صفحات الثقافة

الروائي يبدأ من جرح السرة الأول ويتوجه منه إلى جروح الآخرين/ أودور (إيزوف) آفا أولافسدوتير

 

 

 

يسعى بطل روايتي «أور»، واسمه يوناس (يونان، يونس)، إلى مداواة تعاسته فيذهب إلى بلد يخرج لتوه من حرب أهلية ويعول على موته قتلاً في أحد الفصول الأخيرة من الحرب، فيدفن مع القتلى، ولا تربك جثته أحداً. وعلى هذا، سئلتُ في بلدي، إيسلندا، عن مصدر خبرتي في الحرب، وأنا لم أزر مسرح حرب أهلية أو غير أهلية. ولكنني بشر وأتألم مع الناس جميعاً. ويزعم بعضهم أن روح الكاتب تتألم على الدوام على رغم أن الكاتب قد يكون في حياته الشخصية سعيداً. وقصدت، في روايتي هذه، تناول الألم والوجه، وشاهدت عدداً كبيراً من الأشرطة الوثائقية. وشخصيات رواياتي، على العموم، يحدوها الإيمان بالطبيعة الإنسانية، على ما هو ظاهر في روايتي «روزا كانديدا». وفي «أور»، ص 74 (من الترجمة الفرنسية) أقرأ: «هل كنت تعلم أن الإنسان هو الحيوان الذي ينفرد بالبكاء؟ – لا، كنت أجهل ذلك. حسبت أنه الحيوان الذي ينفرد بالضحك».

وفي «روزا كانديدا»، تكلمت عن الإحساس الذكري، على الأبوة، وفي «أور»، أتناول موضوعاً أبعد غوراً هو الرجولة، والإقدام على القتل. وحصة النساء في هذه الرواية أكبر وأرجح من حصتها في رواياتي الأخرى. ومعنى «أور» في الإيسلندية «الجرح». وهي رواية جسمانية أو جسدية، تتناول الجسد، أي الجلد والعشق وهشاشة الإنسان. ونحن كلنا نحمل ندوباً وجروحاً، وأول جروحنا هو السرة. والانكفاء على السرة، أي على النفس الضيقة، مفهوم غربي. ويقال أن 6000 كتاب كتبت في «تخليص النفس» (سيلف هيلب). ونحن نبدأ من سرتنا، ونتوجه إلى جراح الآخرين. وجراحنا جزء لا يتجزأ من تجربتنا، وأرى هذا الأمر إيجابياً.

و «أور» موضوعها الشفاء والتعويض واستئناف (الحياة). وتجديد بناء أو إعمال المجتمعات المدمرة هو مهمة النساء وعملهن. ولاحظت أن العدالة، غداة الحرب الأهلية، في حكم المفقودة. ويُنسى ما حصل، ويحاول الناس استئناف سعيهم من الصفر. فكلهم ولغوا في القتل، ولا يُعلم من كان القناص. وفي الكتاب (الرواية)، يظن بعضهم أن القناص كان أحد منشدي الجوق الكنسي (الكورس). ولا تسأل النساء عمن اغتصبوهن، ولا عن عددهم، ولا عمن يكون والد الطفل. وأردت أن أخلط هذا العالم القاتم السواد بشيء من الضوء والأمل. وهذا بعض المفارقات التي لا تنفك من إنسانيتنا. ففي زاوية من أفكاري كلها شاهد من نيتشه، صدرته روايتي «الاستثناء»: «نريد أن نكون شعراء حياتنا وذلك أولاً في أكثر الأمور تواضعاً ويومية». وفي رواية أخرى، «حمرة الرواند القانية»، رغبت في مقابلة إرادة الفهم العقلانية برؤية أخرى أكثر حسية ومدارها على أشياء ضئيلة.

وأنا لا أزعم كتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية في جزءين. وكان في مستطاع شخصياتي الروائية اختيار بلد من 60 بلداً تدور فيها رحى حرب أهلية اليوم. فهل اختار جوناس يوغوسلافيا؟ لا، لا أحد يعرف، فالرواية لا تسمي البلد. إحدى صديقاتي قالت بعد قراءتها مخطوطة الرواية: «إيزوف- هكذا يلفظ اسمي-، ليس في سورية نبات الكمأة» (على ما هي الحال في الرواية). فشرحت لها أن وقائع الرواية ليس مسرحها سورية. وحين ابتدأت كتابة الرواية، في الأول من أيلول (سبتمبر) 2015، كان اللاجئون السوريون مثار مناقشات كثيرة ويومية في إيسلندا. واقترح نصف الإيسلنديين استقبال لاجئ أو أسرة. وهذا من طبائع الإيسلنديين، فهم يريدون إنقاذ العالم كله، على ما قال وزير الداخلية، من غير سخرية.

فتساءلت عن نمط الإيسلندي الذي قد أرسله ليتولى إنقاذ العالم. وأسرع ظني إلى صاحب الحيلة (المحرتق)، وهو مثال الذكورة الإيسلندية، واسمه يوناس، واسمه في التوراة، ومعناه اليمامة. واسمه الآخر هو إيبينيزير، ومعناه الخدوم، من لا يبخل بالمعونة. وقد يكون الإيسلنديون محامين أو أطباء، إلا أنهم كلهم، على هذا القدر أو ذاك أصحاب حيلة، وكلهم في مقدورهم تصليح عطب، ويحملون الأثاث البيتي ويضعونه حيث امرأة واحدهم تقول له أن يضعه. وبطل روايتي صنع هذا على الدوام، وامتثل لما طلبته زوجاته الثلاث، والثلاث سمين باسم واحد: غُيورن.

وحين حل يوناس البلد الذي قصده لم يقل أنه المسيح صاحب الحيلة، ولكنه انكب على مساعدة النساء على إعمار مجتمعهن. وأنا أرى أن من يعلم ما يحصل يتحمل قسطاً من المسؤولية عن حصوله. وليس في وسع إنسان فرد إنقاذ العالم وحده، ولكن يسعنا جميعاً أن نفعل شيئاً. والرواية تتطرق إلى الفساد وإلى الإعمار. وحين يصل البطل إلى البلد الذي يقصده، يسأل عن مسقطه. ولكن لا ذكر في الرواية لإيسلندا. ويسأل عما إذا شارك بلده في القصف الجوي. فيجيب: لا جيش في بلدي. ومتى وقعت آخر حرب؟ أجاب في عام 1238 (م). وهذا عين الحقيقة.

ولا تخلو رواية من رواياتي من علميين. فأنا يسرني اللعب بالأرقام. وأبي كان مهندساً. وقبل نومي، كان يروي لي حكايات أرقام. ووالدة بطل «أور» أستاذة رياضيات سابقة، اختصاصها أرقام النزاعات. وجرت العادة على أن يهتم الرجال بالأرقام، فعكست الآية والأدوار. وبنت البطل، على مثال ابنتي، تولي البيئة اهتمامها، واختصت في المحيط الذي يمتلئ بالبلاستيك، ويؤثر البلاستيك في خصوبة الرجال. وعشية الأول من أيلول 2015، تعثرت وكسرت كتفي اليمنى. وأنا أكتب بيميني. فطبعت الصيغة الأولى من روايتي بثلاث أصابع من يدي اليسرى على حاسوبي، وتألمت طوال عشرة أشهر وأنا أكتب كتابي هذا. ثم سحبت النص لأقرأه. وقد يكون تحول الكاتب قارئاً المرحلة الحاسمة في مهنة الكاتب، شرط أن يصْلي القارئ الكاتب، شطره الآخر، التحفظ الشديد. وتفاجأت بأنه ليس الكتاب الذي كنت أردت كتابته. وأدركت أن على الكاتب تشذيب مادته الأولى، وحذف زوائدها، حين يفيض موضوع كتابه عليه.

وحذفت فقرات وجملاً كثيرة. فما يحسب له حساب هو ما بين الكلمات، وما بين السطور، حيث يملأ القارئ الفجوات بالمعنى، بمخيلته وتجربته ورؤيته العالم. وأبلغت مترجمي روايات أن «أور» أصعبها على الترجمة لأن عليهم ترجمة السكوت والمحافظة على وجدان الشخصية في ما لا تقوله. وفي متناول الكتابة الحياة، أي مغامرة الكائن الحي وسيرته، لا مناص من المرور بالموت. وأنا أردت الكتابة في النساء فاخترت رجلاً بطل روايتي.

وكتبتُ الرواية متأخرة في السن. فنضوجي كان بطيئاً. وقبل الانصراف إلى الرواية، درست في الجامعة تاريخ الفن في قسم أنا أنشأته. وأحببت التدريس، وطلابي الكثر. وأحسست فجأة بالرغبة في الكتابة. فكتبت كتابي الأول الصغير «حمرة الرواند القانية». ولم أنوِ أول الأمر نشره. فلما قرأته وكأنني لست من كتبه، أدهشني سماع صوتي يختلف عن أصوات الكتّاب الإيسلنديين الآخرين، ليس صوتاً أكثر فرادة وابتكاراً، بل صوت على حدة. فقررت اقتراح نشره على ناشر ففعل. وعلى هذا، فهو أفضل رواياتي. وبعدها، كتبت رواياتي كلها، ما عدا الأخيرة، وأنا أعمل برصيد جامعي كامل. وهذا ما دعاني إلى تحديد وقت. فأنا شئت أن أكون كاتباً محترفاً. ولكنني لا أبالي بالتسمية، فأنا لا أتمسك إلا بحريتي، وفي وسع من شاء أن يسميني متحايلة على الكلمات.

ولم يسبق أن سألت نفسي عن شبه ما أكتب بالأعمال الفنية التي أحبها. وصور كثيرة في «أور» مرت ببالي وأنا أكتب. وبعضها مصدره أعمال فنية، وبعضها الآخر مصدره الحوادث السياسية اليومية، الفظائع… ولم أستوحِ المناظر. فالطبيعة في إيسلندا لا تشبه الطبيعة في بلدان المعمورة الأخرى. فهي متوحشة وخطرة. وإيسلندا بلد بركاني، وتفوق بركانيته بركانية كل البلدان. وتتوقع المراصد الآن حمماً تحت قشرة الجليد، تصاحبها طوفانات هائلة، وهديتنا للمجال الجوي الأوروبي رماد يعرقل الطيران فيه. والطقس في إيسلندا رياح تعصف. وهذه الفوضى المناخية نحتت طباعنا، واستقرت في طبيعتنا. فنحن اعتدنا ما يخالف التوقعات، ولا يهزنا انفجار البراكين ولا الأزمات الاقتصادية. ولكن الأمور اليومية قد تحملنا على الجنون.

والصور ليست هذا. وهي ليست الطبيعة الميتة (المصورة). وقد تشبه صور الرواية أعمال فنان مثل بايكون. ولا أدري إذا كان الفنانون الذين أحبهم يدخلون في رواياتي. وأنا أبدأ غالباً من صورة تبرزها الحوادث والوقائع الجارية، ولا تلبث أن تختفي تحت طبقات النص، ووحده الكاتب يعرف أنها حيث هي، وكتابتي مصورة على معنى أنني لا أصف المشاعر والعواطف، فتسري المعاني على نحو موضوعي في الإطار القريب. وقد تقوم عاصفة ثلجية مقام انفعالات عاطفية. وفي إيسلندا يرمز الغراب إلى الكاتب، فهو اللص وهو اللامع. وعندكم في فرنسا، القبرة هي رمز الكاتب، وأرى نفسي غراباً: أراكم الأفكار في كل الأوقات، وفي وسعي الكتابة حيثما كان، وفي أي وقت، الآن وهنا. وأزاول الكتابة على الدوام، أي أنني أجعل مما أجد شيئاً آخر.

والكاتب هو من يتولى نظم الفوضى وترتيبها على هيئة وصورة. والواقع هو آفاق لا تحصى ولا تنتهي. وثمة آفاق على عدد الأفراد. فلا واقع مقرراً، بهذه الحال. وعندما احتل الروس والحلفاء برلين اغتصبت 200 ألف امرأة ألمانية، ولكن هذا ليس جزءاً من التاريخ الذي لا يكتبه الخاسرون. والكاتب لا ينفك يحمل الأشياء التي لا معنى لها بالضرورة على معنى.

* روائية إيسلندية، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 2-3/12/2017، إعداد منال نحاس.

الحياة

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى