صفحات الثقافة

الخط العربي واحتمالات النحت/ عاصم الباشا

 

 

أقيم في غرناطة، بالقرب من قصور الحمراء التي هي كتاب مشرّع، إذ يطالعك التخطيط شعرًا وأدعية في كل زواياها.

خط منقوش بالجصّ، وهي مادة فقيرة تتواءم مع ضعف دولة بني نصر وحبّها الادّعاء. لكن نفوره المحدود لا يجعل منه نحتًا نافرًا (ريلييف). الخطّاطون فقط، وربما فريق من عشّاق الخطّ أيضًا، يتوقّفون عند تشكيلية (بلاستيكية) الحروف. بعض منها راقص وآخر ثابت راقد وذلك يتهادى وهذا ينكمش بينما يلتمّ آخر.

يقول الشاعر السوري، فرج بيرقدار، في إحدى قصائده “في عشّ النون طيور لا تعرفها”. أليس ما ذكرت من حركات الكائن الحي؟ ذلك الذي يشغل حيّزًا في الفضاء؟

من هنا استجبت في الماضي لمحاولات متواضعة لأنني أحسست الحروف منحوتات، فصنعت سنة 2000 “تكوين بالراء” من مادة الحديد (هو الآن في مجموعة خاصة في ألمانيا)، وبعض الدراسات التي سميتها ” تحية لحرف السين”.

لكنني تلمّست جمالية الحرف ولم يخطر لي جمع بعض منها لتحقيق “معنى”، ربما لأن شاغلي نحتي وليس أدبيّ يصبو إلى تسجيل فكرة.

أي خط، المستقيم منه مثالاً كما حرف الألف، يتأتّى من جملة نقاط، وهذه النقاط يمكن أن تكون كرة. الكرة هنا هي كتلة وكلّ ما يتولّد من تلاصقاتها كذلك.

شاهدت، منذ سنوات قليلة، في معرض للخطّ العربي أقيم في مدريد تجربة الخطّاط العراقي، نجا المهداوي، الذي عرض عبارة مجسّمة بالبرونز، لكن طرحه لم يختلف كثيرًا عن سطحية خطوط الحمراء. تبدّى لي كنقش خُلع عن الجدار، لا غير، وهذا ليس نحتًا. هنا يتبادر سؤال: هل يتطلّب الشعور بالخطّ نحتيًا أن نهرب أو نتجنّب “المعنى”؟

صحيح أنني استغرقت في تشكيلية كل حرف على حدة، لكنني واثق من إمكانية نحت الكلمة. ذلك يتطلّب تحريكها في الفضاء بشكل خلاّق نضمن فيه الانسجام والإيقاع والحركة المناسبة، وبذلك نبلغ مطمحين: إننا صنعنا منحوتة تشغل حيزًا في الفراغ وتحرّكه (كما يشارك الفراغ في تكوينه كمادة بدوره)، وأن نطرح الكلم الذي يصل إلى قارئه.

أعتقد أن طرح الخطّ كإحساس نحتي أمر مشروع وممكن، يحتاج لمن يتصدّى له. أنماط الخطوط تأتّت بسبب بحث جماليّ ذي بعدين، فلماذا لا يكون ثلاثي الأبعاد؟

بمقدورك أن تطرح في ساحة ما، حرف صاد يلفت النظر بثقله ومادته، وهذه تتضمّن اللون والملمس، وطريقة وضعه، ودور حركة الشمس عليه، فليس من الضروري أن تضعه أفقيّاً وكأنه على السطر (سيكون هذا خيارًا سطحيًا)، بمقدورك أن تجعله يرقص في الفراغ .. وسيبقى حرف صاد.

يحلو لي الآن تصوّر حديقة عامة تتوزّع في أرجائها كافة الحروف .. ربما كتحية لأبجدية أوغاريت؟

هنا لا بدّ لي من الالتفات إلى ما صار شائعًا في التصوير : الحروفية.

سبق لي أن سجّلت رأيًا بهذا الخصوص، نًشر سنة 2009 في كتابي “يوميات الشامي الأخير في غرناطة”: “ما أن انبرى نفر من المستشرقين متشدّقين بأن علاقة العرب بالفن مرتبطة بالزخرف والخط، ركع حشد غير قليل من التشكيليين – من المحيط إلى الخليج – وراحوا يعلكون خطًا نبيلاً ويعرضونه في ما يشبه الابتذال”.

لدى التشكيليين عمومًا، باستثناء الخطّاطين ربما، همّ مشروع: الهوية. كل يريد أن يكون متميزًا والتميّز يعني أولاً أن تكون أنت نفسك. أذكر هنا قولاً لأوسكار وايلد : “كن أنت نفسك، فالآخر حجزه غيرك”. لذا عمد عدد غير قليل من المصوّرين إلى ممارسة الحروفية لتأكيد انتمائهم إلى أرض بعينها وهوية لا يخطئها الناظر. أعتقد شخصيًا، على الرغم من بعض النماذج اللافتة للنظر، أنه اختيار للحلّ السهل.

في معرضي الأخير في دمشق، نهاية 2010 وبداية 2011 ، وقبل اندلاع الثورة ضدّ الطغاة والفساد، توقف معلّمنا الفنان، إلياس زيات، أمام إحدى منحوتاتي وأشار إليّ أن اقترب وفي وجهه دهشة، قال لي: “يا عاصم .. في هذا العمل نرى فينيقيا وكنعان وسومر وآرام و.. كلّ ماضينا”، وما وضعت حرفًا عربيًا في العمل، إنما اعتمدت على أثمن ما قدّمته منطقتنا لتراث البشرية: الحركة الداخلية للكتلة.

في كل باب من أبواب الإبداع حيز واسع لـ “الفذلكات” وللرغبة في الإدهاش. لكنها حيلة من لا حيلة له.

صحيح أن الحروف تتبدّى بفضل حركتها الخارجية، الظاهرة، لتشكيلاتها، وهذا كاف للتعرّف إليها، لكن .. لماذا لا نطمح إلى شحنها بطاقة أخرى؟ أصعب بلوغًا ممّا هو سطحيّ؟ أقصد الكمون والحركة الداخلية للشكل.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى