صفحات الرأيمحمد أبي سمرا

الربيع العربي”.. النشوة الزائلة/ محمد أبي سمرا

 

 

ولّت سريعاً تلك النشوات المفاجئة، الخاطفة والمسكرة، بـ”الربيع العربي” الذي انتشى به شبانه في الشوارع والساحات والميادين، قبل أن يتلاشوا كالظلال وتبتلعهم العتمة. لم يبقَ منهم ومنه سوى لحظات الانخطاف الباهرة، والصور الكرنفالية الساحرة، كحلم يقظة عبر في الأماكن العامة، وعلى الشاشات الالكترونية للاعلام الاجتماعي البديل الذي جعلوا فضاءه وشبكاته العنكبوتية، كالشوارع والساحات والميادين، مسرحاً موازياً لكرنفالاتهم، ومطلاً على العالم.

حين خرجوا وتدفقوا الى شوارع المدن وساحاتها، وتدفقت صورهم الى الشاشات، لم يكونوا موقنين من شيء، بل “يدبّون -كما كتب مرة الشاعر محمد العبدالله – في الغموض العظيم” الذي يكتنف مصائرهم ومصائر مجتمعاتهم وبلدانهم، قبل أن يولدوا.

خِفافاً وخائفين خرجوا. اخذوا يتبادلون النظرات ويتصفحون الوجوه، كأنهم فوجئوا وفاجأوا أنفسهم، غير مصدقين انهم كثيرون ويتكاثرون، وانهم على موعد او موعودين بسيّء. بلى، كل منهم كانت لديه إرادة فردية وشخصية في الخروج من العتمة، لكنها إرادة الذاهب الى ما يشبه عيد أو موعد غرامي غائم أو غير مؤكد. كان خوفهم منعشاً ويضاعف خفتهم وخفة خطواتهم في أماكن يعرفونها وأمضوا أوقاتاً طويلة من اعمارهم مختنقين فيها، لكنها صارت فجأة جديدة عليهم، كأنهم للمرة الأولى يمشون في هذه الأماكن ويلتقون.

بطيئاً بطيئاً في فسوخ الضوء والعلن صنعوا سيرهم ومساراتهم الفردية والشخصية، وخرجوا من حطام مجتمعاتهم، فأقاموا كرنفالاتهم المنتشية بالضوء والصور، ضد السلطان البوليسي وخوائه المعتم المزمن. لكن الكرنفالات تلك، لم تكن ساحرة وتبعث النشوة، إلا لأنها بطبيعتها آنية وطيفية وعابرة، بل أشد هشاشة من الضوء والصور.

لم يكن شبان “الربيع العربي” مخلوقات سياسية فط، ولا أصحاب رؤى وبرامج سياسية، بل ضد السياسة، دونها وفوقها، وخرجوا عليها خروجاً جديداً، بلا خطة مسبقة وبلا مثال سياسي. فالسياسة في بلدانهم لم تكن سوى ممارسات أمنية ومعتقلات ونهب وفساد.

****

ثلاثة باحثين فرنسيين تتبّعوا ويتتبّعون حركات الاحتجاج الشبابية حول العالم في السنوات العشر الأخيرة، يرون أن هذه الحركات موجة عالمية، شملت البلدان العربية، معتبرين أن قاسمها المشترك هو الخروج على السياسة.

فقبل شهرين أصدر ألبير أوجيان وساندرا لوجييه، كتاباً في باريس عنوانه “اصل الديموقراطية: اشكال السياسة الجديدة”، عرضه ولخّصه في العربية وضاح شرارة. يتقصى الكتاب الاعتصامات الاحتجاجية العفوية والمسالمة والمتزامنة حول العالم في العام 2011، على المثال التونسي والمصري الرائد: من الصين في 20 شباط، إلى بروكسل في بلجيكا في 23 كانون الثاني، إلى البرتغال في 12 آذار، إلى مدريد في 15 آذار، إلى اليونان في 25 آذار، إلى ظاهرة “احتلوا وول ستريت” في نيويورك 15 حزيران، ومروراً بجنيف، طوكيو، تل ابيب، لندن، فرنكفورت، سانتياغو، كيبيك. هذا قبل أن يتداعى أنصار هذه الحركات المعولمة إلى انخراطها في إطار مشترك، واختيارها 15 تشرين الأول 2011 موعداً لتنسيق الاحتجاجات بين 900 مدينة في 90 بلداً عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

يرى الباحثان أن هذه الموجة الاحتجاجية المعولمة تشترك في عوامل كثيرة: فداحة تقلص السيادة الوطنية في الدول، تعاظم التفاوت في توزيع الموارد المادية والمعنوية، غلبة المصالح والقرارات المالية والمصرفية والنقدية الفُفْل على سياسات الدول، تحول اقتراع المواطنين إلى لعب عقيم، شأن المشاركة السياسية والاجتماعية. وما تشترك فيه هذه الموجة هو إرادة المحتجين الالتفاف، بل الخروج السلمي، على الأبنية السياسية المجرّبة والمتهافتة، وتطويقها، بهدف الوصول إلى مباني سياسة جديدة، وتجديد تجربة الفعل السياسي الصادر مباشرة عن المواطنين، والملتزم احترام المساواة التامة بينهم. لكن هذه الحركات لا تصوغ فكراً متماسكاً، بل تنكر مثل هذا العمل وتحمله على نازع ذهني، ذهاني احترافي واستبدادي. وذلك ليظل عملها لصيقاً بالوقائع العامة والخاصة، وصادراً عن حضور شعبي عريض وماثل، رداً على تآكل الهيئات السياسية التمثيلية. وتتبنى الحركات في عملها الكثرة والتعدد، وتساكن الآراء المتقابلة والمتنازعة في إطار مشترك يقرّ بالخلاف. وعلى هذا ليست الديموقراطية نظاماً سياسياً فحسب، بل هي شكل حياة أو صورة حياة. والحركات الاحتجاجية في هذا هي على الضد من المنظمات السياسية التي تمدح شهوة الانتصار، وتمجّد الشجاعة والقيادة، وتحضّ على المغامرة والمخاطرة، وتقود إلى التسلّط والسيادة والولاية على المأمورين المذعنين (“حزب الله” مثلاً، وسواه من المنظمات المسلحة وغير المسلحة).

من القواسم المشتركة بين الحركات الاحتجاجية هذه أيضاً، أنها تُعمِلُ إعمالاً حراً وراهناً الأصل الديموقراطي، أو ما يسمى “الديموقراطية البريّة”. أما المصائر الخائبة التي صارت إليها الاحتجاجات والاعتصامات، فلا تبطل دلالتها. فهي أصلاً لا تطلب ثمرة مضمونة تترتب على منطقها الاحتجاجي. وهي في هذا المعنى، أقرب إلى منطق الحياة وأقدارها، منها إلى منطق السياسة في صورتها المعروفة.

****

الباحثة الفرنسية المتخصصة في سوسيولوجيا الشباب، سيسيل فان، تقصت بدورها بعضاً من الحركات الاحتجاجية والاعتصامات المتزامنة حول العالم، وآخرها حركة الشبان في هونغ كونغ تشرين الأول 2014، فأجرت معها صحيفة “لوموند” الفرنسية مقابلة حول الموضوع، نشرت صحيفة “المستقبل” اللبنانية مقتطفات مترجمة منها في 19 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ترصد الباحثة ما تسميه “الاحساس الجسدي” الذي يلابس شبان الحركات الاحتجاجية. وترى الباحثة أن الاعتصام في الميادين ينطوي على “تعليق للزمن”، ليصبح الحضور الجماعي شكلاً للمقاومة، ومحاولة لسيطرة الافراد الجماعات على قدرهم، حيال ما يعتبره المحتجّون سرقة السلطات لحياتهم وقدرهم، على الرغم من شعورهم بقدر من اليأس، وبأنهم لن يحصلوا بسهولة على ما يطالبون به. فالحركات هذه تعبّر عن بزوغ أجيال جديدة، حاملة للشهادات الجامعية، ومدفوعة بآمال ديموقراطية وسط أزمة معولمة. وهي تدين أسس الإرادة السياسية القائمة. وفي اشتعالها وانطفائها وتناسلها وتنقلها، يجمع حركات احتلال الميادين سؤالها العميق حول موقع الإنسان ومصيره في المجتمعات الراهنة. وهو سؤال ينطوي على إعادة النظر في طرق الحكم والتمثيل السياسي. وهذه كانت حال الحركات الشبابية والطلابية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين.

وما شهدناه خلال السنوات العشر الأخيرة من حركات احتجاجية، هو الجزء الظاهر من جيل الجليد. فحركات الاحتجاج الشبابية يجمعها السخط على الانشقاق الحاصل بين الشباب وبين عالم السياسة والمال والسلطة، ورغبة المحتجين في استعادة التحكم بمصير حياتهم العامة والخاصة.

****

هل كان “الربيع العربي سحابة صيف عابرة، أم حلم يقظةٍ تكشّف عن كارثة؟ وهل الكارثة مصدرها ذلك الخروج الشبابي السلمي إلى الشوارع والساحات، أم مصدرها ما دفع تلك الجموع الشبابية إلى الخروج على الخواء والعقم المقيمين في بلدان حطمها الطغيان ودمرتها الحروب؟

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى