أكرم البنيصفحات سورية

الربيع العربي إذ يطرق باب الحرية/  أكرم البني

 

أن يفرك أعداء الحرية أياديهم فرحاً لما آل اليه الربيع العربي، ويحتفوا بالمخاض العسير الذي تمر به ثورات الشعوب وبالخيبة التي أصابت الناس من رحلة تفيض ألماً ومعاناة، هو أمر مفسر ومفهوم ما داموا يتنكرون لبديهة تقول بأن طريق الحرية شاقة ومكلفة دائماً، فكيف في مجتمعات شرّش الاستبداد فيها وتحاصرها وفرة من مناهضي حريتها!

بل هم يغفلون عن عمد حقيقة أن الربيع العربي، وعلى رغم ما يكابده، بدّل وجه التاريخ، وشكّل نقطة انعطاف عند البشر لتكريس قيمة الحرية ودورها المفتاحي في صناعة مستقبلهم.

شعار الحرية الذي دشن مسار التخلص من آفة الرعب المعششة في النفوس، أو كما درج القول: كسر حاجز الخوف، ممهداً السبيل لنفي الشروط التي تنمّي الاستعداد لتقبل الاستبداد ودوره في شل إرادة الإنسان وتحويله الى مواطن سلبي لا يفكر ولا يبادر وتكبّله سلاسل لا تنتهي من النواهي والمحرّمات، وتالياً للتحرر من أفكار وهواجس زرعتها أجهزة القمع والعقاب في كل قلب ينبض، لتنتج يأساً وإحباطاً واستسلاماً.

كسر جدار الخوف هو إعلان البدء ببناء الثقة بالنفس وبالمقدرة على تحمل تبعات المشاركة في الشأن العام، ونقض محاولات أهل الحكم تبرير تسلطهم واستبدادهم بعدم النضج السياسي في الأوساط الشعبية او بذريعة أن ممارسة الحرية في ميادين الرأي والتعبير والنشاط السياسي تشتت الكلمة وتصدع الصف وأحياناً هي رجس من أعمال الشيطان، كي يمنحوا انفسهم «الحق» في إحصاء أنفاس الناس وإرهابهم والتحكم بكل شاردة وواردة في سلوكهم وحتى تلقينهم ما ينبغي أن يقال وما يجب ألا يقال، والغرض تعميق شعورهم بالوهن والعجز وتعزيز عوامل خنوعهم للقواعد القائمة على الأمر والنهي والطاعة.

والحال، لم تعد تنفع بعد الربيع العربي تغذية الإحساس لدى المجتمع بأنه قاصر أو دون سن الرشد، عاجز عن اتخاذ القرارات السليمة ويحتاج إلى رعاة لمصالحه ينوبون عنه في إدارة شؤونه العامة، ما أشاع وعياً زائفاً أوجد لدى الإنسان شعوراً ملازماً بالقصور والدونية، وبأنه عاجز أمام نخب حاكمة مســؤولة عنه وشخصيات كاريزمية يجب أن تبقى موضع رعب وتهيّب كبيرين!

بعبارة أخرى، حفزت ثورات الحرية الرفض الصريح للنمط السائد الذي يسوغ لأهل الحكم الاستيلاء على كل شيء، بما هو رفض لثقافة سلطوية تدعي أنها الأعرف بما يفيد الناس وما يضرّهم، وأنها الأدرى بالطرق الكفيلة بتوفير حاجاتهم الأساسية من غذاء وكساء وسكن وعمل وصحة وتعليم، لتسهيل مصادرة حقوقهم وشل هيئات المجتمع، والاستحواذ على ثرواته والتحكم بمشروعات تنميته الاقتصادية والاجتماعية.

وفي مخاض الربيع العربي، طالبت الشعوب بالحرية كي لا تُذل، ولتنهي تاريخاً من القهر والتهميش والازدراء. فقد خبرت جيداً أن من لم يعش حراً ويتنسم هواء الديموقراطية لن يكرم ولن تحترم إنسانيته وخصوصيته، وعليه لم يكن صدفة ارتباط شرارة الحراك الشعبي بالرد على معاملة مهينة اعتاد على ممارستها رجال السلطة ضد أبناء الشعب، وأن يكون أحد أهم الشعارات التي رفعها المتظاهرون هو شعار الكرامة، في إشارة واضحة الى رفض القهر والخنوع والإنكار المزمن للذات الإنسانية والاستهتار بحقوقها وفضائلها.

هي عادة سلطوية متأصلة استخدام الإذلال المعمم والإهانات الجمعية والفردية كواحدة من الوسائل المجربة لتأبيد السيطرة وتحويل المواطنين إلى عبيد مقهورين. ولقد عرفت غالبية مجتمعاتنا ما يشبه الجهد المثابر وعبر أساليب متنوعة لامتهان الكرامة واحتقار المواطن والاستهزاء بحقوقه، من دون الاهتمام بوضعه ومكانته أو تقدير سنّه وجنسه، والغرض تحطيم الروح المعنوية وجعل المجتمع خانعاً وعاجزاً عن أي فعل يهدد أركان الأنظمة القائمة وأسباب استقرارها.

وحين طرقت الشعوب العربية باب الحرية، فلأنها أرادت التأسيس لرحلة «تحرر» من كل أنواع الهيمنة الأيديولوجية والاستئثار المعرفي ومن التصورات المسبقة عن العالم وطرق تغييره ومن الشعارات الديماغوجية البائدة، وتالياً من بلاء مدعي الوصاية على الناس والأوطان، إن كانوا من النخب السياسية الحاكمة التي لم تكتف بالعنف العاري ومبدأ القوة والجبروت في حفظ سلطتها وإعادة إنتاجها، بل توسلت ما ينفعها من الأفكار والشعارات لتوفير مقدار من التغطية الأيديولوجية لممارساتها القمعية، ولتسهيل قهر كل رأي او اجتهاد يخالفها على أنه خروج عن الطاعة أو طعن بالمقدسات الوطنية، وإن كانوا من قوى المعارضة التي لا تزال مترددة في إحداث قطيعة معرفية مع نهج الماضي وتصوراته، ومقصرة في إجراء نقد حازم للذات والعقلية الأيديولوجية المتحكمة بسياساتها، ما يفسر الطابع الشبابي للربيع العربي وجنوحه نحو الخلاص من المنظومات الفكرية والسياسية العتيقة ومن قواعد الصراع التقليدية ولنقل من أي رؤى مسبقة أو إكراه حزبي أو إلزام بمواقف وقرارات موجبة التنفيذ من دون نقد أو اعتراض، ويفسر أيضاً حالة الإجماع الشعبي على منح الحرية الاولوية التي تستحقها بعيداً مما يرتبط بالأيديولوجيات الكبرى والعناوين والشعارات العريضة.

ومثلما أن الأسباب التي قادت إلى تفجر الثورات لما تزل بعد قائمة، ولنقل آخذة في التعمق والتجذر، فإن إرادة الشعوب العربية لنيل حريتها تتعمق وتتجذر بدورها، بخاصة بعد أن أدركت أن أهم خطر يهدد حياتها ومستقبلها هو الاستبداد أياً كان نوعه ومصدره، الاستبداد الذي بدأ يرسخ في الوعي الجمعي العربي، كشكل بائس ومكروه لضبط الحياة ولرسم العلاقة بين الناس وبينهم وبين السلطة ومؤسسات الدولة.

لقد رفع شباب الربيع العربي شعار الحرية لأنهم أدركوا أن من قيمتها ودلالاتها يستمدون العزم والإرادة لإحداث تغيير جذري ينقلهم من ثقافة الإكراه والعنف والنبذ الاجتماعي والاستئثار إلى ثقافة الحقوق والمساواة واحترام إنسانية الإنسان، والأهم لإعلان قطيعة نهائية مع عشرات السنين من الاستبداد والوصاية ومن منظومة القهر والإرهاب ومن الإفراط المرير في الخنوع والعجز.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى