صفحات الرأي

الديموقراطية بنتُ المُضطَهدين والقرن العشرين/ ثائر ديب

 

 

بخلاف الدعاية الرائجة، ليست الديموقراطية، حتى بمعناها الضيّق المقتصر على حقّ الاقتراع، بنت البرجوازية بل بنت الطبقات الشعبية والشعوب المستعمَرة والنساء والملوَّنين والإثنيات الخاضعة، كما أنّها ليست قديمة قِدَم البرجوازية بل نتاج القرن العشرين. وإذا ما كان النظام الرأسمالي يقتضي الليبرالية، فإنّه لا يقتضي الديموقراطية، بل هو أَمْيَل إلى إقامة حكم القلّة (الأوليغارشية) وحكم الأثرياء (البلوتوقراطية)، وهما شكلان من الحكم كان أرسطو قد وضعهما مقابل الديموقراطية ليشرحها في ضوء التعارض معهما. وما يعنيه هذا هو أنّ ثمة ضرورة نظرية وتاريخية ونضالية لفكّ الاقتران بين الليبرالية والديموقراطية، هذا الاقتران الذي هو واحدة من أكبر السرديات الأيديولوجية، بالمعنى الرديء لكلمة أيديولوجيا.

ظلّت الملَكيّات المختلفة أشكالاً للحكم في أوروبا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وحلّت محلّ هذه الأنظمة التقليدية في بعض البلدان (كإيطاليا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال) كلٌّ من الفاشية والديكتاتورية العسكرية، فلم تقم أنظمة ديموقراطية في ألمانيا وإيطاليا إلا بعد الحرب العالمية الثانية، في حين استمرت الديكتاتورية العسكرية في إسبانيا والبرتغال حتى سبعينيات القرن العشرين. ولا تزال الأنظمة السلطوية سائدة في معظم العالم الثالث.

حتى في الدول التي تُعتبر قوى استعمارية عظمى ليست الديموقراطية البرجوازية بالقِدَم الذي يزعمه أيديولوجيوها. ولو اقتصرنا هنا على مثال الولايات المتحدة، لوجدنا أنّ إعلان دستورها في أواخر القرن الثامن عشر الذي يفيد أنَّ «جميع الناس وُلدوا متساوين» لم يَحُل دون استعباد ملايين البشر من السود الأميركيين على مدى الثمانين عاماً التي تلت هذا الإعلان، أو دون استمرار الفصل العنصري القانوني بين البيض وغير البيض في أرجاء واسعة من البلاد حتى خمسينيات القرن العشرين.

حتى حقّ الاقتراع الذي تعتبره البرجوازية جوهر الديموقراطية، هو مسألة من مسائل القرن العشرين، إذ ابتدأ القرن وحقّ النساء في الاقتراع مقتصر على نيوزيلندا وولاية وايومنغ الأميركية، ولم يكتمل نيل النساء هذا الحقّ في جميع البلدان التي تجري فيها انتخابات إلا في العام 1960. ولم تمنع البلاغة الثورية في دساتير وإعلانات الثورتين الأميركية والفرنسية ماري ولستونكرافت من التساؤل عن جنس الشعب والمواطن الذي تتكلم باسمه هذه النصوص.

لا يتسع المجال هنا للكلام على ما تركته الحركات العمالية والفلاحية والحركات المناهضة للاستعمار من أثر مُنْشِئ للديموقراطية. وإذا ما كانت هذه الحركات تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر، وربما إلى قبل ذلك، إلا أنها اتّخذت زخماً جديداً وتغيّرت بصورة نوعية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، لتنفجر في القرن العشرين على هيئة إعصار راح يضم إليه مزيداً من قطاعات المجتمع الواحد ومزيداً من مناطق العالم.

هذا المشروع الديموقراطي هو ما وقف النظام الرأسمالي في وجهه وضيّقه ما وسعه ذلك، بخلاف الأسطورة التي تقرن الديموقراطية جوهرياً بالرأسمالية. ومع ما حققه هذا النظام مؤخّراً من انتصارات، هي هزائم لقوى الديموقراطية الآنفة الذكر، كان أن نشأت مجموعة من الحالات المرضية السياسية، مثل الصحوات الدينية التي تعمّ العالم، والحركات الفاشية والعنصرية الجديدة في أوروبا، و «تَلَبْرل» كثير من اليسار، والحركات الأصولية والإرهابية العالمية المدى، ومختلف «سياسات الهوية» التي تشوّه نضالات الشعوب وتطلعاتها إلى التحرر والعدل.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى