صفحات الحوار

الدكتور محمد حبش: سبب الاشتباك المرير في سورية: تأخر الإصلاحات وغياب الحريات

 


دمشق ـ ‘ القدس العربي’ ـ حاوره أنور بدر ربما يكون الدكتور محمد حبش من أكثر الشخصيات الإسلامية إشكالية في الساحة السورية، فهو عضو في مجلس الشعب السوري، وفقيه أكاديمي وداعية متنور، خاض معارك شرسة مع الاتجاهات السلفية والتكفيرية في الفكر الإسلامي، حتى حسبته تلك الاتجاهات على النظام السوري.

لكن هذا النظام أغلق له ‘ مركز الدراسات الإسلامية بدمشق’ في عام 2007 الذي كان ينشط من خلاله وكمدير له، كذلك أقيل في منتصف العام المنصرم من إمامة ‘ مسجد الزهراء’ في منطقة المزة في دمشق، فيما اعتبر تصفية حسابات من قبل وزير الأوقاف في الحكومة السورية آنذاك، وغاب عن المشهد الإعلامي السوري لفترة من الزمن، ليعود مع بدء الانتفاضات الجماهيرية في 15 آذار ( مارس) هذا العام، منتقدا بقوة أداء الحكومة السورية وطغيان الفساد في مفاصلها، كما انتقد أداء الإعلام الرسمي في زمن الأزمة وتأخر الإصلاحات السياسية التي تطالب بها جماهير المتظاهرين، معتبرا إياها مطالب محقة، لكنه ما يزال يرجو ذلك الإصلاح بقيادة الرئيس بشار الأسد. فإذا علمنا أن هذا الحوار تمّ يوم الأحد 19 / 6 أي قبل يوم واحد من خطاب رئيس الجمهورية، ندرك حجم تفاؤله بأن هذا الخطاب سيقدم حزمة واسعة من الإصلاحات.

كل هذه الإشكاليات شكلت دافعا لنا في ‘ القدس العربي’ للقاء الدكتور حبش في مكتبه والحوار معه بأكبر قدر من الصراحة الممكنة:

* يقول د. أحمد برقاوي أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق والعلماني أيضا: ‘ يمثل د. حبش امتدادا للاتجاه الإصلاحي الديني… وهو الوريث الشرعي للشيخ محمد عبده’. ما تعليقك على ذلك؟

* بالطبع نحن نفخر بالدور الذي قام به الشيخ محمد عبده باعتباره مؤسس تيار الإصلاح الديني، ونحسب أنفسنا على مدرسته، فبقدر ما نكتب ونحلل سنجد أنفسنا نستلهم من سير المصلحين الأوائل كمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين وغيرهم. ممن تزخر بهم كتب التاريخ، الذي هو تاريخ الصراع من أجل الإصلاح.

وأنا يسعدني تقويم المفكر الدكتور أحمد برقاوي، لأنه شخص معروف باستقلاليته وجرأته في التعبير عن أفكاره.

* ألا يعيدنا هذا إلى أزمة الفكر الديني في المنطقة عموما، والتناقضات الكثيرة بين الاتجاهات السلفية والتكفيرية من جهة وبين الاتجاهات الإصلاحية في الفكر الديني؟

* هذا التناقض موجود منذ تكونت المجتمعات الإنسانية، هناك أناس وفاقيون وأناس فراقيون، ويتجدد الصراع بينهما في كل مرحلة، فهل كان موقف الخوارج من الإمام علي مع فجر الإسلام إلا صورة من هذا التناقض حين رفعوا شعارا أبيض لا خلاف عليه ‘ لا حكم إلا لله’، لكن الإمام علي الذي كان يمثل لحظة تنوير مبكرة في الإسلام، حاربهم بصلابة، وقال: إنني والله لا أجهل ما تعلمون، لكن ما تقولون حق أريد به باطل.

وكان الإمام علي ومن حوله جماهير الصحابة يدعون لاحترام العقل والواقع، في حين أن الخوارج اختاروا مبدأ عبادة النص، وأوغلوا في إطفاء نور العقل لصالح رواية النص.

من وجهة نظري فإن رسالة التنوير في الإسلام كانت دائما مزدهرة عند ازدهار الدولة، وكانت منحسرة عند انحسار الدولة، فالتنوير والازدهار يتلازمان، والجمود والانحدار يتلازمان، وفي العصر الذهبي للإسلام تمكن الفقهاء من ابتكار عشرة مصادر للشريعة، وهي طافحة بدور أكبر للعقل والعلم ودور أقل لظاهر النص، وأعلن أبو حنيفة مذهبه في ‘ الاستحسان’ وهو ترك حكم النص لسبب واقعي، واكتملت مع جهود الفقهاء مصادر الشريعة من الإجماع والاستحسان إلى سد الذرائع والعرف…. إلى جانب الكتاب والسنة، بل إن الكتاب والسنة كانا أيضا محل اجتهاد ونظر، حيث تأسست آليات علمية لتطوير النص وبعثه في الحياة من التخصيص العام والتضييق المطلق إلى تأويل الظاهر وتفسير المبهم… والوقوف في المتشابه إلى جانب النسخ الذي اعتمد في زمن النبوة.

إن هذه الآليات الحضارية لتطوير الإسلام تمّ القضاء عليها في الفكر السلفي الحديث بعبارة ‘ حاكمية الكتاب والسنة’ والتي تشبه تماما عبارة الخوارج ‘ لا حكم إلا لله’، وللأسف فإن بعض المتشددين يرون أن كل ما تمّ انجازه تاريخيا من آليات لتطوير واستشراف النص لونا من العبث والتخريب للالتفاف على الشريعة.

* السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: لماذا تدعم الأنظمة العربية المعاصرة تلك الاتجاهات السلفية المتشددة، وتحارب الاتجاهات التنويرية والإصلاحية في الفكر الإسلامي؟

* أنا أخالفك الرأي وأعتقد أن الدولة في الأصل تتعاون مع التيار التنويري، ولا ترحب بالخيارات السلفية المتشددة، ولكن هذا هو المشهد في حال السلم، أما في حال الحرب كما وقع خلال المواجهة مع أمريكا فلم تكن الأولوية للأيديولوجيا إنما للموقف السياسي، وكان من الطبيعي أن يتحالف النظام في سورية مع كل أعداء أمريكا في مواجهة خطر الحرب.

ومع أنني أحد المتضررين من هذا التحالف بين النظام وحركات التشدد الإسلامي، إلا أنني سعيد بهذه النتائج، والآن في المشهد الحالي للأزمة لا يوجد تعاون بين الحكومة والسلفيين، وإنما هناك تقارب مع كل تيار يرضى بالاستقرار ويؤجل مطالب الحرية.

* أعتقد أن ما زرعناه في مواجهة أمريكا، نحصده الآن تجييشا طائفيا؟

* أنا لا أعتقد أن مطالب الحراك الشعبي في سورية الآن تصب في خانة الدعوة إلى تطبيق الشريعة، ولم يهتف أحد للأصولية والسلفية، حتى وإن كان هنالك تيار سلفي إخواني يريد أن يركب الموجة، وهذا شأن الكثير من التيارات المعارضة الآن، لذلك فإن النظام نفسه الذي استخدم توصيف العصابات التكفيرية أو السلفية، نجده الآن قد أقلع عن هذه التعابير لصالح وصف عصابات مسلحة، وهذا أقرب إلى الواقع. تلك تصورات جرى تسويقها في بداية الأزمة، ولم تكن سببا لما يجري، الاشتباك المرير في سورية الآن سببه تأخر الإصلاحات وغياب الحريات.

سورية تاريخيا بلد العيش المشترك، وينظر إليها في العالم الإسلامي على أنها أرض ‘ شام شريف’ وفي العالم المسيحي هي ‘ أرض سورية المقدسة’، ويحضرني هنا قول نزار قباني: ‘ إنها الأرض التي تنبت قمحاً وأنبياء’. وعلم سورية من وجهة نظري يختصر هذا العيش المشترك، بألوان الحضارات وبنجمتين واحدة لمحمد وأخرى للمسيح، هكذا أحب بلادي وهكذا أحب أن أراها.

الاحتجاجات الأخيرة ليست لأسباب دينية، بل هي نتيجة لتأخير الإصلاحات وغياب الحريات، والتجييش الطائفي للأسف الشديد مارسه أناس موتورون من المعارضة، ومضى إليه عدد من العاملين في سورية، مثلا ظاهرة الشيخ العرعور، وأنا تابعته منذ ثلاث سنوات على الفضائيات، لم يكن لديه هدف إلا تحقير الطائفة الشيعية واحتقار مقدساتها، ويعتبر الشيعة أكثر كفرا من اليهود والنصارى، وهذا العنوان يكشف لك بالطبع كيف ينظر هذا الشخص إلى الطوائف الأخرى وباسم الدين الإسلامي.

* ألا تعتقد بأنك تظلم المعارضة السورية كثيرا عندما تنسب إليها الشيخ العرعور؟

* دعها إذا تتبرأ منه، دع هذه المعارضة تعلن رفضها له وعدم استجابتها لدعواته في التكبير والتحشيد الطائفي.

فجأة يتحول هذا الرجل إلى أحد مناضلي الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، فجأة يتحول إلى أحد دعاة الوحدة الوطنية، كيف تعلمني الإخاء وقد علمتني لسنين طويلة أن تلك الطوائف مرتبطة بجهنم والشيطان، وإن كان هنالك حقا معارضون لا يقبلون بهذا الأسلوب، ولكن ألا يشعرون بالخطر على سورية من تنامي هذه الظاهرة، ومن انسياق بعض البسطاء وطيبي السريرة وراءه، وهو ما يدفع بالطرف الآخر إلى ردود الأفعال؟.

لا يجوز أن يكون لنا إلا الرفض لهذا التشويه المتعمد لمطالبي الحرية، أنا لست معنيا بالاتهامات الشخصية التي توجه للرجل، ولكن خطابه يحرض المجتمع على الفتنة و لا يمكن أن يبني بلدا، لذلك نحن معنيون برفضه وتعرية خطابه والتنكر لدعواته.

* وماذا عن التجييش في الإعلام الرسمي الذي سبق وانتقدته؟

* أنا قلت في ندوة الحوار الوطني الصاخبة في اتحاد الكتاب العرب، أنني أفنيت عمري في محاربة التكفيريين من كل التيارات، ولكنني للأسف لم أكتب عن التكفيريين الجدد الذين يفتون عبر الشاشات بقتل المتظاهرين لأنهم حثالة ورعاع، وبرأيي هؤلاء تكفيريون بامتياز.

لقد طالبت مرارا بإلغاء المادة 49 التي تحكم بالإعدام على منتسبي الإخوان المسلمين، لأن القتل ليس حلاً، ومصطلح الإعدام غير شرعي ولم يرد في الإسلام، إنما ورد مصطلح القصاص على البينة، والإعدام شرعا من شأن الخالق عزّ وجلّ.

* الدكتور حبش تبنى الدعوة إلى الحوار الوطني طريقا للخروج من الأزمة وإنقاذ البلاد، ولم نشهد حتى تاريخه أي مبادرة جادة للحوار الوطني، والوقت يمضي بالدماء؟

* الحل هو الحوار الوطني، ولا يوجد خيار آخر، وهو خيار السيد رئيس الجمهورية، ونحن شاركنا في عدد من الحوارات واللقاءات كمثقفين بهدف بلورة صيغة للحوار. لكن الحوار المجدي هو الحوار الوطني الذي يفترض أن يقوده السيد الرئيس دون أن يستبعد أحدا في الداخل أو الخارج، ويتم التصويت على قراراته كي تتحول إلى مراسيم وقوانين، وهذا هو الأمل الذي نعلقه على الحوار الوطني، ومعلوماتي أن السلطة تعمل بجد للوصول إلى هذا الهدف، وأنا الذي طالب برحابة الصدر ووقف تدخل الجيش لتوفير فرص أفضل للحوار، مع أنني لا أوافق على تعطيل الحوار حتى يتم انسحاب الجيش.

* أنا لا أعتقد أن المشكلة في وجود الجيش أو انسحابه، إنما المشكلة في استمرار القتل، فالدولة أكبر من الأفراد، وعليها محاسبتهم إن أخطأوا، لكن لا يجوز أن تطلق النار عليهم؟

* من المؤلم أن نعترف بأن جهة ما أدخلت العنف في حركة الاحتجاج، وتقديري أن هذا العنف جاء بدوافع من الثأر والانتقام أكثر من كونه إرادة منظمة لقلب الحياة السياسية، لكن أيا يكن الأمر، يجب الاعتراف بوجود مسلحين، وهؤلاء المسلحون في الواقع اغتالوا عملية الإصلاح، ومع ذلك أنا أتمنى أن تكون الدولة أكثر صبراً، وأن تستخدم البدائل الممكنة لمواجهة هؤلاء المسلحين. هناك الآن في سورية عشرات المسيرات السلمية التي تبدأ وتنتهي من دون إطلاق نار ومن دون اعتقالات، وهذه طبعا توفر مناخات أفضل للإصلاح، فأنا أعتقد أن العنف سيؤدي إلى مزيد من العنف، وسيقلص مساحات الحوار المرجوة وإمكانيات بناء البلد.

* الدولة بدأت مسيرة الإصلاح مع تشكيل حكومة الدكتور عادل سفر، والبعض لا يعتقد بإمكانية الإصلاح من داخل بنية متهمة بالفساد والطغيان؟

* في سورية هناك قانون ولا أحد فوق القانون، والإصلاح الذي طالب به الناس ولا زالوا هو الإصلاح مع الاستقرار، الإصلاح مع الرئيس بشار الأسد، وهذا على الأقل ما أتمناه وأتبناه، وأعتقد أن هذه الصيغة هي الأفضل لاستقرار بلادي، وما أعتقده أن خطاب السيد رئيس الجمهورية المنتظر يوم غد الإثنين سيحمل إجراءات جدية لجهة إلغاء عدد من المؤسسات ألتي أصبحت عبئا على الحرية وحقوق الإنسان، والدفع باتجاه مشاركة حقيقية في الحياة السياسية بما يحقق حياة ديموقراطية أفضل، المسألة من وجهة نظري أن الإصلاح يرتبط مباشرة بالسيد رئيس الجمهورية، ونحن ننتظر خطوات جدية وجريئة من قبله لإنقاذ البلد وتخفيف الاحتقان والجلوس إلى طاولة الحوار الوطني.

* ألا تعتقد أن ما يجري في سورية أكبر من كونه مجرد صراع على السلطة، وأنه يمكن أن يقود إلى الكثير من الاحتمالات الأسوأ كحرب أهلية، أو تدخل خارجي، أو دمار البلد ؟

* كان من الممكن تجنب ظاهرة الغضب الشعبي التي نشهدها الآن لو تمّ انجاز الإصلاحات بعد رحيل بوش عام 2008 لأن كل شيء كان ممكنا. للأسف تأخرت الإصلاحات وتوسعت الهوة بين النظام والناس ونمت قناعات عند بعضهم أن الإصلاحات لن تأتي، فخرجوا يهتفون للحرية.

ولكن أمام السيناريوهات المرسومة لسورية واحتمالات التدخل الدولي لا أملك إلا أن أناشد السلطات اتخاذ خطوات جريئة وسريعة لإنهاء الاستعصاء القائم في البلد وقطع الطريق على إمكانية التدخل الأجنبي.

ولا أعتقد أن الأمريكيين سيقدمون لسورية أفضل مما قدموه في العراق وما يقدمونه حاليا في ليبيا، فسورية لها حدود مع الكيان الصهيوني، وأمريكا ملتزمة بتأمين التفوق الاستراتيجي لإسرائيل، ومن شاهد مجلسي الكونغرس والشيوخ وهم يصفقون مؤخرا لنتنياهو 19 مرة سيعلم أي سيناريو ينتظر سورية. لهذا أقول أنه من الخيانة أن ننتظر الإنقاذ من أمريكا، والمطلوب أن نلتفت إلى الداخل، ونتشارك في الحوار الوطني من أجل الإصلاح وبناء البلد.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى