صفحات الناس

كتائب أبو عمارة: حالة خاصة أم مثال؟/ عقيل حسين

 

 

في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، تم الإعلان بشكل رسمي عن انطلاق “كتائب أبو عمارة” عبر تنفيذ عملية اغتيال استهدفت أحد قادة الشبيحة في مدينة حلب. وكانت الولادة باسم “سرية أبو عمارة للمهام الخاصة”.

لم تكن هذه العملية هي الأولى من نوعها، بل سبقتها عمليات نفذها ناشطون بشكل فردي، إلا أنه مع هذا الإعلان، تم تسجيل ولادة أول قوة عسكرية من حلب المدينة، ستمثل واحدة من أهم تجارب الثورة الغنية بالتناقضات والتحولات الناتجة عن معطيات مختلفة، يلعب فيها المعطى الشخصي دوراً أساسياً، مثل الكثير من التجارب المشابهة الأخرى.

فكما أن “جيش الاسلام” ارتبط اسمه باسم زهران علوش، ومثلما التصق اسم “لواء التوحيد” باسم عبد القادر الصالح، ومصيره، وكما ظل اسم أبو محمد الجولاني، مرادفاً لـ”جبهة النصرة/فتح الشام”، فقد ارتبط اسم “كتائب أبو عمارة” باسم قائدها وأحد مؤسسيها: مهنا جفالة “أبو بكري”.

فهذا الشاب الوسيم، الذي لم يكن عمره قد تجاوز السابعة والعشرين، عندما انطلقت الثورة، سيطر بشكل طاغ على الفصيل، الذي أسسه مع مجموعة شبان جمعتهم المظاهرات والعمل في التنسيقيات التي قادت الحراك الشعبي في أحياء المدينة، حتى أصبح الرقم الرئيس فيه. ولم ينازع جفالة على هذا الموقع أحد، سوى مرة واحدة، عندما طالب فيها زميله ياسر العبد، أحد الثلاثة المشاركين في تأسيس “كتائب أبو عمارة” بقيادتها، وذلك إثر الإفراج عنه من قبل النظام، بعد عملية تبادل أسرى، عام 2014، إلا أن القضية مرت من دون آثار كبرى.

لكن وعلى عكس الفصائل التي استفادت من ثقل ورمزية مؤسسيسها أو قادتها، فنمت وتطورت وسيطرت على المشهد، فـ”الكتائب”، وهو توصيف مجازي مبالغ فيه لهذا الفصيل، دفعت بعض الأثمان أحياناً بسبب ارتباط كل شيء فيها باسم قائدها، رغم الاستفادة في البداية من تركيز الإعلام عليه، كشاب متعلم، فضّل مغادرة كلية الاقتصاد في جامعة حلب قبل تخرجه، لصالح النضال ضد النظام الديكتاتوري، قبل أن تحدث الكثير من المتغيرات لاحقاً.

فـ”أبو عمارة” التي كانت قبل دخول “الجيش الحر” إلى حلب، صيف العام 2012، تشكل هاجساً أمنياً مقلقاً للنظام، بدأ خطها البياني بالهبوط بعد دخول الفصائل الأخرى إلى المدينة، التي كانت ميدان الكتيبة الخاص، وأحد أهم الرمزيات التي استندت إليها.

ومقابل الفصائل القادمة جميعها من الريف، كانت “أبو عمارة” تمثل الفصيل الحلبي الوحيد، قبل ولادة ألوية وكتائب أسسها أبناء المدينة لاحقاً. لكن قبل ظهور هذه القوى، ونتيجة الشهرة الكبيرة التي توفرت لـ”أبو عمارة” على الصعيدين الشعبي والإعلامي، بسبب العمليات التي نفذتها، والعلاقة القوية التي ربطتها بالناشطين والتنسيقيات داخل المدينة، فقد استحوذت “الكتائب” على دعم التجار والميسورين من أبناء مدينة حلب المؤيدين للثورة. دعم وإن لم يكن كبيراً، إلا أنه كان كافياً لتستمر “أبو عمارة” بالشكل المطلوب.

وما كان مطلوباً هنا، هو أن تتوسع هذه المجموعة، وتشكل القوة التي كان يأمل الحلبيون أن تكون “قوة المدينة” التي تحميها من آثار أي غياب للسلطة، وتستقطب شبابها الراغب والقادر على حمل السلاح ضد النظام، لتحقيق التوازن مع فصائل الريف. لكن هذه الرغبة لم تستطع الكتيبة تحقيقها، لتكتفي بتقاسم المركز التالي مع بقية الفصائل خلف “لواء التوحيد”، الذي ظل ولفترة طويلة، الرقم واحد في حلب.

وبمرور الوقت، بدأ موقع ومكانة “كتائب أبو عمارة” يتراجع أكثر، مع وقوعها في الفخ ذاته الذي سقطت فيه معظم الفصائل في تلك الفترة، حين أقحمت “أبو عمارة” نفسها في الشأن المدني، لتدخل في سباق كان أكبر من حجمها من أجل السيطرة على المؤسسات المدنية، والتدخل في حياة السكان والمجتمع. وفقدت “أبو عمارة” رمزية أخرى كانت تميزها عن بقية الفصائل بالنسبة للحلبيين.

ارتكبت “الكتائب” ابتداء من العام 2013، العديد من الأخطاء الكبيرة التي أدت إلى خسارتها جزءاً مهماً من رصيدها الشعبي والإعلامي، بدأ من تبنيها لعمليات استهداف شخصيات في النظام، لم تكن هي من نفذتها، أو مبالغتها في نتائج عمليات أخرى قامت بتنفيذها، وليس انتهاءً بمشاركة عناصرها، في التهجم على فعاليات ثورية كانت تقام في مدينة حلب عام 2015، بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاقة الثورة السورية، حيث جرى استهداف علم الثورة والناشطين المشاركين في هذه الفعاليات.

لكن اللحظة المفصلية الأكثر تأثيراً في مسيرة كتائب “أبو عمارة” على الإطلاق، كانت في إعلانها رفض قتال تنظيم “الدولة الإسلامية” وانسحابها من تجمع “فاستقم كما أمرت” مطلع العام 2014، بسبب انضمام “التجمع” للفصائل التي أعلنت الحرب على التنظيم.

ورغم التبريرات المختلفة التي قدمها قادة الكتائب لهذا القرار، وكذلك القيام ببعض المبادرات، كاستضافتهم عضوي “الإئتلاف” و”المجلس الوطني” سمير نشار وجورج صبرة، في حلب لأيام متعددة، منتصف العام 2014،  إلا أن العديد من التصرفات والتصريحات التي كانت تصدر بين الحين والآخر عن عناصر وقادة في الكتيبة، خصوصاً في مواقع التواصل الإجتماعي، اعتبرت متماهية أو مؤيدة لـ”داعش”، زادت من متاعب الفصيل.

أما على الصعيد الشعبي والاجتماعي، فقد ارتكبت الكتائب العديد من الأخطاء القاتلة، التي وجهت ضربة قوية لمكانتها بين الأهالي في مدينة حلب، خصوصاً خلال العام 2014، بسبب جملة الإعدامات التي نفذتها بحق من قالت “إن قضاءها الخاص حكم عليهم بالموت بسبب قضايا مختلفة”. وكان أبرزها إعدام أشخاص بسبب مشاركتهم في انتخابات النظام الرئاسية، وقتها، على الرغم من أنهم كانوا موظفين في المؤسسات الحكومية، ومضطرين للمشاركة في التصويت.

وإلى جانب الغضب الذي أثارته هذه التصرفات لدى الوسط الثوري في حلب، فقد دفعت العديدين للكشف عما قالوا، إنها تفاصيل عملياتٍ، سبق وأن تبنتها الكتائب “في إطار العمل الثوري”، لكن ضحاياها كانوا في الواقع أبرياء، وسقطوا إما نتيجة أخطاء، أو بسبب خلافات وحسابات خاصة تمت تصفيتها. الأمر الذي زاد من خصوم قادة الكتيبة، وأدت في النهاية إلى استهداف قائدها أبو بكري، في حزيران /يونيو 2015 بعبوة متفجرة أدت إلى بتر قدميه.

وتبين أن منفذ العملية، وهو عنصر في “تجمع فاستقم”، وقد رتبها انتقاماً من جفالة، الذي سبق وأن قتل أحد أشقائه عام 2013، وحُكم عليه بسبب ذلك من قبل “الهيئة الشرعية” التابعة للمعارضة في حلب، لكنه لم ينفذ تلك العقوبة.

لم تكن هذه القضية عابرة، فبسببها شاركت “كتائب أبو عمارة” في الهجوم الذي شنته “حركة نور الدين زنكي” مؤخراً على “تجمع فاستقم”. قائد الكتائب مهنا جفالة، يعلل سبب مشاركتهم في الهجوم، بمماطلة قائد “التجمع” بتسليم العنصر الذي رتب عملية استهدافه، على الرغم من تسلمه إياه قبل الهجوم على “التجمع” بأيام.

حدث كبير بالفعل إذا ما نُظر إليه من زاوية “أبو عمارة”. وإلى جانب أن قادة “أبو عمارة” و”التجمع” كانوا مقربين من بعضهم، ويصعب تخيل أن يشنّ أحدهما الحرب على الآخر، مهما بلغت الخلافات، فإن أكثر المتفائلين بـ”أبو عمارة” التي لا يزيد عدد عناصرها اليوم عن 250 مقاتلاً، لم يكن يتوقع أن تقوم بمثل هذه المغامرة، وتشارك في الهجوم على “تجمع فاستقم” حتى مع وجود حليف بحجم “حركة نور الدين زنكي”. إلا أذا كان قادة “أبو عمارة” قد أملوا بتوجيه ضربة ناجزة في هذا الهجوم، تفكك “التجمع” نهائياً وتمنعه من العودة والانتقام.

وبغض النظر عن الحسابات المحتملة، وعن الاتهامات التي وجهت أو ستوجه لكتائب “أبو عمارة” حول هذا الحدث بالتحديد، فإن ما يلفت الانتباه في هذا الفصيل، أنه كان على الدوام قوة عنيدة واجهت كل اللحظات العصيبة التي مرت بها. فحافظت على تواجدها في كل الظروف، بل إنها لم تضطر للتوحد أو الذوبان في فصيل أكبر. عدا أنها ظلت مستقلة بالمعنى المجمل للكلمة، إذ ليس هناك انتماء إيديولوجي أو سياسي واضح للكتائب.

لكن الحفاظ على هذه الاستقلالية التنظيمية من جهة، يرى فيه الكثيرون حالة سلبية تدفع للتساؤل عن السبب الذي يجعل قادة “أبو عمارة” متمسكين باسم الفصيل وقيادته، رغم كل الدعوات لتوحد قوى الثورة والمعارضة العسكرية. بينما يمثل الحديث المفرط عن الاستقلالية السياسية لديها، بحسب البعض، حالة ملتبسة تدفع باستمرار للتساؤل عن هوية هذا الفصيل، وما إذا كان لا يزال يعتبر نفسه جزء من “الجيش الحر” أو من الفصائل الإسلامية، وأي تيار إسلامي بالتحديد ينتمي إليه.

فما بين البداية بخطاب يتحدث عن الحرية وحقوق الانسان، وتخليص السوريين من الديكتاتورية والاستبداد، الذي كان يتحدث به قائد “كتائب أبو عمارة” في إطلالاته الإعلامية حتى العام 2013، وما بين تبني خطاب التنظيمات الجهادية المعولمة، والذي بلغ ذروته في البيان الذي أصدرته “الكتائب” بعد مقتل أبو عمر سراقب، أحد قياديي “جبهة فتح الشام” في أيلول/سبتمبر، بغارة أميركية على ريف إدلب، والذي تجاوز التعزية المعتادة والإدانة من فصائل أخرى، إلى تهديد الولايات المتحدة بالانتقام، مسار طويل من التحولات.

مسار يرى البعض أنه نتيجة ظروف السنوات الماضية شديدة القسوة، بينما يعيده البعض إلى وجود الفكر السلفي الجهادي لدى عدد من القادة في “كتائب أبو عمارة” منذ البداية، وظهرت تجلياته مبكراً، حيث أصرت “الكتائب” دوماً، وعلى سبيل المثال، على رفض الاعتراف بأي مؤسسة قضائية غير قضائها الخاص، رغم صغر حجم الفصيل، وهي صفة مشتركة بين كل جماعات السلفية في سوريا اليوم، والتي يحتفظ كل منها بمؤسساته القضائية ومرجعياته الشرعية الخاصة.

لا تمثل كتائب “أبو عمارة” حالة فريدة من نوعها، بل إن هناك مجموعات عديدة في مختلف المناطق السورية، حظيت بتجارب مشابهة. الأمر الذي يرى فيه البعض، تجسيداً لجانب من المزاج الشعبي المتأثر بالظروف القاسية التي يعيشها، والذي يُشكل في النهاية مناخاً غير مستقرٍ، لا يمكن معه إصدار أي أحكام حاسمة على مثل هذه المجموعات.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى