روزا ياسين حسنصفحات مميزة

الدمى السورية المتحركة: روزا ياسين حسن

روزا ياسين حسن

قبل أيام أعلن “المرصد السوري لحقوق الإنسان” بأن بعض الكتائب المسلّحة المحسوبة على المعارضة السورية، ككتيبة “شهداء بدر” التابعة لكتائب “أحرار سوريا”، تقوم بتعذيب المدنيين وابتزازهم في حي “الأشرفية” في مدينة حلب شمال سوريا.

وشاع في مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع النت الإخبارية أخبار مكثفة عن جملة من الممارسات من قبل مجموعات مشابهة تدّعي انتماءها للجيش الحر الذي يقود حربه ضد النظام السوري. هذه الأخبار تتحدث عن ممارسات مختلفة تتوزع بين القتل والخطف والانتقامات والنهب والسرقة، كسرقة آلات المعامل وبيعها من قبل كتيبة “شهداء عندان” على سبيل المثال. لكن تلك الممارسات قوبلت بالرفض من قبل شارع المعارضة السوري، شارع “العامة” بمعنى آخر، سواء بمظاهرات مناهضة أو بشعارات ولافتات معارضة، كاللافتة التي رفعها الشباب الثائر في حلب وتقول: “لا لشرعنة سرقة الأموال الخاصة”. هذا يعكس الفرق الواضح بين نهجين ورؤيتين ونظامين أخلاقيين مختلفين تماماً بين ما يسمى “الغوغاء” وبين “العامة”، التي تعني الشعب. وتباينت ردود الأفعال بين مكذّب لكل ذلك ينأى بالثورة عن هذه الأفعال، ويتهم من يقول بذلك بتعامله مع النظام، وبعض يؤكد حدوثها لجهة التأكيد على تغير وانحراف في نهج الثورة، وبعض ثالث يرى بأنها تصرفات فردية جزئية لا تؤثر على المسار العام للثورة.

أعتقد بأن من واجبنا هنا التركيز على الفرق الجوهري بين “الغوغاء” و”العامة”، وقد سبق وفنّده كثير من المفكرين أمثال هادي العلوي وطه حسين وغيرهما. فإذا نظرنا أبعد من التصنيف الطبقي فسنرى الفرق بين “العامة: الشعب”، وهم السواد الأعظم للناس التي قامت بالثورة، وبين “الغوغاء” تلك التي تتحرك حسب ما يريده رجال الدين والمال والسياسة، أو ما تريده مصالحهم. هؤلاء “الغوغاء”، المختلفون تماماً عن عامة الشعب، هم ظاهرة اجتماعية موجودة في كل مجتمع، تعني الكلمة “اصطلاحياً” سفلة الناس الذين يثيرون الفوضى والضجة لكثرة لغطهم وصياحهم. هؤلاء تحركهم دوافعهم وارتهاناتهم المادية، كما ينتظرون الفرصة المناسبة التي تتمثل في مثل هذه الأوقات، الانتفاضات والثورات والمظاهرات الشعبية والحروب وفراغ السلطة، فيندسون في الجموع ويفعلون ما يريدونه. إنهم باختصار عنصر حارف للأحداث السياسية، من الممكن له أن يكون “غوغاء دينية” كذلك، تتحرك على فتاوى رجال الدين لاضطهاد العقول الحرة. فمن صلب الحلاج وقطّع يديه ورجليه هم “غوغاء” بغداد وليس “عامتها”. ولئن حاولت الديكتاتوريات إطلاق تسمية “الغوغاء” على الشعب، لتشويه صورة ثوراته ضدهم، فهذا لا يعني البتة صحة قولهم، لأن “العامة” هم سواء الناس وجمهورهم الأعظم، يغلب عليهم التدين العفوي البسيط وغير المتعصّب، والتديّن العام لا يتسيّس. فتمسّك عامة الجماهير بالإسلام لا يسمّى تديناً، ولا يشترط التديّن كنهج فردي ولا السلفية كنهج سياسي مثلاً.

يرى علي الوردي في كتابه “لمحات” بأن ليس هناك شعب خال من الصفات الحميدة وكذلك ليس هناك شعب بدون صفات سلبية، فالإنسان ينكشف معدنه عند الشدائد، وهذا ما حصل مع الشعب العراقي بعد الحرب العالمية الأولى وما عاد وتكرر معه بعد العام 2003 حين مرّت البلاد بمرحلة تحوّل جذرية وحادة نتج عنها خروج لبعض المجرمين والمتطرفين بسبب الانفلات الأمني وسقوط الدولة الديكتاتورية، فغدت تصرفاتهم “باسم الشعب” تصفية للحسابات والانتقامات الشخصية والنزعات الغرائزية. هذا الخلط بين “الغوغاء” و”العامة” ذكره الوردي في المرحلة التي تلت ثورة 14 تموز بقيادة عبد الكريم قاسم، حين ساهم “الغوغاء” في تشويه صورتها إلى حد القضاء عليها. لكن هذا الأمر حدث مع معظم الشعوب التي مرت بتحولات جذرية بعد الهزات الكبرى، كما في الثورة الفرنسية والبلشفية، وذكره ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي الذي هاجمهم إلى حدّ الشتيمة بأن ثورة البروليتاريا تجرّهم، لكن ظروف معيشتهم وأوضاع حياتهم تجعلهم أكثر استعداداً لبيع أنفسهم للرجعية!.

اليوم ثمة الكثير من مصادر وأشكال الدعم التي تزجّ في سوريا باسم الانتصار لثورتها، يذهب الكثير منها إلى جماعات ليست متآلفة ولا متعاونة أصلاً مع الجيش الحر ولا مع ثوار سوريا، وتسحب أموال الدعم الآتية للشعب السوري المنكوب لصالحها، هؤلاء “الغوغاء” مرتهنين للمال السياسي، وثمة مجموعات منها تحلل القتل والنهب والخراب باسم الدين والثورة،¬¬¬ أدوات لنقل الفعل الديني من الحدود الثقافية – الدينية الطبيعية، الذي هو عليها بين “العامة”، إلى المعنى السياسي والصراع على السلطة، ومن هنا تحمل الفكرة التي يعمل “الغوغاء” من أجلها معنى شوفينياً فاشياً متعصباً وأحياناً دموياً!، هؤلاء ليس لهم علاقة بثوار سوريا الذين خرجوا ابتغاء للحرية والديمقراطية ودولة المساواة، ولئن حاولت “الغوغاء” تسلّق الركب الثوري لمصالحها وارتهاناتها فهذا لا يعني سحب أحقية الشعب السوري “العامة” بما خرج من أجله في ثورته ودفع من أجلها الأثمان الغالية. كما أن فضح ممارسات “الغوغاء” التي تشوه صورة “العامة” ضرورة وطنية كما هي ضرورة ثورية وليس في الأمر ما يسيء للشعب وثورته. هذا القول برمته ينطبق كذلك على الشارع الموالي، فمن يطلق عليهم السوريون “الشبيحة”، أولئك الذين ارتكبوا الكثير من المجازر والفظاعات، هم “غوغاء” الموالين وليس “عامتهم”، يسيّرهم المال السياسي للنظام وأتباعه، كما تسيرهم مصالحهم وطموحاتهم.

باختصار، سوريا وثورتها ومستقبلها ملك لـ”العامة”، “للشعب”، وليس من الانصاف أن يتم الحكم على “العامة” بجريرة بعض “الغوغاء” وتصرفاتهم، أولئك الذين وصفهم ماركس بالحشرات الجامدة، تلك التي يخبرنا التاريخ بأنها، على الدوام، تزول مع انقضاء موجات العنف، ويبقى الجسد السوري ليتابع حياته قدماً حتى لو طال الزمن وتعقدت الأحداث وغلت الأثمان والتضحيات.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى