صفحات الناسمحمد ديبو

بين صالون النظام وغرفة نوم المعارضة/ محمد ديبو

 

منزلي صغير جدّاً، مساحته أقل من أربعين متراً مربّعاً، مكوّن من غرفة جلوس صغيرة (أستغرب كيف يسمّيها المؤجر والناس هنا صالوناً!) وغرفة نوم أصغر ومطبخ أصغر منها، وحمّام هو أصغر الأصغرين.

مذ سكنتُ هذا المنزل لم أشعر أنه منزلي. فحين استأجرته قالت ذاتي المغرورة لذاتي المتواضعة “يلا بس نوصل الحرية بتتحسن الأحوال ومناخد بيت كبير”، الأمر الذي جعلني أعيش مرحلة “المؤقت” الذي تحوّل نموذجَ حياة لكل السوريين اليوم، أُضيف إلى حالة العيش بما سمّاه أبو الطيب المتنبي “على قلقٍ كأن الريح تحتي”.

كل سوري اليوم يضع تحت مخدّته هويته وجواز سفره وما يملك من مال، لأنه يدرك في قرارة نفسه أن ثمة لحظة قد تأتي عليه فيها أن يحمل روحه ويرحل. فالبيوت هنا لم تعد وطناً، إنما فنادق متواضعة قد نتركها في أي لحظة لعراء ومخيمات لجوء سبقنا إليها من نراهم اليوم على شاشات التلفاز وشوارع العاصمة من “شعبنا”.

تحوُّل البيوت من وطن إلى فندق أو شيء عابر في لاوعي أصحابها، جاء نتيجة عامة لما يراه السوريون من أحوالهم، وخاصة لما تعيشه المنطقة التي أقطنها، فهي في مرمى قوات النظام، ما يجعل الخوف من الاعتقال دائماً وحاضراً في كل لحظة وتفصيل؛ وهي تحت مرمى “هاون” المعارضة التي تقصفها لتحصدنا بـ”نيران صديقة” كلما ضاق عليها السبيل، الأمر الذي يجعلنا في حالة “عبد المعين الذي لا يعين”.

هذا الأمر وجد صداه في بيتي الصغير. فحين أكون خائفاً من النظام واعتقاله، أطفئ أضواء المنزل وأعمل في غرفة النوم لأوحي أن “لا أحد” هنا، رغم إدراكي الذاتي والواعي أن “النظام وقت بدو ياك بيجيبك”، إلا أنه الخوف وما يفعل، فنتحرك بغريزته التي يعيش اليوم تحت وقعها كل السوريين، موالين أو معارضين، فلكلّ خوفه!

وحين تبدأ المعارضة قصف هاوناتها، أهرب نحو الصالون وأعمل به لأن غرفة النوم معرضة للقذائف أكثر، الأمر الذي يجعل منزلي مقسوماً بين “غرفة نوم المعارضة” و”صالون النظام”، أعبرهما وفق جغرافيّة خوفي الذي يحدِّد وفقاً للاوعي خاص به هو الآخر، أيَّ الخطرين أكبر.

ولأني ككل “المثقفين” الذين لا يشعرون بأهميتهم إلا إذا عاشوا وفق طقوس الفوضى، فإن طاولة الكتابة التي أعمل عليها مليئة بالكتب والمراجع والقهوة وأوراق أغلبها لا معنى له و.. و.. و..، ما يجعل مسألة نقلها وعبوري من “معارضة النوم” إلى “نظام الصالون” أو العكس، مسألة تترافق مع شتائمي لذاتي تارةً، ومع ضحكي وسخريتي منها تارةً أخرى، إذ تقول ذاتي لذاتي: “هاي الحرية يلي بدك ياها يا ديبو”.

لكني لا أخشى كل ما سبق، لأني وجدت حيلاً للتعامل معه كما رأيتم، الأمر الذي يجعل خشيتي محصورة اليوم بالجواب عن سؤال: ماذا لو جاءت دورية الأمن والهاون معاً، فأين أهرب؟

المطبخ غير مفيد، لأنه في مرمى الهاون أيضاً.

الحمام! غير مفيد أيضاً، لأن فرقة المداهمة ستخلع الباب وتفتشه حتماً.

فوق الحمام!

ثمة سقيفة بالكاد تتسع لرجل، وهي أصغر من الزنزانة التي سجنت فيها سابقاً.

في السقيفة يوجد خزان ماء، مساحته برميل (هكذا نقول في سوريا، وهو أمر لا علاقة له بالبراميل الهابطة من الطائرات). أفكر في الاختباء فيه، ليصبح حالي “سوري في برميل”.

لا تقولوا للنظام والمعارضة ذلك. هذا سر.

ولكن، ماذا لو اكتشف النظام حيلتي، واعتقلني أنا والبرميل/ الخزان، ثم وضعني في طائرة وقام زميل إعلامي لي (كما رأيتم مؤخراً) بتصويري وأنا أهبط على “الإرهابيين”؟

أنا الآن معلّق بين سماء النظام وأرض المعارضة.

هذا ليس فيلمَ خيالٍ علمي، إنّه حالنا حقاً.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى