ابرهيم الزيديصفحات الناس

الرقة التي يتحدثون عنها/ إبرهيم الزيدي

 

 

الرقة… وما أدارك ما الرقة؟ تلك المدينة التي أصبحت “موديلا” يتفنن قادة العالم في رسمها، كل دولة تنظر إليها من زاوية مصالحها، وترسمها بطريقتها الخاصة! هي لاذت بالصمت ككل السبايا، خشية أن ينفضح مآل شرف البلاد المودع بين ساقيها. أما نحن “الرقاويين” سابقاً، فأصبحنا ورثة الذكريات التي لا يزال شجرها أخضر. هنا كانت مكتبة “الهيثم” حيث كنّا نشرب الشاي، ونحتسي سيرة الكتّاب المشاركين في مهرجاناتنا الثقافية المتلاحقة. هناك كان متجر “كشمير” الذي سرق رصيفه من عمرنا أجمل الأمسيات، حيث كان السابق يترك للاحق مقعده، وما تبقى في فنجانه من قهوة باردة، ويستكمل حديثه عن مستقبل الثورة واقفاً. من ذاك الشارع يتفرع الطريق المؤدي إلى “ستوديو يوسف دعيس” المقر الرسمي لمناقشة القصة القصيرة، وما ستؤول إليه قصيدة النثر. في نهاية شارع “تل أبيض” عيادة الدكتور محمد الحاج صالح، الشقيق الأكبر للمعارض والمفكر السوري الشهير ياسين الحاج صالح، حيث المقاعد الوثيرة، والحوارات التي تبدأ أدبية، ولا تلبث أن تتحول إلى سياسية. لم يكن ريف المدينة أقل ثقافة من مركزها، لا بل كانت الإضافات الحقيقية غالباً ما تكون نتيجة ذلك الفضاء، فالدهشة التي تركتها مجموعة الدكتور إبرهيم الجرادي، “رجل يستحم بامرأة”، لا تزال حيّة في ذاكرتي، ولم يكن المضمون، والصور التي احتوتها تلك المجموعة أقل إدهاشاً. أما مجلة “الناقد” التي كانت تصدر عن “دار الريس للنشر”، فقد كان الفتح المبين في أعدادها الأولى للشاعر عبد الحميد الخلف الإبرهيم، أحد أهم الذين كتبواً في الأدب السياسي الساخر، وكان أحد المراجع الأساسية لخلافاتنا النحوية، وإشكالات العروض وجوازاته. ثمة جيل سابق، خير من يمثله الدكتور عبد السلام العجيلي، الذي عاصر الحراك الشبابي ثقافياً، إلا أنه لم تكن له مساهمة فيه، فقد كان فرق العمر بيننا وبينه كبيراً، وكذلك الشاعر والمؤرخ مصطفى الحسون، “بحتري الرقة”، صاحب المعارضات الشعرية المهمة، الذي بفضله أعيد الاعتبار إلى سور الرقة الأثري. في الطرف الآخر من المشهد، ثمة مفاخرات قبلية تدور في فلك الحوادث التاريخية التي شهدتها الرقة، أهمها ما حدث في 4 تموز من العام 1941 حيث أعلن غفان التركان أحد أعيان الرقة، تمرده على الاحتلال الفرنسي، وأقام حكومة الرقة، “الدولة الغفانية”، التي استمرت ليوم واحد، حيث أقدم مع رجاله على إحراق السجل المدني، “النفوس”، وكذلك الوثائق الموجودة في السرايا القديمة، ثم تابع تقدمه لاقتحام الثكنة، المقر الرسمي للحامية الفرنسية، فتصدت له القوات المرابطة هناك، وأبعدته عن الرقة، فعبر الفرات في اتجاه قرى الكسرات، فأقدمت القوات الفرنسية على ضرب القرى المواجهة لمدينة الرقة، وقبض الفرنسيون على خمس عشرة امرأة من نساء المنطقة، وأودعن سجن السرايا للضغط على غفان ورجاله، فاقتحم الشيخ محمد الفرج السلامة شيخ عشيرة الولدة السجن وأفرج عنهن متحدياً قوات الاحتلال الفرنسي. ثمة قبائل أصبحت انتخابات “مجلس الشعب”، وعدد الأصوات التي حازها مرشح هذه القبيلة أو تلك، هو الحامل الموضوعي لفخرها! في العام 1973 افتتح سد الفرات، الذي أصبح قبلة لآلاف العمال والموظفين، من المحافظات السورية، فكانت الرقة خلاصة سوريا، اجتماعياً وثقافياً، فتعددت اللهجات والأزياء ولم يعد أحد يشعر بالغربة. فقد وجد فيها الجميع ملاذا لأحلامهم البسيطة، التي عصفت بها رياح اليأس، بعدما دخلت سوريا غرفة العناية المشددة. آنذاك كانت الحقائق مثقلة بماكياج الشعارات، تلك الجعجعة التي عاشت عليها سوريا منذ العام 1963، ولم تر طحيناً! وقد أدرك الناس ذلك، فانصرفوا في الآونة الأخيرة إلى الممكن من الأحلام، وقد كان حلم كتّابها أن تكون الرقة “عاصمة للثقافة”، فكانت أول تظاهرة ثقافية دولية في العام 1981 التي حملت عنوان “الندوة الدولية لتاريخ الرقة” وأسست لحراك ثقافي مميز، استمر حتى العام 2005، حين بدأت المرحلة الثانية من ذلك الحلم، فكان مهرجان الشعر العربي الأول، الذي استمر لمدة 6 سنوات، وتزامن مع مهرجان للرواية أيضا، وملتقى دولي للفن التشكيلي، والكثير من الندوات والأمسيات والمحاضرات، وقد كان التركيز في تلك الأنشطة الكبيرة بإسمها، وتكاليفها، على ما تحققه إعلامياً، فاستقطبت الكثير من أقلام الصحافيين، ونالت الرقة حصتها من المديح المجاني بذريعة تلك المهرجانات، إلاّ أن تلك الأقلام لم تلامس واقع حال المدينة، ولم تطالب باحتياجاتها البنيوية، فانتعلت الرقة بؤسها، ومضت لتأخذ مكانها إلى جانب أخواتها من المدن المنسيّة في سوريا الحديثة!

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى