صفحات الرأي

الرأسماليّة في طور جديد… عالم اقتصادي من غير نموّ وتضخّم ضامر/ كليمان لاكومب ، مارك فينيو

 

 

«إذا لم تفهموا ما يجري في اقتصاد منطقة اليورو، (لا تقلقوا) لستم وحدكم وهذه حال كثر. فالوضع الاقتصادي لم يكن يوماً على هذه الحال من الاضطراب والالتباس»، يقول جان بيزاني – فيري، مدير مؤسسة «فرانس استراتيجي» الملحقة برئاسة الوزراء الفرنسية. فالاقتصاد العالمي في حال من الاضطراب لا نظير لها في السابق. وهو يفتقر الى الاستقرار، وكثير من الإجراءات والنظم لم تعد تجدِ: فانخفاض البطالة في الولايات المتحدة وإنكلترا، لم يعد كافياً لتحفيز نمو الرواتب. وتدني معدلات الفائدة لا يحرّك عجلة الاستثمار. وخفض سعر العملة لا يرفع معدلات الصادرات. وهبوط أسعار النفط لا يساهم في استئناف النمو الاقتصادي… ويرتسم وجه عالم اقتصادي جديد، وسماته الأبرز هي: عالم من غير نمو.

ويرى لورنس سامرز، وهو مدير الخزانة الأميركية في عهد بيل كلينتون ومدير هارفرد السابق، أن الدول المتطورة دخلت في عصر «ركود معمر» يسوده نمو ضامر أو ضعيف أو معدوم. وإثر الأزمة المالية في 2008، لم يعد النمو الاقتصادي الى سابق عهده قبل الأزمة. فجذور الركود ضاربة في الطلب الدولي الضعيف على الخدمات. والاختلال يشوب حركة الاقتصاد الدولي: الفائض في الادخار، يقابله، في الدول النامية تحديداً، أفول في الاستثمار الشامل. ويوافق روبرت غوردن، وهو اقتصادي أميركي، سامرز الرأي عن الركود المعمر، لكنه يرى أن النمو الضامر مرده الى أن التكنولوجيا الجديدة لا تنتج مكاسب في الإنتاجية. ويقول دانيال كوهين، الخبير الاقتصادي صاحب «العالم متناه والرغبة مطلقة»، أن الرقمنة لم تترافق، على خلاف الثورات التكنولوجية في القرن الماضي، مع ثورات في قطاعات الكهرباء والزراعة تساهم في بلوغ معدل النمو 2 في المئة سنوياً. واليوم، الثورة تكاد تقتصر على السمارت فون (هواتف ذكية).

الدول النامية ليست عجلة النمو

في خريف 2001، أشادت دراسة نشرها بنك غولدمان ساكس وتصدرت عناوين «بي بي سي» وأعدها الخبير الاقتصادي جيم أونيل، بقدرات دول «بريك» (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين) الاقتصادية. وذهبت الى أن هذه الدول «تحلق» وتحرز نجاحات كبيرة وسريعة. وذاعت هذه الخلاصة ذيوعاً كبيراً، فحسِب كثرٌ حين اندلاع أزمة 2008 أن مجموعة «بريكس» (مع جنوب أفريقيا) ستكون محرك الاقتصاد، في وقت تتعثر الدول المتقدمة. لكن البرازيل وقعت في شراك سلسلة فضائح، والهند لم تخرج من الفقر، وروسيا اهتزّ اقتصادها إثر هبوط أسعار النفط الى أدنى مستوياتها في ربع القرن الماضي. ولقيت دول «سيفتس» (كولومبيا وإندونيسيا وفيتنام ومصر وتركيا وجنوب أفريقيا)، شأن دول «مينت» (المكسيك وإندونيسيا ونيجيريا وتركيا)، مصير دول «بريكس» – في ما خلا الصين. فالسكان المحليون في هذه الدول، على خلاف توقعات المصارف الغربية التي ابتكرت أسماء هذه المجموعات، ساروا على خطى الغرب، وبدأوا الادخار عوض الاستهلاك. ومعدل الادخار في الصين هو الأعلى في العالم.

تبدّد التضخم

والناظر اليوم الى حال الاقتصاد يكاد لا يصدّق ما يراه. ففي 1979، حين بلغ بول فولكر سدة البنك المركزي الأميركي، كان شغله الهوسي تقويض التضخم الذي ينهش الاقتصاد الأميركي. ففي 1979، ارتفع التضخم 12.8 في المئة. فرفع فولكر معدلات الفائدة على قروض الفيديرالي الى المصارف 19 في المئة في 1981. وبعد ثلاثة عقود، يسعى القائمون على المصارف المركزية الى بعث التضخم الضائع. فدفق السيولة النقدية التي أغدقوها على النظام المالي لتجاوز الأزمة المالية في 2008، لم يساهم في تحفيز الأسعار. ووراء ضمور التضخم هبوط أسعار النفط. لكن، ولو بعد اقتطاع سعر الطاقة (تدني كلفة الإنتاج والاستيراد)، التضخم لم يرتفع عن 1 في المئة، ولم يقترب من 2 في المئة، على ما اشتهت المصارف المركزية. فالتضخم الطفيف يقلص الديون العامة الضخمة في الدول المتقدمة. لكن مسخ التضخم المنفلت من كل عقال تنحى، وحل محله مسخ الانكماش الذي خفض الأسعار. وللوهلة الأولى، يحسب المرء أن الأسعار المنخفضة تعزز القدرة الشرائية. لكن الأسر والشركات تترقب انخفاض الأسعار أكثر قبل أن تقبل على الاستهلاك، فتقيد النمو والأسعار. ومدير البنك المركزي الأوروبي عاجز عن جبه الانكماش. فعلى رغم ضخّ آلاف بلايين اليورو في النظام المالي، لم تبلغ (آثارها) عامة الناس في منطقة اليورو. وعلى خلاف ما كانت عليه الحال في العالم القديم أو عالم الأمس القريب، كان ضخّ السيولة في الأسواق ليساهم في رفع الأسعار. ويقترح خبراء اقتصاديون على دراغي انتشال الاقتصاد الأوروبي من الغرق من طريق شهر السلاح الأمضى: «هيليكوبتر موني» (مروحية الأموال). وهذا المفهوم ابتكره في نهاية الستينات ميلتون فريدمن: سك النقود وإغراق الناس بها، لحملها على الاستهلاك ورفع الأسعار. والصيغة المعاصرة من «مروحية الأموال»، قد تقضي الى منح كل صاحب حساب مصرفي مبلغاً من المال من غير مقابل. فيظهر بين ليلة وضحاها مبلغ من المال (ألف أو ثلاثة آلاف يورو) في حساب المرء.

الاستدانة مربحة

«في 1998، حين بدأت مسيرتي المهنية، كان انخفاض الفائدة الى صفر أو أقل، احتمالاً نظرياً مستبعداً لا يُتناول في متن كتب الاقتصاد»، يقول كريستيان نواييه، حاكم مصرف فرنسا. لكن سياسات البنوك المركزية منذ 2008، توسلت مثل هذا الإجراء لانتشال الاقتصاد من الفوضى. فاشترت سندات الديون من الأسواق المالية وخفّضت معدل الفائدة عليها الى الصفر أو أدنى. وأفلح ماريو دراغي في خفض سعر المال، ولجأ الى سياسات «غير تقليدية». واليوم، في وسع دول منها اليابان وألمانيا وغيرهما وشركات كبيرة، الاستدانة في الأسواق المالية مقابل فوائد سلبية. وسينتهي الأمر بكثر منها الى تسديد القرض، لكن قيمة المبلغ الذي تعيده الى المدين أدنى من قيمة القرض. «فتجني الربح من طريق الاستدانة!.

واليوم، يدعو خبراء اقتصاديون، بعضهم من قدامى صندوق النقد الدولي، الى تعميم معدلات الفائدة السلبية لتشمل الأفراد فيعزفون عن الادخار ويقبلون أكثر على الاستهلاك. لكن ما يحول دون مثل هذا السيناريو، قطع النقد الورقية. فحين تبلغ الفائدة معدلات سلبية، يرجح أن يسحب الناس أموالهم من المصارف ويدخرونها تحت الفراش أو في صناديق. وهذه حال اليابان اليوم. وذلّلت السويد هذه العقبة، وسحبت النقود من التداول لتحلّ محلها النقود الإلكترونية.

التفاوت الاجتماعي عائق دون النمو

«في الولايات المتحدة، أطبق الأكثر ثراء على ثمار النمو الاقتصادي في العقدين الماضيين. فتدنت القدرة الشرائية في وسط 40 في المئة من الأميركيين، وهم الشريحة التي تجني أقل قدر من الأموال»، يقول الاقتصادي الفرنسي باتريك آرتوس. واليوم، الدراسات حول أثر تعاظم التفاوت في الاقتصاد كثيرة في أوساط غير يسارية وفي مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون والتنمية أو منتدى دافوس الاقتصادي. وطوال وقت طويل، حسب الخبراء أن التفاوت الاجتماعي شر لا بد منه، وأن إدارة التفاوت الاجتماعي هي التحدّي الأبرز. لكن توصيات صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون والتنمية انقلبت، اليوم، رأساً على عقب، وصارت خلاف توصيات الأمس. فيستند الصندوق الدولي هذا الى دراسات تاريخية ليلاحظ أن النمو الاقتصادي يتقلّص حين تتعاظم العائدات التي يمسك بها 20 في المئة من الأكثر ثراء، وأنه يرتفع حين تزيد عائدات الأكثر فقراً.

دعوات الى الإنفاق

يقترح عدد من الخبراء الاقتصاديين الليبراليين وغير الليبراليين، على حد سواء، وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون والتنمية، تخفيف منطقة اليورو القيود السياسية على الموازنات، وزيادة الاستثمار. ويقول إيلي كوهين إذ يشكو إجراءات اقتصادية تغرق الأسواق بالأموال: «في وقت الحاجة ماسة الى استثمارات في التحول الرقمي والإيكولوجي (البيئي)، يدور الكلام على مروحيات الأموال». ويدعو مع غيره من الخبراء الاقتصاديين الى التزام خطة أوروبية كبيرة من الاستثمارات الهادفة، وإرساء إصلاحات بنيوية ترفع القيود عن سوق العمل. ويرد كوهين على متّهميه بتشجيع تضخيم الدين العام بالقول أن الاحوال لم تكن يوماً مواتية (لزيادة الإنفاق العام كما هي اليوم)، فمعدل الفائدة ضعيف. فـ «الاستدانة في سبيل الاستثمار هي صنو الكوليستيرول الجيد».

أفول «مصنع العالم»

ويرى ميخائيل فريبورغ، مدير المجموعة الصناعية «شارجور»، أن كلفة الإنتاج في الصين لم تعد متدنية وتكاد تضاهي نظيرتها في أوروبا. واليوم، الذريعة الى التصنيع في الصين، أو في غيرها من الدول النامية، هي القرب من الأسواق التجارية المحلية هناك، وليس خفض النفقات. فالصين لم تعد مصنع العالم. فهي تركت قدرتها التنافسية تتآكل مع تدني معدل الصادرات 28 في المئة سنوياً.

صحافيان، عن «لوبوان» الفرنسية، 21/4/2016، إعداد منال نحاس.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى