صفحات الرأي

صُدَف “اليساري الممانع” / حسام عيتاني

يعادي “اليساري الممانع” الولايات المتحدة، قلب الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة. ويناهض اسرائيل، الكيان العنصري المحتل. ويعترض على أي دور أو موقع “لإسلام السلطة” في الحياة العامة. ويصوغ من هذه المواقف أيديولوجيا مقاومة تقدمية يدعو إلى إعلائها على الانقسامات المتخلفة التي ورثناها عن الاستعمار.

لكن هذه الإيديولوجيا التي يرى فيها صاحبنا قاطرة للثورة العربية الحقيقية في زمن “الخريف العربي” والثورات الزائفة، تكتنفها جملة من “الصُدف” الغريبة حقا.

ويصدُف أن الانقسامات الطبقية الناجمة عن التناقض بين العمل ورأس المال والذي ترتكز عليه كل أيديولوجيا يسارية، لا تبرز جلية في بلادنا العربية وخصوصاً في المشرق حيث تغلب عصبيات الهوية والانتماءات ما دون السياسية وتحل الجماعات الأهلية المتجانسة دينياً وطائفياً وقَبَلياً مكان المجتمع متعدد الطبقات بصيغته المستلة من اجتماع أوروبا في القرن التاسع عشر. ويهيمن هنا نمط انتاج هجين لا يخلو من ملامح طائفية صريحة ومستترة، ويتراوح بين المشاعية البدائية والرأسمالية بصيغتها الطفيلية الريعية، وفق التصنيف “الكلاسيكي” لأنماط الإنتاج، فارضاً تناقضاته وصراعاته وعلاقاته المركبة والمعقدة.

لا يبالي “اليساري الممانع” بهذه العوائق. فنموذجه جاهز للإجابة على كل التحديات، السياسية والمعرفية سواء بسواء. ويعلن، هو حامل لواء الحداثة والتقدم والانتماء إلى مستقبل مشرق تسوده العدالة الاجتماعية، وبعد عقود من إنكار كل ما يمت بِصِلة إلى الحراك والتطور والتناقض الداخلي، أن لا شيء مهماً في المجتمعات العربية غير تصديها للمؤامرات التي ما انفكت الإمبريالية والصهيونية تحيكانها على الأنظمة التقدمية الممانعة. تظهر “الرجعية العربية” بين الحين والآخر تبعاً لتغير علاقات “التقدميين” مع أصحاب البترودولار وهي لا تزيد عن علاقات ابتزاز وترهيب.

ويصدف أيضا أن تتصاعد وتيرة التآمر الخارجي وتنفجر ثورات مزعومة في العالم العربي. لا يتأخر “الممانع” عن تحديد مصدر هذه الأحداث وتحليلها كتدخل سافر أميركي- إسرائيلي- تركي- خليجي، للقضاء على الأنظمة التي تمنع إسرائيل من استكمال مشروعها الصهيوني. ولا يجد صاحبنا غير الأحزاب العلمانية ينيط بها قيادة المواجهة التاريخية مع قوى الظلام الزاحف. لكن يصدف أن هذه الأحزاب تمثل، بين أشياء قليلة أخرى، تجمعات لأبناء الأقليات المذعورة في هذه الانحاء. وليس كشفاً عظيماً القول إن إنجازات هذه القوى والأحزاب “العلمانية” في مجالات الفكر والممارسة، تداني الصفر.

وفي بحثه عن مصادر قوة لمواجهة الهجمة الجديدة، يصدف أن يكتشف “اليساري” المذكور الدور الإيراني. ورغم عدد من الصدامات والاغتيالات والتصفيات القديمة، وهي هِنات هيّنات لا تفسد في الود قضية –طبعاً- والتي أمرت بها إيران ضد يساريين وغير يساريين في عدد من بلدان المشرق خصوصاً في الثمانينات من القرن الماضي، فذلك لا يحول دون قيام “محور المقاومة” وتحقيقه انتصارات هائلة.

غني عن البيان أن إمساك الولي الفقيه بأسباب الحكم كلها في إيران لا يحرج “اليساري الممانع”. فإيران تشكل خزّان الممانعة والمقاومة الاستراتيجي. وإسلام حكامها لا يجب أن يحجب حقيقة دورها الرائد في منازلة الإمبريالية والغرب المتصهين. والحكام الإيرانيون لا يمثلون “إسلام سلطة” بل إسلام ثورة على الاستكبار اختار المستضعفون الإيرانيون (المعادل النظري للطبقة العاملة) شكلاً دينيا لها.

يُضاف إلى ذلك تقسيم ضمني للعمل السياسي والثقافي بين الطوائف. الأقليات هي من يحتكر حفظ الهوية الوطنية. ولعلة ما، يبدو أنهم هم من يتحدر من الكنعانيين والفينيقيين. وهم أحفاد من اكتشف الحرف وصدّر الأبجدية. وهم من يتسع أفقه الثقافي للإحاطة بالحداثة العالمية والانتساب إلى تياراتها الفكرية الطليعية. الآخرون من أبناء الأكثرية ليسوا سوى مجموعات من العربان الذين قذفتهم الصحراء على أرض الحضارات الراسخة. أو في أحسن الأحوال شرائح من البرجوازية الصغيرة المتذبذبة والخائنة بطبيعتها.

وهنا تنتهي الصدف. فلا يجوز، في رأي “الممانع” أن يرتفع في صفوف الأكثرية كاتب أو مفكر. الأماكن هنا محجوزة لطامحين إلى جوائز نوبل ومدعي ثقافة وعلم رغم أن أكثرهم لا تزيد قيمة مساهماته الفكرية والادبية عن أكوام من الورق المهدور. أما إذا تجرأ واحد من الأكثرية على الإدلاء برأيه في الطائفية السياسية، على غرار ما فعل صادق جلال العظم مثلا، فالويل والثبور للطائفي الظلامي المارق سليل الاقطاع والاستغلال.

عليه، يبني “اليساري الممانع” سياجا عاليا من الأقوال والمهاترات عن النضال ومناهضة الامبريالية والصهيونية ولا يتورع عن رمي كل مُخالف بتهم الانبطاح أمام الرجعية والترويج للتخلف. لكن يصدف، في المقابل، أن الزمن هو زمن الزلازل الكبرى وأن عمارته مرتفعة الأسوار لا تلبث أن تنهار لتكشف ما تخبئه وراءها من أسن الطائفية والمشاعر المريضة والرهانات القميئة.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى