صفحات الرأي

خيار بلا خيار/ عباس بيضون

 

 

في عز الحرب اللبنانية جازفنا بالوقوف بعيداً عن الصراع وأن لا نكون مع أحد. لم يكن اختياراً يسعنا طرحه على الجمــيع. لم يكن له نموذج عملي. رغم ذلك، نحــن الذيــن تحمسنا للحرب في أولها وجدناهــا غير ما تلقنا أنها عليه، نسبنا إليها أغراضاً وصفات لم تكن حقاً فيها. حملتنا على ذلك مخيلة فصــامية ليســت غريــبة على المثقــفين، ففي اللعبة الإيديولوجية مجال واسع لقــلب الأشــياء واختراعها. وفي اللعــبة الإيديولوجــية يمكن اختلاق أهداف وتركــيب عناويــن لما ليس مهيأ لها. واللعبة الإيديــولوجــية خطــيرة بحيث يرسخ في عــقل المــرء ما ليــس له منطــق ولا سياق.

في عز الحرب اللبنانية توقفنا عن الحماس لها، وانكشفت لنا اللعبة فبدت الأغراض غير مطابقة والعناوين منحولة والأشياء في حال أخرى ولها مرامٍ ثانية وأهداف معاكسة فسميناها «الحرب القذرة» وأنكرناها واعتبرناها طاحونة دموية فحسب. قيل لنا ولأمثالنا «من أنتم وما هو قراركم وعلى من تقترحونه، ألستم ترون الأرض مشتعلة والصراع مستشرياً فماذا يغيّر أن تقفوا خارجاً وماذا يفعل انكفاؤكم. إنه اختيار لأنفسكم وليس لأحد، وأنتم فرادى ومتفرقون وما تفعلون ليس سوى الاستقالة والتبطل». لم يكن لدينا جواب إلا أننا بذلك متوافقون مع أنفسنا وليس لموقفنا سوى دلالته الأخلاقية.

أتذكر ذلك لأنها ليست المرة الأخيرة التي نواجه فيها التباساً كهذا، ونؤثر الخروج من الازدواج والتناقض، ولا يكون لخروجنا أي نموذج عملي ولا أي عاقبة سياسية. تحمسنا للربيع العربي أو هكذا كانت تسميته، كان مفاجئاً بقدر ما كان بديهياً. لقد جاء بعد فترة بيات تاريخي طالت حتى صرنا عنصريين ضد أنفسنا وبحثنا عن الأسباب في أوليتنا وأصولنا وكرهنا بالطبع ذواتنا. كان الانفجار لذلك أشبه بظاهرة طبيعية تأخر حصولها وربما هذا ما جعلها تحدث مزلزلة مدويّة. ما تختزنه وما يتململ فيها وما ركد من أجيال، كان هائلاً وعظيماً بحيث انشق عنه غبار ونيران صعدت إلى السماء، وبحيث خرج من داخله صهير وعفن كثير. قلنا في البدء إن هذه العواصف والصواعق هي ما تجمع وما ركد قروناً بعد قرون. قلناها ونعيد قولها فالبيات التاريخي كان احتقاناً عاش أجيالاً، وحينما ثار أفرج عن كل ما فيه، قلنا وربما نعيد قولها، إن ما حدث كان لا بد منه وأن الانفجار الذي يقذف صهيراً وحمماً وكبريتاً وعفونة من قاعه السحيق لا بد أن له أمده وله وقته، ولا بد من أن ننتظر وأن لا نتعجل ولا نحرق المسافات ونحرق المُدد. ذلك الكلام وحده باعث على الأمــل بل نحــن نشتري به أملاً، ولسنا نكذبه فهــذا ما يعلمــنا إيــاه التــاريخ. ليس تاريخــنا فحســب ولكن تواريــخ الشعوب إذ لم نــصل في يــوم إلــى أمــــان أو نخــرج إلــى أمـــان إلا بعــد أن نخــوض بحــراً من الألــم، وبعــد أن نمــر بنكــبات وكــوارث وفجــائع لا تُحــصى.

لا نمتدح هكذا الكارثة لكن الوصول يقتضي المرور بها، إن قروناً من الركود لا تذهب بنسمة ولا تذهب خلسة. لا بد أن صراعاً قاسياً سيقوم مكانها، ولا بد أن طبقات عميقة ستخرج هكذا إلى السطح، ولا بد أن ما حبل به القاع سيظهر وما اختزنه سيخرج. لا نمتدح الكارثة بأي وجه وعلى أي نحو، لكننا نعرف أنها ممر إجباري وأنها قد تكون جسراً إلى المستقبل. لكننا بالطبع لا ندري في أي وقت سيكون الوصول وبأي طريقة نبلغه. لنا أن ننتظر فحسب وأن نملك نعمة الصبر على الانتظار.

هو إذن وقت انتقالي، وقت من التعالق والالتباس، وقت للثوران والزلزلة وليس في كل الأحوال وردياً أو شائكاً فحسب. إن له ديناميته وإشكالاته ومسائله وأسئلته. وقد يتراءى أننا لا نستطيع أن نقف متفرجين، وأن علينا أن نختار مهما كان الصراع، علينا أن نختار بين قطبين مهما تعادلا في السوء، فلا بد أننا بحساب ما قد نصل إلى الفرز بينهما. ذلك أن الصراع لا ينتظر. إنه مستقطب الجميع والمتفرجون فيه ولو أبوا. لقد تخلوا هكذا عن الجهة التي بدأوا معها فجعلوا بذلك درجة للخصم عليها. ثم هناك من لا يرون جدوى من الوقوف جانباً، ثمة تاريخ يقوم ولا يجدي أن نتجاهله. هذه كانت بالطبع حجة كثيرين لعبوا ضد أنفسهم، ولا يمنع ذلك أنهم سقطوا في معركة ليست لهم أو ندموا على أنهم خاضوها.

إنه جدل ليس فيه رابح فالأسوأ قد لا يقابله إلا الأسوأ والفرز بينهما قد يكون مستحيلاً، ولن نصل بالتأويل والمواربة إلى شيء. ليس الوقوف جانباً منجاة بأي معنى وليس خياراً عاماً فهو في الغالب شخصي، وإلا فكيف نميز بين «داعش» والنظام، وكيف نميز بين الحوثيين والمملكة السعودية وبين الحكم الإسلامي والعسكري، أيهما السيئ وأيهما الأسوأ وأيهما الأقرب إلى المســتقبل التعددي الديموقراطي، لن يكون لنا رأي والأصح أن لنا رأيا لا ينفع في الوصول إلى خــيار، ولا يصح معه أن ننحاز وأن نفرز السيئ من الأســوأ، كما هي عادة التاريخ فثمة أوقات وظروف ليــس فيــها مجال لعادة كهذه، وربما ليس فيها تاريخ أصلاً، ودعك من الخيار الإجباري فهو أكثر استبداداً من اللاخيار.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى