صفحات العالم

الحدث السوري بعيون عراقية


علاء اللامي

إنّ الراصد المحلل لردود الأفعال العراقية على الحدث السوري الكبير المتمثل بالانتفاضة الشعبية المستمرة منذ أشهر، قد يخرج بعدة انطباعات متشابهة من حيث المظهر ولكنها ستكون مختلفة بعمق من حيث جوهرها ودلالاتها. فإذا كان بعض الرسميين في حكم المحاصصة الطائفية في بغداد، لا يخفون سرورهم بما يحدث من تدخلات خارجية، غربية وأميركية وعربية، في الدول التي امتد إليها الربيع العربي ومنها سوريا، وهو “سرور” نابع من تمني التشابه في السوء لا من منطلق التفاخر بعكسه، فإنّ غيرهم، في الأوساط الشعبية خصوصا، لا يخفون ارتيابهم وخشيتهم مما ستجره هذه التدخلات الغربية من ويلات على شعوب تلك البلدان.

وزير الخارجية هوشيار زيباري، عبَّرَ عن شيء من هذا “السرور”، لا بل أنه أعطى لنفسه الحق في توجيه الدروس للآخرين ودعوتهم للاستفادة من تجربة نظامه الغنية – وهي غنية فعلا لكن الخيبات والكوارث – بقوله ( شخصيا، أعتقد بقوة أن الربيع العربي ما كان ليأتي لو كان الرئيس السابق صدام حسين ما زال في الحكم) مؤكدا ( أنَّ لدى العراق الكثير مما يمكن أن يقدمه لدول مثل تونس ومصر وليبيا، وكلُّ واحد من هذه البلدان يجب أن يمر بنفس المراحل التي مررنا بها..) الأكيد، هو أنّ كثيرين في ليبيا وغيرها سيتمنون أنْ ينجيهم الله من عواقب “الديموقراطية الأميركية” كما تجلت في العراق و أرجعت العراقيين إلى العصر الحجري، والشواهد والدلائل أكثر من أنْ تحصى!

ورغبة منه في تعميم الإثم، و بأي طريقة كانت، يتطوع زيباري ليخبر مستمعيه بأنه يعرف جيدا بأن (القوات الغربية قاتلت إلى جانب المعارضين الليبيين) إنّ تدخل القوى الغربية في الحراك الشعبي الليبي لم يعد سرا من الأسرار، وقد دمر هذا التدخل الكثير من الأهداف التي تدخل في إطار الممتلكات والثروات الوطنية الليبية، كما أنه أسقط الآلاف من القتلى والجرحى من الليبيين، سواء كانوا من قوات نظام الدكتاتور القذافي أو من قوات معارضيه أو من المواطنين الليبيين العاديين، وما عادت المفاضلة بين تدخل عسكري بري كالذي حدث في العراق، وآخر جوي وبحري كالذي حدث في ليبيا، ذات معنى، فالتدخل الأجنبي المسلح حدث فعلا في كلا البلدين، وهاهم العراقيون اليوم – والليبيون وغيرهم غدا – يعانون من سرقة ثمرة كفاحاتهم ضد الدكتاتوريات المحلية طوال عقود وحرفها باتجاه مصادرة المستقبل وفرض نموذج في الحكم يكرس التبعية للغرب الإمبريالي ويقوم على المحاصصات الطائفية والعشائرية والجهوية لتأبيد التخلف والفقر والتبعية.

اختلفت ردود الأفعال العراقية على الحدث السوري بحسب مصادر المكونات الاجتماعية العراقية الصادرة عنها. فالكرد، وبخاصة الناشطون الشباب منهم، تظاهروا وأعلنوا عن تأييدهم للانتفاضة السورية بكثافة غاب عنها التمثيل الحكومي الرسمي، تضامنا مع بني جلدتهم الكرد السوريين بالدرجة الأولى. أما الغالبية العراقية العربية، فقد صدرت عنها مواقف مختلفة إلى درجة التناقض: المنظمات والحركات والشخصيات السلفية السُنية تضامنت مع الانتفاضة السورية وهاجمت نظام الأسد بعنف لبواعث أيديولوجية سياسية تتعلق بعدائها التقليدي للبعث عموما، أكثر من استنادها لبواعث أخرى. بعض القوى العشائرية في المنطقة الغربية جاهر بعدائه للنظام السوري وتضامن مع الانتفاضة لأسباب تعود إلى خلافات وحسابات قديمة وحديثة بين القوى العشائرية هنا وذلك النظام حتى أن أطرافا منها اتهمته بالوقوف وراء مجزرة “النخيب” الأخيرة. القوى البعثية والقومية العراقية التقليدية التي تتخذ من سوريا ملاذا لها منذ غزو العراق وانهيار نظامها اختارت الصمت وعدم الإدلاء بتصريحات علنية مؤيدة للنظام أو للمعارضة السورية إلا ما ندر، غير أن ما تسرب عن مواقفها السرية صبَّ في صالح تضامنها مع النظام بفعل “الأخوة الأيديولوجية” و الحماية والرعاية اللتين يقدمها نظام البعث السوري لها. ولم يصدر أي موقف عن قوى وشخصيات محسوبة على معسكر مناهضة الاحتلال ومقاومته وهي التي عرفت بزياراتها المكوكية إلى الرئاسة السورية فلم تُدْلِ بأي موقف، ولعل النموذج الأبرز لهذه القوى والشخصيات هو الشيخ حارث الضاري رئيس هيئة علماء المسلمين العراقيين وشخصيات أخرى مقيمة في الأردن ومصر وسوريا ذاتها.

ثمة شيء من الانسجام يمكن أن يلمسه الراصد للمواقف العراقية على جهة ردود أفعال الأحزاب والقوى الإسلامية الشيعية، فالتعاطف هنا قوي مع النظام السوري مع أنه غير مصرح به تكرارا. وقد فُسِّرَ تفسيرات شتى: البعض فسَّره بتبعية هذه القوى لإيران الحليف الأول لنظام الأسد وهذا ما ينطبق فعلا على مواقف بعض الأطراف الإسلامية الشيعية الموالية لإيران. آخرون فسروه بالخوف من صعود قوى سلفية سنية سورية ذات نزوع طائفي إلى الحكم في دمشق ما سيشكل تهديدا لحكم المحاصصة الطائفية الذي تقوده هذه القوى الإسلامية الشيعية، مستشهدين بحادثة إطلاق المعارضة السورية على واحدة من مجموعتين مسلحتين لعسكريين منشقين اسم “فرقة معاوية بن أبي سفيان” كدليل على جدية التهديد السلفي والطائفي، نظرا لما يثيره هذا الاسم من تداعيات في المخيال الطائفي الجمعي في العراق.

المواطن العراقي العام، والبسيط، وبغض النظر عن المكون الاجتماعي الطائفي أو العرقي الذي ينتمي إليه، ينظر في الغالب بتعاطف عميق لسوريا وللشعب السوري ككل. فانطلاقا من تجربة اللاجئين والنازحين العراقيين الممتدة لعدة عقود في سوريا وغيرها، يفضل هؤلاء التعامل والعيش في سوريا على ظروف العيش في بلدان أخرى كالأردن مثلا، والأسباب كما يبدو لا تخلو من رائحة التمييز الطائفي الحادة والذي يلمسه العراقي على الحدود الأردنية أو من العراقيل والصعوبات التي يواجهها العراقي المقيم هناك. أما سياسيا فلا تخلو مواقف العراقيين العاديين وبخاصة اللاجئين من الحيرة والبلبلة ولذلك فهم يرفضون تأييد النظام السوري والدفاع عنه علنا مثلما يرفضون تأييد الانتفاضة والمنتفضين السوريين. وقد خرج على هذه المعادلة مغني عراقي معروف هو “حسام الرسام” الذي غنى أغنية يؤيد فيها “أسد الأمة” فهاجمته المعارضة السورية بعنف متهمة إياه بالعمالة للنظام مثلما انتقده الجمهور في العراق على نطاق واسع متهمينهُ بالنفاق والمزايدة.

في داخل العراق، يشعر المواطن براحة أكثر من اللاجئ في سوريا أو غيرها وقد عبَّر البعض عن فكرة لا تخلو من الدلالات مفادها إن الشعب العراقي وبكل مكوناته، ورغم كل ما فعله به نظام صدام حسين، والذي حول العراق إلى شبكة من المقابر الجماعية والسجون لم يتظاهر في الشوارع طالبا الحماية الدولية أو التدخل الغربي المباشر لقلب النظام حتى حين انتفض رافعا السلاح ضد النظام في ربيع 1991، وإنّ من قاموا بذلك، وروَّجوا لخيار تغيير النظام عبر الحرب والاحتلال، هم رهط من السياسيين العراقيين في المنفى، تحولوا إلى أدلاء لقوات الاحتلال، وليس الشعب ذاته!

في الوسط المثقف، تنافرت مواقف النخبة اللبرالية أو التي تحسب على مَناطِها: فالذين كانوا مع خيار التدخل وتغيير نظام البعث الصدامي عبر الحرب والاحتلال، انحازوا دون تردد إلى جانب الانتفاضة السورية مهاجمين كل ذوي المواقف المتحفظة على دعوات التدخل ومن هؤلاء من بالغ في نقده لروسيا أكثر من أهل الدار السوريين، فقد نشر كاتب عراقي من هؤلاء هو فالح عبد الجبار مقالة في صحيفة سعودية تحت عنوان لافت هو “روسيا الجبانة”! هاجم فيها الموقف الروسي الرافض للتدخلات الغربية في ساحات الربيع العربي معللا إياه بـ ( احتقار روسي مديد وقديم للديموقراطية) جاء به لينين واتحاده السوفيتي. كاتب آخر، من جهة مختلفة مضمونيا، هو سرمد الطائي، رئيس تحرير يومية “العالم” البغدادية (اتفق وبشدة) مع “نظرية” نوري المالكي العجيبة، تراجع عنها جزئيا في لقائه الأخير مع تلفزيون “المنار”، و القائلة بأنّ (إسرائيل تشعر بالسعادة بسبب الثورات العربية ) ولكن من وجهة نظر تخالف المالكي و تدحض مضمون تصريحاته تلك وخلاصة وجهة نظر الطائي تقول (ليس ذنبنا أنّ إسرائيل تفرح بما تعرض له صدام حسين والقذافي وسواهما من الزعماء المتشددين، من ذل وهوان على أيدي الشعوب الراغبة بالتغيير..) ومذكرا إياه بأنّ ( ما حصل في العراق بعد صدام حسين هو أكثر شيء قد يُفْرِح إسرائيل..)

بخلاف هذه المواقف، فإن قلة من الكتاب العراقيين هم أولئك الذين لم يترددوا في إعلان تضامنهم مع الانتفاضة السورية ولكنهم تحفظوا بشدة على دعوات التدخل السياسي أو العسكري الغربي فيها وحذروا من صعود النبرة الطائفية. محاولين الإمساك بموقف مركب بعيدا عن المواقف التبسيطية والتي على شاكلة (مَن لا يكون مع احتلال العراق أميركيا فهو مع صدام حسين ونظامه) وتلك معادلة كئيبة وفاسدة دحضتها الوقائع على الأرض وأثبتت صحة نقيضها، فالواقع هو أنّ عُمْلَةَ الخراب والتدمير والحرمان وكمِّ الأفواه لها وجهان: نظام صدام من جهة وحلفاء الاحتلال الطائفيين من السنة والشيعة والكرد الذين جاؤوا بعده من أخرى!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى