، والتخريب المنظَّم الذي يمارسه، راهنا، في جبل العرب وجرّمانا وقرى جبل الشيخ، والذي ارتفع منسوبه، بصورة فضظة، بعد إعلان زعيم المختارة انحيازه المطلق للثورة السورية. ترى، هل كان لجنبلاط أن يُفسِد على النظام مساعيه أو الحد مِن تأثيرها، سواء في الجولان المحتل أو جبل العرب؟ كثيرة هي الأسباب التي تدعو إلى الاقتناع بذلك؛ لولا «انعطافته الدمشقية»، عقب «غزوة أيار»، التي وإن نجحت في تخفيف الاحتقان المذهبي في لبنان، لكنها أفقدته الكثير مِن وزنه ومدى تأثيره في الجوار.

بقي القول، إنّ أهالي الجولان، ورغم سنوات الاحتلال الطويلة والعجاف، ومحاولات الأخير الدؤوبة لفصلهم عن عراهم وأبناء جلدتهم، ظلوا على الدوام مشدوهين لدولتهم الأم ومنغمسين بكل تفاصيلها. فهواجس كثيرة وتساؤلات تدور في خلدهم هذه الأيام، عمّا ستؤول إليه أحوال وطنهم؛ إذ لسوريا في ذمّة إسرائيل ما مجموعه 1250 كم2، واثنين وعشرين ألفا مقيمين تحت الاحتلال، إضافة إلى نصف مليون مهجَّر داخل الوطن. صحيح أن منطق الكثيرين هنا يدفعهم إلى التفاؤل والاستنتاج، أنه بمجرّد زوال كابوس النظام عن صدور السوريين سوف يجعل قضية تحرير الجولان تحصيل حاصل؛ لكن ذلك ربّما يمتد لأجل غير معروف، ريثما يكون الوطن استعاد عافيته. فمخاض الحرية الذي يشهده الوطن، رغم بشاعة ما يرتكبه النظام وهوله، والدم الغزير الذي يُسفَك ظلما، لا يمنع الجولانيين مِن محاكاة همومهم الخاصة والتفكير بطبيعة النظام المقبل، وصورة تعامل الوطن المستقبلية معهم كأبناء أرض محتلة.

() صحافي/ الجولان السوري المحتل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى