أكرم البنيصفحات سورية

الربيع العربي والمفارقة السورية/ أكرم البني

الاستعصاء المزمن للصراع السوري وما خلفه العنف المنفلت من ضحايا ومعتقلين ومشردين ودمار، يثير السؤال عن الأسباب التي أوصلت الثورة السورية إلى ما وصلت إليه، ولماذا لم تأخذ مسار إحدى ثورات الربيع العربي؟

أم يصح القول إن هذه المأساة كرست نموذجا خامسا في التعاطي مع رياح التغيير، هو النموذج الأصعب والأكثر دموية وكلفة، يضاف إلى النماذج الأربعة التي عرفناها.

وأول هذه النماذج ما حصل في تونس ومصر، حيث تنازل الحاكم عن سلطته مكرها، بفعل ضغط الحراك الشعبي ونصائح الدول الحليفة لإنقاذ جوهر النظام والدولة، ولعب الجيش دورا رئيسا في ضبط انتقال السلطة، وإن تحول إلى السطوة والاستئثار في التجربة المصرية.

وثاني هذه النماذج حالة ليبيا، حيث كان الخيار العسكري الخارجي سيد الموقف في هزيمة نظام القذافي وتمكين قوى الثورة من الانتصار، وثالثها الوضع في اليمن، إذ لعب قربها من دول الخليج والتحسب من استثمار تنظيم القاعدة لحالة الفوضى دورا كبيرا في تمرير تسوية سياسية، برعاية دولية وعربية، تضمن نقل السلطة وفتح باب المشاركة أمام مختلف المكونات السياسية والاجتماعية.

وتمثلت الطريق الرابعة في مبادرة بعض الأنظمة العربية، خاصة في دول الخليج والمغرب العربي، لإجراء إصلاحات استباقية تنزع صواعق التفجير الداخلي، إن في تخفيف قبضتها واستئثارها بالثروة، أو بسن قوانين تراعي مصالح الناس وحقوقهم وخاصة حرياتهم.

ويصح القول، إن تأخر انطلاق الثورة السورية منح السلطة الوقت، لتحضير نفسها ووضع الخطط والتصورات لتجنب أخطاء الأنظمة الأخرى في مواجهة الشارع الثائر.

وكان ذلك مرة بالمبادرة لسحق أية محاولة لإقامة تجمع شعبي يضمن التواصل والتفاعل المباشر بين الناس والنخب السياسية والثقافية، كما في ساحتي التحرير والتغيير في القاهرة وصنعاء، ومرة بالمسارعة لإجهاض أي دور مستقل للجيش في التغيير، عبر زجّه في المواجهة منذ البداية وتوريط كتائبه في قمع المحتجين، متوسلة خصوصية البنية التكوينية لهذه المؤسسة العسكرية وشروط إخضاعها أيديولوجيا وطائفيا.

فلم تسلك هذه المؤسسة -كما راهن البعض- سلوك الجيشين التونسي والمصري، ولم تنقسم كحال اليمن، بل بقيت متماسكة نسبيا، بفعل استمرار القدرة على الضبط الأمني العنيف.

ولا تغير هذه الحقيقة الانشقاقات الفردية أو الجماعية التي شهدتها هذه المؤسسة، حيث بقيت محدودة الوزن والتأثير، وإن مهدت لنشوء “الجيش السوري الحر ” كإطار جديد يضم الضباط والجنود الفارين ممن رفضوا إطلاق الرصاص على أهلهم.

وتكتمل المفارقة بانتماء السلطة السورية إلى محور نفوذ في المنطقة، يختلف ويتعارض مع ما يمكن تسميته المحور الغربي الذي انتمت إليه أو دارت في فلكه أنظمة بلدان الثورات الأخرى، ولعب دورا مهما في ضمان سرعة التغيير، ما إن رفع يده عن تلك الأنظمة وحثها على تقديم التنازلات السياسية أمام الحراك الجماهيري المتصاعد.

من جهة أخرى، توقع الكثيرون أن يتأخر رد الفعل العربي والدولي ويتلكأ في التعاطي مع شدة المعاناة السورية وعمقها، إما لانشغاله بتداعيات الثورات السابقة، وإما لتعقيدات تتعلق بحسابات الأمن الإسرائيلي واحتمال التورط في حرب مكلفة مع إيران وحلفائها.

لكن ما فاق التوقع طول زمن التلكؤ أمام حجم التضحيات، ما أشعر السوريين بأن ثمة ما يشبه التواطؤ بين مختلف الأطراف الخارجية، على إبقاء الصراع مفتوحا وترك ثورتهم وحيدة أمام آلة قمع لا ترحم.

وللحقيقة، فإن ارتفاع منسوب العنف شجع المعارضة السورية على تمثل الوضع الليبي، فتوالت دعواتها لدور دولي داعم، كفرض حظر جوي أو توفير ممرات إنسانية أو منطقة عازلة تشكل ملاذا للهرب من بطش السلطة، متوسلة مرة الجامعة العربية، ومرة الدور التركي، ومرة قرارا أمميا يضع الحالة السورية تحت الفصل السابع.

لكن هذه الدعوات بقيت كصرخات في الوادي في ظل خصوصية الحالة السورية، بدءا بموقعها المتشابك مع الكثير من الملفات الشائكة والحساسة في المنطقة، مرورا بالجوار الإسرائيلي الذي يحظى لدى الدوائر الغربية بالكلمة الأولى حول التغيير في بلد تحتل جزءا من أرضه، وحافظ نظامه على جبهة الجولان آمنة ومستقرة طيلة عقود، وانتهاءا بالتخوف من خطورة أن يفتح التدخل العسكري الباب لتطورات غير محمودة، كتفكك الدولة وإشاعة الفوضى وتنامي صراعات أهلية واسعة تنتقل إلى بلدان الجوار، عبر مكونات عرقية وثقافية متداخلة.

وإذا أضفنا التكلفة الباهظة لاستخدام القوة العسكرية، في بلد لا يمتلك موارد للتعويض كحالة ليبيا، نقف عند أهم الأسباب التي تفسر الإعلانات الصريحة من غالبية الأطراف الغربية والعربية بأن لا تفكير في التدخل العسكري، وتاليا طابع التهديدات الأميركية “الخلبية” بتوجيه ضربة عسكرية للنظام، ظهر أن غرضها تفكيك السلاح الكيميائي وليس حماية أرواح الناس.

وبلا شك مر وقت طويل وقدمت تضحيات عظيمة، قبل أن يدرك السوريون خصوصية ثورتهم، وأنها لن تتبع نموذج ليبيا، بل ثمة عناصر تميزها وترسم فرادة وصعوبة طريقها نحو التغيير والدولة المدنية.

وبعبارة أخرى، سقط الرهان على تدخل عسكري في الحالة السورية شبيها بما حصل في ليبيا، وعلى مجلس الأمن ليتخذ قرارا وفق البند السابع يجيز استخدام القوة لحماية المدنيين.

بل يبدو وللأسف أن منطق “الأخذ والرد” حول مؤتمر جنيف2 هو التعبير المكثف، لما يمكن أن يقدمه المجتمع الدولي للحالة السورية.

في سياق آخر، يعرف الجميع أن السيناريو اليمني فرض فرضا من الخارج، وتضافرت على نجاحه عوامل داخلية ذات صلة يصعب توفرها في الحالة السورية، حيث تطوق اليمن دول الخليج العربي المعنية بمنع انزلاقه إلى مزالق خطيرة تهدد استقرار المنطقة، بينما يتحكم في الخصوصية السورية ارتباطها بمحور نفوذ إقليمي تقوده روسيا وإيران، يمنع تقديم تنازلات يمكن أن تمس التوازن القائم، ولا تأخذ في الاعتبار مصالح موسكو وطهران.

ونضيف أن الوضع اليمني القبلي التكوين، حفز ظهور كتل اجتماعية كبيرة ذات طابع عشائري أيدت مطالب الشباب الثائر وقدمت لهم كل أشكال الدعم، ما أفضى إلى انقسام أفقي وعمودي في السلطة، أكره الجميع على التعاطي بإيجابية مع الحل التفاوضي.

بينما ثمة خصوصية في التركيبة الاجتماعية السورية لجهة التعددية الاثنية والدينية والطائفية، وتفاوت مواقف هذه المكونات من مسار الثورة وعملية التغيير وآفاقها، وتحديدا خوف بعضها على هويته ونمط عيشه من احتمال استئثار بديل إسلامي بالسلطة.

وهنا، لم يدخر النظام جهدا في مغازلة هذه المكونات وتعزيز مخاوفها والرهان عليها، لخلق صورة عن نفسه بأنه حامي حماها، وبأن استمراره ضرورة حيوية لها، وتاليا لعزل الحراك الشعبي ومحاصرته والطعن بوطنيته وشموليته.

وطبعا، كان الخيار الأفضل للمجتمع السوري لكنه الأصعب على النظام الحاكم ومصالح بعض المتنفذين، المبادرة للتعاطي الإيجابي مع الواقع والتفاعل مع اتجاهات تطوره، وذلك باستثمار بدايات الحراك الشعبي.

لكن ليس من أجل تعديل شكلي لبعض القوانين ومواد الدستور، أو تقديم بعض الرشاوى للناس وزيادة الأجور لتخفيف حدة معاناتهم الاجتماعية والاقتصادية، بل بالمسارعة لإجراء إصلاحات سياسية جدية وجريئة تنزع صواعق التفجير الداخلي.

ومع أن الكثيرين نفضوا منذ زمن طويل أياديهم من السلطة القائمة، فلا ضير من التذكير بأن الأمور ما كانت لتذهب إلى هذا الدمار والخراب، لو كانت ثمة جدية لدى السلطة في السير نحو الانفتاح على المجتمع وقواه الحية، بما يعني التطلع لتقديم تنازلات جريئة على صعيد حقوق المواطنة والعدالة وسيادة القانون، وإعادة صياغة مصادر الشرعية لا بفعل القمع والشعارات الطنانة، بل على أساس نيل رضا الناس لما تقدمه السلطة من ضمانات لحريتهم وعيشهم الكريم.

المفارقة الأخيرة تكمن في خصوصية انتماء النظام السوري إلى نوع الأنظمة العاجزة عن تقديم التنازلات، والتي لا تقبل أية مساومة على بقائها أو أية تعديلات في تركيبتها.

والمرجح أن تخوض هذه الأنظمة معركتها في الحكم إلى النهاية كمعركة وجود، وأن تتصرف أركانها وكأن ليس من رادع يردعها في توظيف مختلف أدوات القمع والفتك، في رهان واهم على إخماد الثورة وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، ربطا بالإصرار على إنكار مشروعية حراك الناس وتصويرهم كأدوات طائفية ومتآمرة يحل سحقهم، بما في ذلك استخدام العقاب الجماعي والتنكيل العشوائي لإبادة البيئة الاجتماعية الحاضنة للثورة.

ويبقى الجديد أمام الاستعصاء المزمن للصراع السوري، وحالة الضعف التي وصلت إليها أطرافه، وجعلته فريسة سهلة لقوى التدخل الخارجي وأكثر ارتهانا لها، تنامي الرغبات الإقليمية والعالمية لإنهاء هذه البؤرة من التوتر، تأثرا بتنامي مخاطر امتداد العنف إلى بلدان الجوار والتي بدأت نذره تتكاثر.

هذا فضلا عن نجاح الدول الكبرى في إبرام اتفاق مع إيران حول ملفها النووي، ما يمنح المجتمع الدولي قدرة خاصة اليوم، على فرض الشروط والإملاءات، إن لجهة وقف العنف، أو لجهة تقرير مسار الحل السياسي.

وعليه، ليس غريبا أن يعلن سوريون من عمق معاناتهم عبارات تؤيد مؤتمر جنيف2، وتعول على المجتمع الدولي في إنجاحه، لأنه عند ملايين المتضررين يشبه بوابة خلاص مما هم فيه، يحدوهم الأمل في أن يشكل عقد المؤتمر حافزا لوقف العنف فورا وتبديل الصورة النمطية للمشهد الدموي السوري.

كما يحدوهم الأمل أيضا أن يفضي -في ضوء الإنهاك المتزايد للقوى العسكرية وحاجة حلفاء الطرفين لتخفيف أعبائهم وتقليص أشكال الدعم- إلى تفكيك الأطراف المتمسكة بخيار العنف وعزلها، والتي تضم مراكز أمنية وعسكرية داخل النظام نفسه، وجماعات مسلحة في المعارضة، تتفق جميعها موضوعيا على رفض تغيير ما خلقته سطوة الفوضى والسلاح، وخسارة ما جنته من مكاسب وامتيازات.

ولن تتأخر هذه الأطراف عن توظيف ما حازته من إمكانيات لإفشال أي مشروع سياسي، بما في ذلك تبادل الأدوار لتسعير الصراع العسكري وإبقاء مناخ الحرب مسيطرا على الجميع.

إذا كانت أهم نتائج الربيع العربي هي إعادة المجتمع إلى السياسة، وبعث صور التظاهر والاحتجاج الشعبي من الرماد، بعد أن غيبتها آلة القمع والاضطهاد لعقود من الزمن، وهو الأمر الذي لا تزال بلدان الثورات العربية تضج به ويسم تطور خلافاتها وصراعات مكوناتها، فإن استمرار اللجوء إلى السلاح طلبا للحسم في سوريا وسيادة منطق الحرب، يجهض هذا التحول النوعي، ويعيد الأمور إلى المربع الأول.

كما يفضي إلى تعميق الدمار والشروخ في المجتمع وتمزيق أواصره، وإلى الإجهاز ليس فقط على مشروع التغيير وإنما على الوجود الوطني من أساسه.

أخيرا، إن أسباب الثورات وثمارها لا تقتصر على الوجه السياسي ومجرد إسقاط نظام الحكم القائم، لكنها تعني تغييرا يتراكم في مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والأخلاقية، جوهره القطيعة مع عشرات السنين من الوصاية والاستبداد، ومن منظومة الخوف والرهاب، ومن الإفراط المرير في الإهانة والإذلال والاحتقار.

إنه تغيير بدأ منذ انطلاق موجات الربيع العربي من تونس في مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات، فأيقظ الشعوب وأعاد بناء ثقتها بنفسها، مغذيا شعورها بالانتماء الوطني والإنساني، ومثيرا فيها مكامن الحرية والخير والعدل والإيثار والتضحية.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى