صفحات العالم

الخطاب الغامض لأزمــة واضحــة

 


سليمان تقي الدين

جاء خطاب الرئيس السوري بعد أسبوع من اندلاع الأزمة محبطاً. كان أقل بكثير مما صدر قبله من وعود عن نائب الرئيس والمستشارة الإعلامية والسياسية. تناول أربعة عناوين: الحاجات الاجتماعية، الإصلاح، المؤامرة، والفتنة. اختار الجواب السهل بتقديم العطايا في الأجور متجاوزاً الحديث عن الخيارات الاقتصادية والاجتماعية لنظام ما زال يحمل صفة «الاشتراكية». أما الإصلاح فهو «قيد الدرس» ولا يمكن ربطه بأية ضغوط داخلية أو خارجية. استعاد فكرة «المؤامرة» من دون تحديد هويتها وقواها ولا طبيعة المشروع الفعلي الذي يستهدف المنطقة كلها. وصف الثورات العربية بالموجة، ولم يحدد موقفاً من هذا المتغيّر المفترض أن يجدد شباب المشروع العربي.

أما الفتنة فهي خيوط واهية قريبة وبعيدة اختارت المكان الخطأ والهدف الخطأ لأن سوريا ستواجهها. هذا الخطاب الغامض في مضمونه لم يسعفنا في فهم موقع سوريا ودورها من هذا الزلزال العربي الذي يرسم مستقبل المنطقة لأجيال ويقرر نظامها. هل ثورات الشعوب من أجل الحرية والتغيير والديمقراطية والكرامة الوطنية هي الأزمة، أم تداعي «المجتمع الغربي» لفرض وصايته مجدداً عبر الفصل بين الثورات وأنظمة الاستبداد والفساد والتخاذل هي الأزمة؟ وحدها الوعود بالإصلاح التي لم تلامس القضايا الساخنة، ولم تحدد حدوده ومعالمه، تبقي الباب موارباً على احتمالات عدة. ولأن سوريا حجر الزاوية في المشرق العربي، ولأن دورها أكبر بكثير من أن يحجّم في نظام يدافع عن شرعيته، فقد نظر العرب إلى أحداثها بقلق من التأخر عن التقاط فرصة المبادرة وعدم الاستجابة للتحديات الحقيقية في الداخل والخارج. لا زالت القيادة السورية تملك رصيداً لا جدال فيه، ولا يحتاج إثباته إلى تظاهرات التأييد بعد اجتيازها موجة الحصار الغربي ومحاولات تطويعها لمشاريع مصادرة قرارها الوطني. لكن الذي أثبت قوة سوريا هو الشعب نفسه الذي أظهر مسؤولية عالية في الصبر على الحصار وقاوم كل إغراءات التخلي عن خياره الوطني. كما أن هذا الصمود هو أيضاً ثمرة صمود المواقع الأمامية المحيطة بسوريا من لبنان إلى العراق ولا سيما الدور الذي لعبته مقاومة لبنان في تغيير المعادلة. فلا تستطيع سوريا أن تتصرف وكأنها انكفأت عن دورها العربي أو أنها تبحث عن الأمن والاستقرار بمعزل عن طموحات الشارع فيها وتطلعاته وهو الذي لم يخطئ يوماً في التزامه الوطني والقومي. الشعب السوري هو نفسه كأي شعب عربي آخر له حاجاته ومطالبه المتراكمة والمؤجلة التي ما زال يعبّر عنها مع حرصه الشديد على الوحدة الوطنية وأمل كبير بأن تستجيب له القيادة وتفتح آفاق دور أكبر وحرية أعمق ومشاركة أفعل وتنمية أشمل وإصلاح حقيقي.

في واقع الأمر سوريا مستهدفة من خارج عبر أكثر من بوابة، لكنها الآن في اللحظة السياسية المناسبة لإثبات دورها العربي في مواكبة انهيار المنظومة السياسية التي أثقلت على الموقف العربي وأخرجته من المواجهة مع كل التحديات الخارجية. ولقد صار واضحاً اليوم ان شباب العرب انتفضوا في غير دولة وفي طموحهم ان يصححوا المسار العربي كله.

لا يمكن لشعب سوريا الذي تصدّر حركات الثورة في التاريخ المعاصر، أن يكون مأخوذاً بموجة من هنا أو موجة من هناك، بل هو يعرف ما يريد وفي المقدمة منعة سوريا وقوتها وتقدمها. لم تعد اليوم هذه المنعة والقوة والتقدم ممكنة في أي بلد محجوز عن الحرية السياسية والديمقراطية التي من خلالها يقول ما يريد من خلال المؤسسات ويمارس حقه في الاختيار للسياسات الاجتماعية. لم نفاجأ أبداً بوعي الشعب السوري وهو يرفض أي مساس بالأمن والاستقرار ويتمسك بالخيار الوطني ويدعم مشروع الإصلاح. فإذا كانت لنا هذه الثقة بشعوبنا وبصدق خياراتنا في مصلحتها فليس من شعب يستخدم حريته عبثاً، فليأخذ حقه من خارج الحالة العاطفية العابرة.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى