صفحات سورية

الربيع العربي والصحافة


سمير العيطة

تطوّرت وسائل الإعلام والاتصال العربية بشكلٍ كبير في السنوات الأخيرة وشكلت معيناً ساهمت في تراكم الوعي لخلق الربيع العربي. إذ جاء تطوّر القنوات الفضائية ليخلق تنافساً بين الدول العربية على كسب الرأي العام؛ ثم جاء الانترنيت ليخلق مجالاً جديداً للصحافة المطبوعة يعبر حدود الدول وأجهزة الرقابة. أخبار ومسلسلات تلفازية ومواقع تواصل من الجيل الأوّل والثاني صبّت جميعها في معين، لتصنع معيناً لعب التنافس فيه الدور الأساس في دفع سباق لوضع خيارات متعدّدة أمام الإنسان العربي فتحت له آفاقاً جديدة على واقعه.

ضمن هذا السباق لم يكن مهمّاً السؤال عن مصادر التمويل، حكومية كانت أم تشابكاً بين سلطات المال والسياسة. أو هيمنة تياّر فكري معيّن على فريق التحرير، إذ أنّ انفتاح الآفاق والخيارات والتنافس كانوا أكبر أثراً من طريقة اصطفاف هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك حول قضايا عربية مشتركة مثل حرب إسرائيل على لبنان أو غزّة أو انغماسها في التطبيع، أو حول هذه النظام العربي أو ذاك. حتّى أنّ هذا السباق دفع قوى مؤثّرة في المنطقة لإطلاق محطّاتها الإخبارية باللغة العربية للدلو هي أيضاً بدلوها في معركة كسب القلوب والعقول: من الولايات المتحدة وفرنسا، إلى روسيا وألمانيا، وإيران وتركيا… في حين اكتفت الصين بموقع إخباري على الانترنت.

ثم جاء ربيعا تونس ومصر ليضعا كلّ هذا على محكٍّ أكبر من لعبة تنافس بين أنظمة: إذ أنّ الرهان كان بالضبط هو سقوط بعضها. فظهر ما ظهر من تردّد وسائل الإعلام في الانخراط في التعبئة والمساهمة في الأحداث، إلاّ أنّ سرعة سقوط الأنظمة في هاتين الحالتين، ساعدا في حصر المعركة الإعلامية في قضية نقل المعلومة أم لا؛ خاصّة وأنّ المعركة تركّزت في هاتين الحالتين في ساحة العاصمة واقتصرت بجوهرها على استمرار التعبئة والحشد في هذه الساحة. وفي خضمّ هذه الأحداث، لم يظهر عيباً أنّ بعض وسائل الإعلام قد انخرطت هي أيضاً طرفاً في التعبئة والحشد، تؤجّجه بذاتها.

دوي السقوط كان كبيراً، وكذلك المراجعة التي قامت بها الأنظمة العربية كما القوى المؤثرة، أمام ما بدا حدثاً تاريخيّاً يمكن أن يدحرج الكرة على جميع الأنظمة العربية، المتشابهة كلّها في تركيبتها الأساسية، وأمام ما حمله الربيع من ثورة على الفكر السائد، بما فيه حتّى الديموقراطية والاستثمار والتنمية، مقدّماً المجتمع على السياسة. ليس فقط عربيّاً، بل إنسانياً؛ ما تشهد عليه ارتدادات هذه الثورة في دول جنوب أوروبا، من اليونان إلى أسبانيا، وحتّى في الصين أيضاً.

هنا تغاضت أنظمة الخليج العربي عن تنافسها، وبعثّت مجتمعة قواها العسكريّة لوأد ربيع البحرين، وسكتت القوة المؤثّرة عن هذا التدخّل. كان هذا لافتاً، كما خفض وسائل الإعلام لتغطيتها وخجلها، وامتناعها خاصّة عن لعب دور المؤجّج للأحداث على عكس تونس ومصر.

على العكس، وكأنّ الربيع العربي حكر على الجمهوريات، انخرطت وسائل الإعلام العربية في تأجيج ربيع ليبيا، بل في قلبه إلى حرب، وليس ثورة سلمية أساسها قيمة الإنسان وتضحياته. حتماً يتحمّل العقيد القذّافي هو نفسه المسؤولية الأولى والأخيرة، إلاّ أنّ الحرب التي ساهم الإعلام العربي في تأجيجها في ليبيا لحرفها عن مسارها تماثلت مع التلاعب الإعلامي المشهدي، بحجة الإنسانية والديموقراطية، لكن لخدمة سياسات القوى النافذة، التي اعتادت وسائل الإعلام الغربية على ممارسته، من إفريقيا إلى البلقان. لا تحليل، لا محاولة بحث عن معرفة في مضامين الأحداث، بل صور لمقاتلين يطلقون ناراً وخرائط لأرض المعارك ومقابلات مع الحاكم المستبدّ (المفترض أنّه سينتهي) وإبراز لمعارضين يحتضنهم خبراء الإعلام المشهدي المتلاعب أمثال برنار هنري ليفي (دون حرج من أن هذا الأخير مناهض لكلّ القضايا العربية).

ثمّ تحوّلت الحرب الإعلامية إلى حرب حقيقية، بحجّة إنسانية كما هو مفترض، وانساقت وسائل الإعلام العربية في الأمر دون أن تستنكر كيف انقلب تفويض من مجلس الأمن بمنع الطيران إلى ترخيص بالقصف! وباتت تهلّل لعمليات “التحالف” (كذا) العسكرية، متناسية حتّى الحذر التي كانت تصف فيه عمليات غزو الولايات المتحدة وحلفائها للعراق، مع أنّ صدام حسين كان أيضاً مستبدّاً دموياً.

ويبدو أنّ انخراط وسائل الإعلام العربية كطرف في حرب إعلامية يترسّخ في سورية واليمن، مع استطالة المخاض في كلا البلدين. حتماً ينتفض أبناء هذين البلدين على نظامين مستبدّين ويواجهون بقمع شرس وقاتل؛ ويستخدم النظامان وسائل إعلام خاصّة بهم لشنّ حرب إعلامية مضادة؛ ويضيّقون على وسائل الإعلام الأخرى، بل يبعدوها؛ إلاّ أنّ هذا لا يمنع شرعيّة التساؤل عمّا يبرز من أحداث وعمّا يسكت عنه، وعن معنى صور ومشاهد تبثّ، وعمّن يمثّل هذا “المعارض” أو هذه الجهة الذي يتوالى على وسائل الإعلام أو يطلب تدخّلاً من دولاً أجنبيّة؟

على مستوى وسائل الإعلام، تبقى المعركة هي دوماً ذاتها: بين مهنية الصحفي وبين توجيهات من يملك وسيلته؛ وبين موقفه الشخصي، وإن كان محقّاً، وبين ضرورة نقل الحقيقة والتدقيق؛ أي بين مهنيّته وبين تجاذبات العالم المحيط به. فهل سيكون هناك يوماً ربيع ضمن الصحافة ووسائل الإعلام العربية.

* اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك، ومؤّلف: Les Travailleurs Arabes Hors-La-Loi, L’Harmattan, 2011. ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum, www.mafhoum.com

لوموند ديبلوماتيك العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى