صفحات الرأيمنير الخطيب

الدولة الوطنية ليست لغواً/ منير الخطيب

 

 

كتب الأستاذ حسام عيتاني، في صحيفة «الحياة» بتاريخ 5 أيار (مايو)، مقالاً بعنوان «لغو الدولة الوطنية». ولأنني أعتقد أن حسام عيتاني هو من كتّاب الحياة المرموقين أولاً، وأن قضية الدولة ومسائلها ستكون شاغل شعوب المنطقة العربية طوال القرن الحالي ثانياً، أرى من الواجب التداخل مع معظم الأفكار التي وردت في المقال المذكور.

في البداية، سأحرر مصطلح الدولة الوطنية من المزدوجين اللذين وضعهما الكاتب، وأقول، بخلاف رأيه، إن مفهوم الدولة الوطنية لم «يطلع علينا منذ شهر»، بل كان حاضراً بقوة لدى عدد من المفكرين العرب الكبار منذ السبعينات. فالراحل إلياس مرقص أسس مفهوم «دولة الحق والقانون» منذ ما قبل السبعينات، والدولة الوطنية ليست، في أحد معانيها، سوى دولة حق وقانون. وفي حوار دار بينه وبين الراحل جورج طرابيشي عام 1964، حذّره إلياس مرقص من استخدام مصطلح «الدولة القطرية»، لأنه سيؤول إلى طغيان صفة القطرية على مفهوم الدولة، الذي يحتاج إلى تأسيس نظري شاق في الفكر العربي المعاصر، فضلاً عن تأسيسه في الممارسة السياسية. وكان إلياس مرقص يدافع منذ ذلك الوقت عن فكرة تحويل «الدول» في الكيانات القائمة إلى دول حق وقانون في زمن جموح يسراوي ساذج مضاد للدولة بوصفها «أداة قمع طبقي».

والتنويه هنا واجب أيضاً إلى حراك «ربيع دمشق» بداية القرن الحالي، حيث برز مفهوم الدولة الوطنية كأحد المفاهيم السيدة في هذا الحراك، بخاصة في وثيقة «لجان إحياء المجتمع المدني»، وفي بداية الثورة السورية السلمية كان على رأس المفاهيم المتداولة بين المثقفين والنشطاء السوريين، بخاصة أولئك الذين ظلوا خارج مؤسسات المعارضات السياسية الرسمية، التي تواطأت مع «الإخوان المسلمين» على مصطلح «الدولة المدنية» الملتبس والفضفاض، والذي يشي بفقر نظري كبير.

بكلام آخر أيضاً، إن تتبع مصدر المصطلح لا يوصل، كما قال الأستاذ عيتاني، إلى السجال الدائر بين قوى الإسلام السياسي وقوى الأمر الواقع المرتبطة بـ «الدول التسلطية»، والطامحة لإعادة الأوضاع إلى ما قبل «الربيع العربي».

كما يربط الكاتب بين مفهوم الدولة الوطنية و «الدول التسلطية» القائمة، التي كانت الثورات العربية بمثابة «ردود أفعال على الفشل التام لسياساتها». يحمل هذا الربط مقداراً كبيراً من التعسف وعدم الإنصاف بحق المفهوم. فالنخب العربية على اختلاف اتجاهاتها طيلة العقود الماضية، لم تعر مفهوم الدولة اهتماماً نظرياً وعملياً، ويمكن القول إن فشل العرب طيلة القرن الماضي هو أساساً فشل في تشكيل الدول الوطنية، وكان عبدالله العروي محقاً حين كتب: «إن العرب والمسلمين لا يملكون نظرية عن الدولة، بل يملكون أدلوجة الدولة».

إن «أدلوجة الدولة» تلك، شوشت وعي النخب لموضوعة الدولة، وحجبت مضامينها العمومية والعلمانية والأخلاقية والإنسية والمواطنية، بخلاف واقع «الدول السلطانية» المحدثة في مختلف البلدان العربية، التي هي «دول – طغم» بصرف النظر عن ماهية الطغمة الحاكمة، ومنابع أقلويتها واستباحتها لإرادات «شعوبها»، واحتكارها المطلق لمصادر الثروة والسلطة، وتحويل «المجتمع» إلى مجرد موضوع لإرادتها «المتعالية». وما برحت تلك «الدول» منذ خمسين عاماً تكون «دول حرب على مجتمعاتها»، بدءاً من حروب التهميش والإقصاء والاعتقال والاغتصاب الجنسي، وصولاً إلى الحرب الفعلية بالبراميل المتفجرة والصواريخ والأسلحة الكيماوية. فهي «دول» عارية من أي مبدأ أخلاقي أو إنساني أو قانوني، وهذا يتعارض تعارضاً مطلقاً مع مضامين الدولة الوطنية بوصفها دولة جميع المواطنين، أي دولة الكل الاجتماعي، التي تتطابق حدود وطنيتها مع حدود علمانيتها، ويصير مبدأ حيادها، إزاء الأديان والمذاهب والطبقات والأحزاب والأفكار، مبدأً مؤسساً.

لذا يصبح قول السيد عيتاني بأن «حقوق الأفراد والجماعات الدينية والإثنية تغيب عن أذهان المروجين لفكرة الدولة الوطنية»، قولاً فيه الكثير من التجني، لأن الدولة الوطنية لا تنظر إلى مواطنيها إلا كونهم مواطنين وحسب، ولا تأخذ في الاعتبار الصفات الذاتية للأفراد، التي يجب إعدامها في المجال السياسي، في الوقت الذي تشجع فيه ثنائية دولة وطنية – مجتمع مدني حرية العقائد والإثنيات والطوائف والأفراد بصفاتهم الطبيعية في رحاب المجتمع المدني، الذي هو مجال الحرية الذاتية، فيما تكون الدولة مجال القانون، أي مجال الحرية الموضوعية.

وفي هذا السياق، تحضرني مقولة لياسين الحافظ بأن «الشعوب المتأخرة، التي لم تنجز ثورة بورجوازية ديموقراطية، لا يحق لها نقد التراث البورجوازي الغربي، باسم اشتراكيات متأخرة، فهي تنتقد تراثاً لم تمتلكه بعد». بهذا المعنى: يفضي نقد مفهوم الدولة الوطنية الذي لم نمتلكه بعد نظرياً وعملياً، إلى تقوية تشكيلات ما قبل الدولة الوطنية، وإعاقة قيام اجتماعات لها طابع عمومي متحرر من الروابط الأولية.

كذلك فإن طريق شعوب المنطقة إلى الكونية والمعاصرة والخروج من حالات التدمير الذاتي، يتم بواسطة قيام دول حديثة، تنتفي معها حالات التناثر العرقي والديني والطائفي. فالمعادل الموضوعي لصعود حركات اليمين في الغرب، هو قيام «دول» في بلادنا مركوبة بعقدتي القومية والإسلام، أو قيام مخلوطة «دول» وطوائف وقوميات.

والذهاب إلى الأنظمة اللامركزية أو الفيديرالية المطروحة في سورية وغيرها، من دون بناء فضاء وطني وامتلاك وعي عميق بمفهوم الدولة وتعقيداته، هو وصفة لحروب مديدة على أرضية الانقسامات المجتمعية الحادة. فالفيديرالية أو اللامركزية وغير ذلك، يجب أن تكون تنويعات على تشكيلة المسألة الوطنية، وليست متخارجة معها.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى