صفحات الحوار

الروائية السورية مها حسن: النظام سقط بالفعل


والشارع السوري تجاوز أحلامنا وطموحاتنا ومخاوفنا كمثقفين

تفرد الكاتبة صفحات روايتها الجديدة، “بنات البراري” (دار رياض الريس) للاهتمام بمسألة “جرائم الشرف”، سلطانة، التي تحبل بسبب علاقة عاطفية مع ابرهيم، يذبحها والدها على علم من القرية جمعاء. رأسها ينفصل عن جسدها، في وقت تخوض فيه طفلتها رحلتها للخروج من رحم أمها وحيدة. هي الأخرى، ستحاط بظروف مطابقة تماما لظروف والدتها، وستلقى المصير نفسه على يد أبيها ابرهيم، الذي كانت زوجته ضحية علاقتها به. التقينا مها حسن في بيروت، وحول روايتها هذه الصادرة حديثا، وحول الأوضاع في سوريا، بلدها الذي تراقبه من باريس، محل إقامتها، كان هذا الحوار.

¶ واضح أن جريمة الشرف هي العمود الفقري لهذا العمل. هناك خطان، واحد اجتماعي واقعي، له علاقة وثيقة بالبيئة والتقاليد، وآخر فانتازي شاعري، مشغول بمخيلة أعلى. ألا ترين ان الجمع بين هذين المكوّنين، يشكل خطرا على تماسك العمل وقوته وسياقه؟ ألم يكن هناك خوف من أن يبتلع خط الواقع نظيره الفانتازي؟

– أعتبر نفسي كاتبة تجريبية. كنت خائفة من أن أحكي بقضية كهذه لكن بأسلوب مباشر او مانيفست. مهمتي كروائية تحتم عليَّ أن ابتعد عن المانيفست. هذه القضية تمسني جدا كامرأة، ولها علاقة بنسيجي. في أحد الأيام، كدت أكون ضحية “جريمة شرف”. حتى الآن، إن عدت إلى سوريا، فقد أجد نفسي محاطة بتدخلات من الأهل والمحيط الاجتماعي في كثير من شؤوني الشخصية. كل كاتبة عربية أو سورية يمكن أن تكون ضحية لهذا الموضوع. بوصفي روائية، عندي صراع بين أن احكي الشق الإيديولوجي المباشر والشق الفني. أنحاز أكثر الى الفني قياسا بالإيديولوجي أو الاجتماعي. الخوف أن يكون هناك بيان سياسي في العمل الروائي. هذا ما يقلقني فأسعى لتفاديه. لكن لا مفرّ من التطرق للواقع ومعاينته بطريقة أو بأخرى. اوافقك الرأي، هناك تخوف من أن يبتلع الواقع المكوِّن الآخر في العمل، أي الفانتازي. أخاف ان يبتلعني الواقع. ليست مهمتي أن أروج لمواقف في شأن جرائم الشرف. هذا اختصاص المجتمعات الاهلية والمدنية والناشطات في حقوق المرأة. إن نجحت في تضمين العمل بعض الملامح الواقعية، اكون مسرورة لان ذلك يؤكد لي انني لم أقع في فخ الخطابية.

¶ عملتِ على جيلين متعاقبين. فظروف سلطانة (الأم) مشابهة لظروف الإبنة (ريحانة)، بل متطابقة في بعض الأحيان (كلتاهما تمارس الحب في الغرفة نفسها، وعلى وقع رائحة الياسمين وأزهارها المسحوقة تحت جسديهما)، كما أنك حفظت المناخ نفسه وتأطير الأب بصيغة رجل يقتل ابنته مقابل عاشق مفجوع. هل أردت أن تظهري تواتر الزمن واتصال حركته، وتكرر هذه الحركة، بإعادة الظروف نفسها لجيلين متصلين؟

– بل الى الجيلين الثالث والرابع. الجريمة مستمرة. في فصل “الأسود” أقول إننا كسرنا الكثير من التابوات. نعم، نجحنا في كسر تابو الجنس إلى حد كبير، كما الدين والسياسة، إلا المرأة. لا يزال التطرق إلى حقوقها محرَّما ومستنكرا. علاقة المرأة بالمجتمع والرجل في العالم العربي، هي تابو. الكثير من المثقفين العرب وحتى رجالات السياسة، لديهم هذه الازدواجية. يمكن الواحد منهم أن ينادي بإسقاط النظام والهيمنة الأمنية، لكن عندما يتصل الامر بامرأته أو ابنته، فقد تكون عرضة للذبح لمجرد أن رجلا غريبا نظر إليها. هذا الموضوع مستمر. لو لم تمت سلطانة ولو لم تنجب ابنتها، ولو حملت الإبنة مثلا، لولدت طفلة كانت لتكون معرَّضة لاحتمال أن تقع ضحية جريمة شرف. هناك حتمية تمر بها المرأة. قد أكون سوادوية بعض الشيء في الرواية، وقد تجد من يقول لك إن وضع المرأة بخير في العالم العربي، وهي لها وظيفتها ودورها ومكانتها في المجتمع. ويمكن كذلك أن تلقى مجلات جنسية وإيروتيكية في العالم العربي، وهناك من يطلع عليها، لكن، ما هي نسبة هؤلاء؟ لا شك أنهم يشكلون نخبة وسط المجتمع العربي. لكن، حين تنزل إلى ثنايا البيئة العربية، إلى طبقاتها المستترة، إلى تلك البيوت، وتلك العائلات، ستجد اناسا يعيشون بهذه الطريقة. أنا نشأت في بيئة حلبية. هناك من يعتبر أن صوت المرأة عورة. ليس الامر متعلقا بالدين أو الإسلام، لكنه مرتبط بالتقاليد. اعتبر أن هذا هو الواقع الاقرب الى المرأة. نحن دائما الضحايا.

¶ حتى في التكتلات العربية والإفريقية داخل المجتمع الاوروبي، هناك حالات مماثلة لجرائم الشرف.

– اجل. هناك أيضا في الهند وباكستان وتركيا. الأمر ليس محصورا بالعرب، إلا أنني آثرت التكلم عن الواقع العربي في الرواية. مذ فتحت عيني كمراهقة في الخامسة عشرة، كانت أمي تنبهنا. كأن المطلوب من المرأة ان تضع يدها على فرجها طول الوقت لصون شرفها. وكأن شرفها محصور في تلك المنطقة من الجسم.

¶ تتعاطين مع المسألة بسبب تجربتك الشخصية، والبيئة الحلبية التي عشت فيها. ألا ترين أن تغير الزمن وتطور المعطيات الاجتماعية، يفرضان اولويات جديدة على الفن، والكتابة عموما؟ فما تعيشه البقعة العربية حاليا من ثورات، يفرض علينا بشكل أو بآخر إيلاء الاهتمام الاول بهذه الظواهر الفريدة في تاريخنا المعاصر.

– قبل ان تنطلق الأحداث في سوريا (15 آذار)، كان هناك جدل يدور بين الاصدقاء. البعض كان يعتبر أننا مثلا لا نستطيع التطرق إلى قمع المرأة الفلسطينية من قبل محيطها في ظل وجود الاحتلال الاسرائيلي. كأن نقول انه يجب عدم الحديث عن شيء في ظل وجود شيء آخر. لا اتفق مع هذا الرأي إطلاقا. كل تأجيل لموضوع المرأة هو تهرب ومماطلة. موضوع الاحتلال الاسرائيلي مرتبط تماما بتحرير المرأة. عندما بدأت الانتفاضة السورية، ظننت ان روايتي ستولد ميتة. اعتبرت أن الظرف غير مناسب للحديث عن قضايا كهذه. بالتأكيد أن ما يحدث في سوريا أوسع. مشاركة المرأة في الثورة السورية، كسمر يزبك وروزا ياسين حسن وسهير الاتاسي ومنتهى الأطرش وخولى دنيا وهالة محمد وهالة العبدالله وغيرهن. هؤلاء النسوة يولين الاهتمام للثورة السورية الآن، وبالتالي فإن موضوع جرائم الشرف تأجل الحراك فيه نظرا للمستجدات التي تتطلب من النساء مجهودا وفاعلية ومشاركة اكثر تأثيرا. النساء العاملات في الحقل السياسي والحقل الاجتماعي والحقل الحقوقي وحّدن نشاطاتهن، حتى أنهن سمّين أحد أيام الجمعة “جمعة الحرائر” وكان هناك اعتراض من البعض. قد لا يكون الوقت مناسبا للحديث عن جرائم الشرف الآن، لكن التغيرات التي يشهدها العالم العربي يمكنها أن تؤثر على المستقبل الثقافي كما على مفاهيم عدة. ما حدث في سوريا فاجأنا جميعا. فوجئنا بالكثير من الظواهر، ككسر التماثيل مثلا. لم نكن حتى لنجرؤ على الحديث بحرية في المقاهي احيانا، وها نحن نشهد تماثيل تُحطَّم وصورا تُمزَّق. حتى أن رجالات النظام باتوا يعمدون إلى إخفاء التماثيل لإنقاذها من أيدي المتظاهرين. صار هناك خليط اكبر بكثير من مسألة حقوق المرأة. ممكن أن يعاد النظر في قانون الاحوال الشخصية ومشاركة المرأة في الفعل السياسي. هذه الرواية كتبتها قبل انطلاق الثورة السورية، ويمكن أن تشهد كتاباتي تحولا بعد هذا التاريخ. لكن جرائم الشرف متفشية، وهي تتم أيضا في دول عربية عدة كلبنان والأردن وفلسطين. يمكن أن تحدث الجريمة لأسباب لها علاقة بالثأر، أو الميراث مثلا. نسمع ان في حلب مثلا، بعض الجرائم تتم فقط لان خبرا انتقل بالسماع. كأن يقول أحد لشخص ما “رأيت أختك في الكافيه جالسة مع شاب”، فيذهب لقتلها. تأمل قصة هدى بو عسلي وهي ممن أهديت اليهن الكتاب. تزوجت شاباً من طائفة مختلفة فقتلها أهلها معتبرين أن زواجها غير شرعي. لا اعتبر نفسي نسوية أو مدافعة عن حقوق المرأة، إلا أنني حين أراجع نفسي أجد أن ما اوصلني إلى طريق الكتابة هي أزمتي كامرأة. ربما لو كنت رجلا لما كنت كتبت. كوني امرأة، حتم عليَّ ان أخوض صراعات مع العائلة والعشيرة. يسهل تعهير امرأة لمجرد ان تمارس نشاطاً سياسياً أو اجتماعياً او ثقافياً مختلفاً. وأحيانا يتم تعهيرها من نخبة ذكورية. الرجال أيضا ارى أنهم يحملون عبئا بأن لزاما عليهم أن يقتلوا النساء. إنهم يحملون ثقلا.

¶ أسس النظام السوري منذ أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد، نظام العائلة السياسية التي أتت لتستبدل العائلة الإجتماعية وتنوب عنها. هل ترين ان الأنظمة العربية عموما تساهم في تهميش المرأة وإعلاء الصورة الذكورية على حساب صورة المرأة ودورها؟

– هي أنظمة ذكورية أبوية لا تعترف بالآخر، سواء المرأة أو الأقليات. خذ مثلا الاتحاد النسائي في سوريا. هل يدافع هذا الاتحاد البعثي عن المرأة؟ بالطبع كلا. هن بعثيات. كذلك اتحاد الطلاب واتحاد العمال واتحاد الكتاب العرب. هي كلها مؤسسات تتبع الفكر الواحد والحزب الواحد والزعيم الواحد. مؤسسات تحد من وجود المرأة ودورها وتخدم صورة الأب القائد الزعيم الذكر. قد يقيم إبن سياسي معروف علاقة عابرة مع امرأة. هي له أداة إمتاع. هؤلاء لا يريدون الاعتراف بحق المرأة لأن تكون ندا اجتماعيا وسياسيا لهم.

¶ كونك تعارضين النظام، وتتابعين الشأن السوري، كيف تستشرفين مستقبل هذا النظام، وكيف ترين إلى دور المثقف في هذه الثورة؟

– لا استطيع التنبؤ بالمستقبل، لكن مما لا شك فيه ان الشعب السوري حقق من شهر آذار إلى الآن، انجازات هائلة. هناك أولا تزايد في اعداد المتظاهرين ضد النظام. وكل جمعة تشهد اعدادا اكثر من قبل. في حماة بلغ عدد المتظاهرين في الحراكات الأخيرة حوالى نصف مليون شخص. مدينة حلب تحركت أيضا. لا يمكن الشعب أن يرجع إلى البيوت. لقد خرج الشعب السوري إلى الشارع. الشارع تجاوزنا جميعا كمثقفين. تجاوز أحلامنا وتجاوز طموحاتنا وتجاوز مخاوفنا. قبل الثورة السورية، كنت ترى بعض المثقفين خائفين ومختبئين. الشارع أكثر جرأة بكثير. يردد الناس “الشعب يريد إسقاط النظام”، لكن النظام سقط بالفعل مع تكسير التماثيل وتمزيق الصور والحديث عن المادة 8 من الدستور السوري. يمكننا أن نتصور الشكل التمثيلي للنظام في ما بعد، لكن ذلك يعتمد على الصيغة التي سيتصرف وفقها بشار الأسد. هذه مسائل قد تطول ويمكن أن يبقى بشار الأسد على سدة الحكم. لكن كل شيء تغير. النظام ليس هو نفسه قبل ستة أشهر.

مازن معروف

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى