بشير عيسىصفحات سورية

الرحمة والسلام حين ينضحان بالكراهية!/ بشير عيسى

 

 

تحت عنوان «الرحمة والسلام»، جاءت خطبة السيد حسون مفتي «الجمهورية» السورية، والتي أراد منها، إرسال رسالة للعالمين «الإسلامي والمسيحي»، على اعتبار أن ذكرى المولد النبوي تصادف مرورها مع ذكرى ميلاد السيد المسيح. فأتت الافتتاحية لتشدد على القيم السامية التي كرّم فيها الله الإنسان، بغض النظر عن دينه، مستشهداً بعلاقة آدم بخالقه وترفيعه على الملائكة بأن أعطاه الله من علمه، ونفخ فيه من روحه. وزيادة في الأمر، أرسل الأنبياء لخدمة الإنسان ومجتمعاته، فكان قدوم السيد المسيح، رسالة سلام ومحبة، والنبي محمد، رحمة للعالمين، وأن الدين لا يستوي مع العنف والكراهية.

هذا الكلام بالمنظور والمنطق الديني المجرد، يمكن تفهمه والثناء عليه، شريطة إدراك أصحاب هذا النهج بأن نسقهم الفكري يشكل جزءاً وليس الكل، من منتوج المعرفة البشرية المتعدد، وهو مقرون بقبولهم للآخر المختلف، بعيداً عن أي منطق وصائي أو استعلائي. ولتحقيق ذلك «يجب القيام بالانقلاب الفكري المحرّر على بذرة العنف، الموجودة في أعماق كل إقناع ديني قوي، سواء أكان إسلامياً أو مسيحياً أو يهودياً…إلخ «. وهذا ما لم يتم إنجازه بعد، أقله لجهة الخطاب الإسلامي، وهي مسؤولية تتحملها نخبنا الدينية والثقافية، كونها لم تكن على مستوى التحديات الحضارية.

فبدل أن تنجز مشروعها النهضوي – الذاتي في القطع المعرفي، مع القراءات المذهبية الضيقة، للنص والتراث، نراها تخشى المغامرة في الولوج إلى عالم الحداثة، حيث تستأنس بالركون إلى المحطات التأسيسية الأولى من عهد الدعوة، تحت ذريعة الحفاظ على الخصوصية الثقافية تارةً، وتحميل المسؤوليات للغرب الاستعماري واليهود تارةً أخرى!.

ففي سياق خطبة المفتي نرى هذا الميل جلياً، لا سيما حين يقحم السياسي في الديني، بقوله «يا أبناء حوران، أما انتبهتم ماذا تفعلون؟ هنا على أبواب بصرى، كان الراهب بحيرة، والذي قال لعمّ الرسول: أبا طالب، عد به إلى مكة، فإن رآه اليهود قتلوه! فالذي يطببكم الآن، هو الذي حاول أن يقتل نبيكم ويسم نبيكم»!

هذه الاستعارة الرمزية القائمة على مرويات تـراثـيـة، أخـذت طريـقـها للتدويـن بعد مـرور قــرن ونيّف على وفاة الرسول، لها وظيفة إيديولوجية – سياسية، تقوم على التضليل المعرفي وحجب الحقائق، بغية حصر الشر بمن نريد معاداته، ناسياً سماحته أن من أخرج النبي من مكة وقاتله هم أبناء جلدته، ومن خذله في معركة أحد، هم أنصاره، بل إن اليهود في معركة الخندق، رفضوا فتح حصونهم لأحزاب قريش، ملتزمين بالعهد الذي قطعوه للنبي، ولو كانوا ممن يخلّون بالعهود، لما كان النبي ليوقّع معهم الصحيفة!. ولو فتح اليهود حصونهم، لحدثت أخطر معركة، وما كان للأحزاب أن تتفرق بعد طول حصار!.

طبعاً هذا لا يلغي أن البعض من اليهود كانوا يضمرون شراً، وهذا من طبيعة الحياة، لكن التعميم واتهام طائفة أو جماعة بأكملها، فيه تجنٍ ودلالة على عدم النضج المسؤول.

وبدل أن يستدرك سماحته خطأه الشرعي، في تحميل الأبناء مسؤولية الأسلاف، عملاً بالآية «لا تزر وازرة وزر أخرى»، نراه ينزلق بعنف أشد، يناقض ما استهل به خطبته، إذ ينزع عن المسيحيين مسيحيتهم، بقوله «إن كنتم من أتباع عيسى فتعلموا كلمة السلام، فقد فقدتموها منذ مئات السنين، منذ جئتم إلى الأقصى، فذبحتم باسم الفرنجة 70 ألفاً في المسجد الأقصى، وقد تركتم المسيح عليه السلام، يوم أدخلتم شذاذ الآفاق إلى الأرض المقدسة. نعم، تركتم السلام، فلا أرى أن هنالك في معبد من معابدكم، نور المسيح ولا سلام المسيح، بل تعالوا إلى مساجدنا ومعابدنا، لنعلمكم من هو المسيح ومن هو رحمة الله للعالمين!».

يبدو أن سنيّ العمر نالت من ذاكرة وفطنة المفتي، فنسي أنه ينتمي إلى «نظام علماني» يفصل السياسة عن الدين، فكيف الحال مع الغرب الأوروبي! ألا يدري أن الكنيسة لم تعد تحكم؟ وأن اليهودية شهدت تجربة التنوير على يد الفيلسوف موسى مندلسن المعاصر لمانويل كانط، ومارست إصلاحاً دينياً على غرار ما سبق للمسيحية أن فعلت. ولذلك حين تعرض اليهود في أوروبا للاضطهاد والهولوكوست، لم يتحولوا إلى جماعات انتحارية، تمارس القتل العشوائي! بل تحولوا إلى نخب في كافة المجالات. وهنا لسنا بصدد الحديث عن قيام دولة إسرائيل، التي ساهمت فيها السياسة والتاريخ والمعتقدات، وكنا قد تناولناها في مادةٍ سابقة.

وعليه، أتمنى على سماحته وهو يحدثنا عن السلام والمحبة، ألا يقع في خطاب الكراهية والتكفير، الذي يدّعي محاربته! وألا ينساق في الفانتازيا التي تروج لفكرة أن اليهود يحاولون الإيقاع بين الإسلام والمسيحية، فهذا لا يليق بحجم هذين المكونين، وكأن المرجعيات المسيحية والإسلامية غير راشدة. فالداء داؤنا وأهل مكة أدرى بشعابها!.

إن المطلوب من العرب أن يقدموا الداخل على الخارج، ليكونوا فاعلين لا منفعلين، وأن يعيدوا الاعتبار لتاريخهم التعددي، أسوة بمن سبقهم، فلا نصف تاريخنا بأنه «جاهلي، غارق في الشرك والكفر، وانعدام القيم والأخلاق»، كما جاء في خطبة «المجاهد» عبدالملك الحوثي في المولد النبوي، غافلاً عن أن النبي، قد جاء ليتمم مكارم الأخلاق. فالحوثي يريد منا «مواجهة الحملات العدائية المسيئة، التي تشنها الصهيونية العالمية، بقيادة أميركا وإسرائيل، باعتبار أن وراء ذلك كله اللوبي اليهودي، والذي يجب أن تقف الأمة في وجهه»!. وعجيــب أمر الحوثي، فمن كانت بلاده تحتــل المراتب الأولى في البطالة والأمية والعنف القبلي والمذهبي، عليه أولاً، إصلاح ذات البين في بلاده، كمقــدمة للتــنمية، قبل توريطنا بمعارك طواحينه الجهادية!.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى