صفحات العالم

الرواية السورية غير مقنعة بتاتاً وتُسخّف عقول المشاهدين

 


داود كتَاب

تنفذ القيادة السورية ما يبدو من وجهة نظرها أنها منظومة متكاملة للتعامل مع الرأي العام العربي والدولي، ولكنها ستفاجأ لو حاولت فعلا معرفة رد فعل الجمهور العام لاستراتجيتها. وتقوم استراتجية سوريا الرسمية على عدة عناصر، أولها وأهمها منع أي شكل من أشكال الحضور الإعلامي العربي والدولي في أي منطقة داخل حدود الجمهورية العربية السورية، وبذلك يتم منع الكاميرات وشهود العيان الإعلاميين من مشاهدة مباشرة لما يحدث، ومع إبعاد كامل ومحكم للإعلام والإعلاميين تقوم الخطة السورية على حكاية رواية متكاملة لما يحدث من مؤامرة ضد سوريا العرب، ويقوم بتفسير هذه الرواية والدفاع عنها مجموعة من الأشخاص غير الرسميين ممن يعتمد عليهم النظام للدفاع وبشراسة عن الرواية المعتمدة في ذلك اليوم مهما كانت غير منطقية. واستكمالا للروايات المتجددة يوميا يتم توفير مجموعة من العوامل الإضافية بين الحين والآخر، مثل صور فيديو لسلاح وأموال وذخيرة (يقال إنه تم اكتشافها مهربة من هذا القطر أو ذاك)، كما ويتم أيضا عرض أشخاص يقدمون اعترافات منمقة وغنية بالمعلومات المثيرة حول مؤامرة كبيرة وذلك عبر التلفزيون السوري الرسمي. وتتضمن هذه المنظومة الرسمية السورية مجموعة عناصر إضافية، مثل السماح للمدافعين عنها بإبداء نوع من التعاطف مع بعض مطالب المتظاهرين، كما ويتم الإعلان من خلالهم عن اقتراب إجراء هذا الإصلاح أو ذلك ودائما “خلال أيام محدودة” وأن “سيادة الرئيس سيقوم بهذا القرار أو ذاك”. قد يعتقد المسؤولون في سوريا أن خطتهم ناجحة وناجعة في التعامل مع الرأي العام وفي الدفاع عن الموقف السوري الرسمي ومن خلال أشخاص يبدو للوهلة الأولى أنهم “محايدون”، في حين أن الحقيقة مختلفة كثيرا عن ذلك. فالأحداث على الأرض بما في ذلك المظاهرات السلمية والرد العنيف جدا ضدها والصور المهربة لتلك الأحداث من خلال النشطاء هي وحدها التي شكلت الرواية المقنعة عربيا وعالميا. فلا يوجد أحد يذكر في العالم العربي أو كافة أقطار العالم يقتنع ولو بنسبة 5% من الرواية الرسمية المبنية على أقوال مناصرين للحكومة، في حين أن الصورة – كما يقول المثل – أهم من ألف كلمة. أما المتحدثون دفاعا عن الحكومة السورية فحدث ولا حرج، فقد غاب عن شاشات التلفزة العربية أي من المسؤولين أو حتى الخبراء المعروفين، وذلك في محاولة فاشلة من الجانب الرسمي بزج أسماء جديدة وكأنها مستقلة، في حين أن المستمع يعرف معرفة اليقين من أول جملة يقولها هؤلاء المتحدثون أنهم من أعوان النظام. وهنا يفرض علينا السؤال التالي: أليس الأفضل أن يخرج علينا مسؤول رسمي معروف بأنه يمثل النظام بدلا من محاولة رخيصة لزج شخص ما وكأننا نسمع رأي خبير محايد؟ والمضحك المبكي أن هؤلاء “الخبراء المحايدين” لا يحاولون ولو بصورة تمثيلية التعامل مع الإعلام بذكاء أو بأدنى درجات المنطق، فمعظمهم إن لم أقل كلهم يستسخفون بعقول المشاهدين ويحاولون تمرير الأكاذيب، في محاولة كما يقول المثل الشعبي (قتل القتيل ومشي في جنازتو). أما الحجج الواهية التي يتم حياكتها كل يوم فمن الصعب قبولها أو الاقتناع بها في الوقت التي يتم قولها على خلفية صور فيديوهية مهربة من أماكن التظاهر والتي تعبر بوضوح ومصداقية عن أمر مختلف تماما عما يقوله المدافعون عن النظام. وكذلك لم تمر روايات الاعترافات على أحد خاصة أن خارج سوريا (وربما داخلها) لا يشاهد أحد تلفزيون سوريا الذي لا يعرف أن هناك ثورة شعبية يستشهد فيها يوميا العشرات. والغريب أن في أوقات حرب أو نزاع عالمي هام تسمح الدول المتضررة بدخول الإعلام وتراقبهم وتقدم لهم الوجبات الإعلامية حسب رغبتها، فقد شاهدنا ذلك في العراق واليمن ومصر وتونس ونشاهده اليوم في ليبيا، وفي تلك الأحيان يحاول الطرف المستضيف التأثير على الإعلاميين بدلا من مقاطعتهم كليا ليقولوا ما يشاءون. أما الآن فلن يتم إعادة بث شهادات ما يسمى بالاعترافات لأن الإعلاميين العرب والأجانب لم يكن لهم مجال للتأكد من حياديتها وعدم وجود أي ضغوطات أخذت بسببها. تعاني سوريا الرسمية من وضع صعب, فليس من السهولة الرد الحكومي على ثورة شعبية تطالب بإسقاط النظام، إلا أن شروط اللعبة السياسية والإعلامية في القرن الحادي والعشربن ليست ذاتها كما كانت قبل عشرات السنين، فقيادات الحكم في سوريا ومعها الإعلام السوري الرسمي لم تنجح في خلق أية رواية مقنعة لما يحدث، فقد فشلت فشلا ذريعا في تغيير مسار الرواية الشعبية المنغمسة بدماء المواطنين وبشجاعة صحافة المواطن، التي أثبتت قدرتها على تثبيت روايتهم حول حقيقة ما يجري في سوريا. قد يكون من الخطأ ادعاء أي أحد بأنه يعرف فعلا حقيقة ما يجري في سوريا اليوم، فقد يكون مثلا عدد القتلى من المدنين أقل من الرقم المتداول، ولكن في غياب دليل قاطع عكس ذالك أو دراسة لخبير أو إعلامي محايد فإن أرقام المعارضة المهربة هي التي تصبح الرواية المقنعة والمتداولة. ففي غياب إعلام عربي ودولي مستقل وعلى الأرض السورية، فإن رواية المحتجين من كل زواياها (سلمية المظاهرات، غياب أي سلاح، مسؤولية الأمن في القتل من أفراده الرافضين لقتل أبناء جلدتهم من الخلف، وغيرها) هي الرواية التي تصبح مثبتة في أذهان الجميع. ومما يضعف الرواية الرسمية أيضا غياب مواقف مؤيدة للموقف الرسمي السوري، فلم يبق صديق لسوريا رسميا كان أو شعبيا إلا ونصحها بالخروج من هذه الدائرة المغلقة والمبنية على روايات أقل ما يمكن وصفها أنها غير مقنعة بتاتا، فهذا طيب أردوغان زعيم تركيا وصديق سوريا يقدم النصائح بوقف التعرض العنيف للمتظاهرين، وذاك المفكر العربي عزمي بشارة ينتقد شبه المثقفين السوريين المدافعين عن الأخطاء القاتلة لقيادة متمسكة بأسلوب القمع والكذب، وحتى فضائية الجزيرة والتي كانت المدافع الكبير عن سوريا لم تستطع تقبل تلك الروايات وأصبحت من أشد المنتقدين. نأمل أن يتم معالجة الوضع الحالي جذريا ابتداء من فتح سوريا للإعلام المحلي والعربي والدولي الحر ووقف مهزلة المدافعين الجدد عن النظام، فالمعادلة الأصح هي أن يقوم النظام بالدفاع عن أعماله بصدق وصراحة وبروح المكاشفة وبأسلوب يحترم المواطن السوري أولا ويحترم عقل المواطن العربي والأجنبي ثانيا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى