عمار المأمونمراجعات كتب

الخطوة الأولى لفهم الثقافة والظاهرة الثقافية/ عمار المأمون

 

 

ما زالت الدراسات الثقافية حديثة العهد في المنطقة العربيّة، إذ تحوي المكتبة العربية نقصاً هائلاً في الترجمات التي تتناول هذا الموضوع وتشعباته، فهذا القطاع الأكاديمي والنقديّ قدم الكثير من المفكرين والكتاب الذين عملوا منذ بدايات القرن العشرين حتى الآن على إعادة تعريف الثقافة وما يرتبط بها، بوصفها نتاج الوجود البشريّ، وفي ذات الوقت مساءلة الخط الفاصل بين ما هو طبيعي وثقافي، فالدراسات الثقافيّة تنتقد هذه التقسيمات في سبيل فهم علاقات القوة وأنظمة الهيمنة التي تشكل الظاهرة البشريّة والأشكال الثقافيّة المرتبطة بها.

الصناعة الثقافية تذيب الهويات الخاصة

في كتابها “غَبش المرايا- فصول في الثقافة والنظرية الثقافيّة” جمعت وترجمت الباحثة والأكاديميّة العراقيّة خالدة حامد عشرة نصوص لمجموعة من الكتاب الغربيين كـ تيري إيغلتون وكليفورد غيرتو وميشيل دي سيرتو ومايكل ريتشاردسون وبيل هوكس، وذلك في سبيل فهم الظاهرة الثقافية، وتقديم مدخل لفهم الدراسات الثقافيّة وتفرعاتها وآليات التحليل التي تتبعها، عبر مناقشة مفهوم الثقافة وتطوره حتى هذه اللحظة، والإضاءة على علاقات القوة التي تؤثر في الثقافة وتجلياتها المادية والمعنويّة انطلاقاً من التعريف الأولي لإدوارد تايلور للثقافة الذي وضعه عام 1871 بوصف الأخيرة “ذلك الكلّ المعقد الذي يشمل المعرفة والاعتقاد والفن والأخلاق والعادات التي يكتسبها الإنسان، بوصفه فرداً، في مجتمع ما”.

الصناعة الثقافية

النصوص في الكتاب والتي سنحاول في هذا المقال الإضاءة على البعض منها لا تتناول التفرعات المختلفة التي يحويها قطاع الدراسات الثقافيّة، من دراسات الإعلام ودراسات الجندر إلى جانب المقاربات ما بعد الإنسانويّة، بل تشكل خطوة أولى ومرجعاً هاماً للمهتمين والأكاديميين على حد السواء.

يعود تأسيس الدراسات الثقافية في بريطانيا إلى ثلاثة من المفكرين الذين ترجمت حامد لاثنين منهم، وهما ريموند ويليمز الذي يحوي الكتاب نصه “تحليل الثقافة” و ستيوارت هول الذي ترجمت له حامد نص “الدراسات الثقافيّة وإرثها النظري” أما الثالث فهو ريتشارد هوغارت الذي ناقش في كتاباته الخصائص الثقافية والحياة اليوميّة للطبقة العاملة شمال إنكلترا.

وتعتبر نصوص هؤلاء الثلاثة مدخلاً لفهم المحاولات الأولى لفهم الظاهرة الثقافيّة، سواء الشعبية منها أو تلك المؤسساتية، والصراع مع أنظمة الهيمنة التي تسعى للقضاء على الثقافة الشعبية وخلق التجانس بين الجميع عبر تقنيات النمذجة والهيمنة، والمفهوم الأخير يتضح في نص أنطونيو غرامشي الذي ترجمته حامد بعنوان “الثقافة والهيمنة الأيديولوجيّة” والذي يناقش تصورات الفرد للعالم ومنشأ هذه التصورات، وعلاقتها بالدين والأيديولوجيا والفروقات بين تمثيل الطبقات الاجتماعية و”الثقافة” المرتبطة بكل فئة، ودور الأحزاب السياسية في رسم تصورات العالم وما يمكن أن يكون عليه.

صناعات ثقافية تعمق الاغتراب وتقتل ملكة التفكير والنقد

أحد النصوص الهامة التي ترجمتها الكاتبة إلى العربيّة هو “صناعة الثقافة” للفيلسوفين ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، وهما من مؤسسي مدرسة فرانكفورت النقديّة، ويذكر أن هذا النص تُرجم سابقاً إلى العربيّة ضمن كتاب “جدل التنوير” الصادر عام 2003، وتكمن الأهمية البالغة لهذا النص في أنه يشكل القاعدة النظريّة لفهم تقنية الهيمنة الثقافيّة التي تمارسها السلطة السياسيّة الرأسماليّة على “المستهلكين” والتي تسمى صناعة الثقافة، والتي تتضمن المنتجات الاستهلاكية المسموعة والمرئية والتي توزع جماهيريا بحجة التسلية والترفيه، في حين أنها وسائل للتلاعب وفرض الأيديولوجيا، وخلق التجانس بين جميع المستهلكين، لتكون سلوكياتهم وردود أفعالهم في خدمة رأس المال، والخلاص الذي تدّعي أنها تقدمه عوضاً عن ذلك الديني، ليس إلا وهماً، أساسه النزعة للمساواة التي يخلقها الاستهلاك على حد تعبير والتر بينجامين.

فأدورنو يرى في هذه الصناعة أداة عنيفة بيد السلطة السياسية بوصفها تحرف الإنسان عن” طبيعته البشرية” وتعمق الاغتراب، فهذه الصناعة تقتل ملكة التفكير والنقد، والخلاص منها يكون بالفنّ وعبر اللعب بوصفه يخلخل القواعد والنظم التي تتحكم في البشر، فاللعب هو الاندفاع البدائي خارج النمذجة، كالفن ذاته، الذي يرفض البنى القائمة وتقنيات التعبير المرتبطة بها، وعلى قارئ هذا النص أن يأخذ بعين الاعتبار التراث الماركسي الذي انطلق منه رواد مدرسة فرانكفورت وخصوصاً أدورنو الذي طور نظرية في علم الجمال بالاعتماد على الديالكتيك المعكوس/ المقلوب.

رأس المال الثقافي

نص آخر يحويه الكتاب من تأليف عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، الأخير الذي يعتبر من المؤثرين في النظرية الفنيّة والنقد الفنيّ أسس للعديد من المفاهيم المرتبطة بالفن كظاهرة اجتماعيّة، بوصفه قطاعاً منفصلاً ومستقلاً، محللاً طبيعة العلاقات التي تحكمه ومعتمدا على مقاربات ترتبط باللعب والرهان ومطوراً مفاهيم رأس المال الرمزي والثقافي والهابيتوس أو نظام الاستعدادات، موضحا القيمة الفنية للعمل من وجهة نظر مؤسساتية واجتماعية.

والنص الذي يحويه الكتاب لبورديو بعنوان “الذوق الفنيّ ورأس المال الثقافي” وفيه يناقش الأخير العمل الفني كسلعة رمزية، وخصائص التشفير المرتبط به، وقدرة الفرد على فك هذا التشفير وفهمه، وارتباط آلية فك التشفير بمستوى الفرد الاجتماعي والثقافي ودور التعليم في بناء هذه “الآليّة”، وخصوصاً أنها تنشأ من الخبرة الاجتماعيّة والمؤسساتية، فبورديو دائماً يوجه في نصوصه النقد إلى سلطة المؤسسات، والجوانب السياسية المرتبطة بتكريس شكل معين للفن، وفرض نسق معين للشكل الرسمي، ومحاولة تعميمه، وهنا تبرز سلطة “القائمين على الثقافة” ورأس المال الفني الذي يمتلكونه بوصفه الأساس في شرعنة أي شكل فني جديد، وتحديد المعايير الجماليّة المرتبطة بالفن، وتهميش كل ما لا يتفق معها.

ونذكر أخيرا أن كتاب “غَبش المرايا- فصول في الثقافة والنظرية الثقافيّة” صدر مؤخرا عن دار المتوسط.

العرب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى