حازم نهارصفحات سورية

الحزب الثالث….. الحزب الذي يشبه سورية

 

 حازم نهار

 في سورية لا يوجد حياة سياسية، لا قبل الثورة ولا بعدها، وتلك هي المصيبة الكبرى. ويخطئ من يعتقد أن “السياسة” ترف أو لا قيمة لها مع استمرار العنف والدم والرصاص. فما نعيشه من مهازل سياسية اليوم إنما يحدث بسبب غياب وتغييب السياسة في المآل، فأول الحياة سياسة وآخر الحياة سياسة، والعنوان الرئيس للسياسة هو الأحزاب.

لم يسمح النظام للثورة بالتعبير عن نفسها سياسياً، ولا سمح للسوريين عموماً بعد الثورة بالتقاط أنفاسهم كي يعبِّروا عن أنفسهم سياسياً. وهذا صحيح حتى بالنسبة للموالين له، والذين اختزلوا حياتهم واختزلهم النظام إلى مجرد كائنات تردِّد بضع كلمات لا تغني ولا تسمن، وتدخل في إطار الصراخ أو التضليل أو الدفاع أو الخوف أو المصالح الشخصية غير الشرعية، لا في إطار السياسة.

ومن خلال ممارسة العنف الأقصى، والقتل والتدمير، جعل النظام الثورة بلا رداء سياسي، سوى كلمات عامة، لكنها حقيقية وشرعية، حول الحرية والكرامة. وان يمكن للثورة، خاصة خلال شهورها الستة الأولى، أن تكون فرصة لبناء هوية وطنية سورية حقيقية وحركة سياسية جديدة، جنباً إلى جنب مع زرع البذور لمؤسسات مجتمع مدني أو لإحياء أخرى موجودة لكنها مصابة بكل أمراض الاستبداد، وتحولت خلال نصف قرن إلى مؤسسات للتطبيل والتزمير وحسب.

من جهتها، لم تقصِّر المعارضة التقليدية، لا داخل البلد ولا خارجها، في إضافة المزيد من العقبات التي منعت التطور السياسي للمجتمع خلال الثورة، بل إنها نقلت أمراضها إليها، وهي بنفسها مارست السياسة، ولا تزال، ضجيجاً وصراخاً وعويلاً، وفي بعض الأحيان مزاودةً وتسكعاً وتسولاً.

في الحقيقة، لا يوجد في سورية اليوم أحزاب سياسية حقيقية باستثناء حزبين تاريخيين هما البعث والإخوان المسلمين، فقد تهشمت الأحزاب التاريخية الأخرى،كالشيوعي والناصري وغيرها، بفعل الاستبداد من جهة، وأمراضها الذاتية من جهة أخرى.

قبل الثورة، كانت هناك أحزاب معارضة صغيرة، مارست عملها على مدار ربع قرن على الأقل في الغرف المغلقة، وهي في معظمها أحزاب أيديولوجية متكلِّسة، وتضم بعض المناضلين، لكنها تفتقر إلى السياسيين، ولا يزيد عدد الأعضاء في أي حزب معارض عن مائة عضو بحكم تهشيم النظام لها، والحزب المعارض الوحيد الذي يمتلك أعضاء يشكلون قوام حزب قد تهشم مع الثورة إلى مجموعات صغيرة، ربما لأن النقاط السياسية التي كانت تجمع أعضاءه فقيرة ومحدودة.

أما الأحزاب الكردية التقليدية، فهي أحزاب لا نكاد نعرف رأسها من قدميها، فمعظمها كان أحزاباً كردية قومية وحسب، تلف وتدور حول قضية واحدة ومحددة، ولا يبدو أنها اندمجت للآن في الحركة السياسية، ولا تزال تغيب عنها الصفة السورية مقارنة بكرديّتها الحاضرة بقوة.

أما أحزاب ما يسمى “الجبهة الوطنية التقدمية”، فكانت ولا تزال أحزاباً ملحقة بحزب البعث، لا تهش ولا تنش، وليست أكثر من واجهة كاريكاتورية لتعددية سياسية مثيرة للسخرية والرثاء في آن معاً، وتكاد تصبح أحزاباً عائلية بحكم اقتصارها على عدد محدود من الأقارب الحريصين جداً على المكاسب والامتيازات.

بعد الثورة، تشكلت أحزاب جديدة داخل سورية استناداً لقانون الأحزاب، وهي أحزاب صغيرة مؤقتة، بعضها كان بتحريض من النظام ذاته للإيحاء بإحداث إصلاحات سياسية، وهذه الأحزاب ستتفكك عاجلاً أم آجلاً، ولا قيمة لها.

أما الأحزاب المعارضة الجديدة التي تشكلت بعد الثورة، فهي في معظمها “فقاعات” ليس أكثر. إنها كالورود التي تتفتح صباحاً وتموت مساء، إذ سرعان ما تتشكل وسرعان ما تتفكك، وهذا طبيعي لأن الأحزاب المتشكلة ليست ذات معنى، ولا الانشقاقات عنها ذات مغزى، وكلها إلى زوال.

لم يكن للقضية الفكرية أو الرؤية السياسية أي وزن أو دور في تشكيل هذه الأحزاب الجديدة، ولذلك كانت هذه الأحزاب فقيرة ولا تحتوي على مقومات الحزب السياسي. إذ يتداعى إلى تشكيلها عددٌ من الأفراد، ربما بسبب خلافات شخصية مع آخرين أو كمحاولة للقول بأنهم موجودون على الساحة، ويتم التشكيل استناداً لورقة بسيطة تتمحور حول ثلاث نقاط لا غير، وهي: “الإشادة بالثورة” و”إسقاط النظام” و”بناء الدولة المدنية الديمقراطية”، وكأن الاتفاق على هذه النقاط كافٍ لتشكيل حزب أو تيار سياسي. ويهتم الأعضاء المشكِّلون للحزب الجديد بالمؤتمر الصحفي المرافق للإعلان وبتوزيع المناصب، وينسون البحث بشأن الأرضية الفكرية للحزب والرؤية السياسية والبرنامج السياسي والنظام الداخلي واستراتيجيات وخطط العمل. ولا يفوتهم كثرة الادعاءات حول عدد المنضوين في الحزب، وعن صلة الحزب بالداخل والنشطاء، وكل فترة يذكرنا الحزب الجديد بوجوده من خلال إصدار بيان ما.

تشكلت العديد من الأحزاب والتيارات والمجموعات السياسية بهذه الطريقة التي تدلِّل بوضوح على الخفَّة السياسية والضحالة الفكرية وقصر النظر، حتى أصبحنا أمام ركام من الأحزاب والتيارات التي لا نستطيع حفظ أسمائها أو التمييز بينها، فكلها تتشابه في التشكّل والإعلان والبيان التأسيسي وفلوكلور الانشقاق، ومن ثم الانحلال.

بعض هذه القوى لا يزال مستمراً، بحكم عاملين اثنين وحسب، الأول هو “ماركة الاسم”، والثاني وجود بعض الشخصيات السياسية الإعلامية داخلها. في ما عدا ذلك لا تمتلك أي مؤهلات أو عناصر للاستمرارية في المستقبل. وبحكم افتقارها لكل مقومات الحزب أو التيار السياسي يمكن ببساطة الاستنتاج بأنها مجرد “هلام سياسي” لا يمتلك رأياً ثابتاً أو مستقراً تجاه أي حدث أو واقعة سياسية، وكل يوم بعقل جديد.

بعض الشخصيات المعارضة تريد أن يكون لها قرص في كل عرس، فما إن تشرف حالة سياسية ما على الموت حتى يغادروها إلى غيرها، وهم بالفعل عقبة أمام أي تشكيل سياسي جاد، إذ لا يمكن ضمان إمكانية التزامهم بمنطق العمل الجماعي، ويسبغون صفاتهم الشخصية على أي تشكيل سياسي يتواجدون فيه، بحكم ظهورهم المتكرِّر في الإعلام، كما لا يمكن الوثوق برصانة تصريحاتهم الإعلامية، فهم مقتنعون بأن الوحي السياسي اصطفاهم، ولذا لا يجدون حاجة لاستشارة إلا أنفسهم. هنا نقول إننا بحاجة حقاً للخروج من رقعة الشطرنج المحدودة اللاعبين والمساحة، التي يلعب فيها عددٌ محدود من شخصيات المعارضة على مساحة معينة، فسورية عدد سكانها ثلاثة وعشرون مليوناً وليس حفنة من الأفراد.

كذلك، بعد الثورة لم تنجح التحالفات والائتلافات والمجالس والهيئات، فجميعها كان مآلها، أو سيكون، الفشل. فهي لم تمثِّل لقاء أو تجمعاً بين قوى سياسية حقيقية، بل بين أفراد في الغالب الأعم. يضاف إلى ذلك أن بناء التحالفات والعمل فيها يحتاجان للحد الأدنى من الفهم السياسي لمعنى العمل التحالفي ووضوح آليات العمل وحسن الإدارة والتنظيم، وإلا كيف نفسر أن المنضوين في أي ائتلاف كلٌ منهم يغني على ليلاه، تماماً مثل “صف الدبكة المفشكل” كما يقال.

نعود ونقول: لا يوجد في سورية اليوم أحزاب سياسية، باستثناء البعث والإخوان المسلمين، وبدون الأحزاب السياسية الجديدة لا يمكن تحقيق أي مكتسبات مهما كانت التطورات، أي لا يمكن تحقيق الاستثمار السياسي لمجمل تضحيات الشعب السوري.

للبعث والإخوان نقاط ضعف عديدة. لكنهما، مع ذلك، يمتلكان قوام الحزب السياسي، والتنظيم، والمال، والبرنامج، والرؤية، والخطة، فيما بقية التشكيلات السياسية لا تمتلك أياً من هذه العناصر.

حزب البعث لم يكن يحكم في السابق، بل كان غطاء لستر عورات الاستبداد، ولذلك يحتاج إلى دورة تنظيف وإعادة تربية وتأهيل كي يعود إلى ممارسة السياسة، والإخوان المسلمون بحاجة أيضاً للتخلص من إرث الماضي الثقيل كي يتحولوا حقاً من جماعة إلى حزب سياسي، وبحاجة للتواضع والاقتناع أيضاً أنهم لا يمثلون سوى جزء من الشعب السوري.

نعود ونتساءل: أين هو الحزب الثالث؟ أين هو الحزب الذي يمكن أن يشبه سورية؟ أين هو الحزب الذي يمكن أن يبنى استناداً لأسس مدروسة؟ أين هو الحزب الذي يمكن أن يقدِّم رؤية فكرية سياسية متكاملة، وبرنامجاً سياسياً لسورية المستقبل، ونظاماً داخلياً حديثاً ومرناً، وخطة عمل واضحة الأركان والمهمات، ويحتوي بين ظهرانيه على معظم من ينسبون أنفسهم للتيار الأوسع في سورية، التيار الوطني الديمقراطي؟ هل يمكن أن يتشكل هذا الحزب ويقلب اتجاه المسيرة نحو التجمع والالتقاء بدلاً من خط التذرّر والتشظي الذي ظهر واضحاً منذ بداية الثورة وحتى الآن؟

زمان الوصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى