روزا ياسين حسنصفحات الثقافة

الرواية وسطوة الواقع

 

روزا ياسين حسن

كنت سأكتب هذا الأسبوع عن جبهة النصرة في سوريا، فالمواقع الإخبارية والجرائد والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي كلها متخمة بأخبارها وبالتطورات الجديدة التي دخلت على مسيرتها، وتلك الهزة الخطيرة التي عرّضت الثورة السورية لها حين بايعت زعيم القاعدة “الظواهري”.

 لكن الأمر بدا لي أشبه بنفق، لا يكاد السوريون يستبشرون بنهايته حتى يستطيل، لذلك قررت في اللحظة الأخيرة أن أكتب عن شيء أكثر إنسانية وديمومة، أكثر عمقاً ورسوخاً، يخدم بلدي وأرواح أهلها التي تسفح كل يوم، وهو الكتابة! ربما هي رسالة تفيد بأن كل الحروب التي مافتئت تشتعل ستتلاشى يوماً، ووحدها الكلمات ستبقى.

فصلٌ استثنائي حقيقة من تاريخ سوريا ذاك الذي يُكتب الآن، محمّل بالأساطير كما هو محمّل بالموت، بالتضحيات والبطولات جنباً إلى جنب مع الأخطاء والتجاوزات! تفاصيلٌ مكوّنةٌ مبعثرة، مشفوعةٌ بفيض من مشاعر مختلطة. لكننا مازلنا منفعلين بهزّة كبرى لم يستيقظ الكثيرون منها بعد، تجعل من الصعب تحديد عملنا الروائي اليوم! فالرواية تحتاج إلى كمون زماني للنضج، غير محدد لكنه مطلوب كفسحة للخروج من خضمّ المعاش، لرؤية الأشياء بشكل أوضح وأكثر حيادية. ذلك أن ثمة تفارقاً بين العين الروائية والعين الذاتية في النظر إلى كل ما يحدث! في الحياة المعاشة تحرّكنا إيديولوجياتنا وعواطفنا واصطفافاتنا السياسية، والحسّية اليومية التي نعيشها، رائحة الحرائق وصوت الرصاص والقذائف، دمعة أم ثكلى أمام جثة ابنها، وذلك الألم المبرح الذي يستيقظ حين يغادرنا صديق أو يُعتقل… أما العين الروائية فتجبرنا على الاهتمام بتفاصيل الجميع، أياً كانت انتماءاتهم وإيديولوجياتهم واصطفافاتهم، ذلك أن الواقع شيء وروايته شيء آخر.

الرواية كتابةٌ اصطفائية، تغربل الواقع وتفاصيله، تنتقي من هنا وترمي هناك. هاجسها الغوص في دواخل النفس البشرية، فالكتابة الروائية عن الهامش في الثورة، مثلاً، لا تقل أهمية عن الكتابة عن المتن، وما الذي يحدث حين تنتهي نشرات الأخبار، ويتوقف تصوير اليوتيوبات!. الروائي مطالب بالجلوس في قلوب الجميع. حينها ستحرّكنا رائحة الحرائق وصوت الرصاص بالتأكيد، لكن ثمة ما هو أبعد للحديث عنه، يختصّ بالجانب الآخر للحدث. دمعة الأم الثكلى ستكون في الرواية دمعتين، الثانية لأم أخرى أتى ابنها ميتاً ولكنه كان وراء البندقية يقتل. الرواية فن ديمقراطي يتغلغل في دواخل الجلاد كما الضحية، فالأمر لا يتعلق فقط بوصف شاب شجاع جابه الرصاص، الرواية يحفزّها شيء آخر يشبه الخوف أو الالتصاق بالموت. ربما نحن إذ نكتب الموت فهي رغبتنا الخفية في الاتصال بعالم غامض اسمه عالم الموت، أو رغبة بإحياء ما مات، أو منع أشياء أو أشخاص من الموت. أنا لا أقصد الموت المادي فحسب بل كل أنواع الموت وأولها النسيان. الكتابة سحر ضدّ النسيان.

الروائي بما أنه يعيش ليروي سيكون من الصعب عليه أن يكفّ عن الكتابة في مثل هذه الظروف. وبما أن الرواية في النهاية عمل فني، يخلقه تكنيك الرواية وشكله كما يخلقه المعنى، فهو يغزل في زمن آخر خارج الزمن الحقيقي، خارج المكشوف لأنه كشف للمستور، خارج السائد لأنه نقد للسائد. هذا لا يعني بالتأكيد أن تتعرى الرواية كعمل فني من كل المحددات الإيديولوجية ومن كل الانتماءات والأفكار، على العكس، بل تعني تفكيك بنى الحياة بدون أحكام قيمة مباشرة، ثم لندع المجال للقارئ كي يحكم على كل شيء بنفسه. في النهاية نحن من سيكتب الرواية، وسيكون ثمة مكان بعيد محمّل، شئنا أم أبينا، بقناعاتنا ومعتقداتنا.

معظم ما كُتب حتى الآن، ومن ضمنه ما كتبته بنفسي أثناء الثورة، بعيد، نوعاً ما، عن ماهية العمل الروائي. فقد كان علينا أن نوظّف قلمنا في خدمة ما نقتنع به، واجبنا تجاه قناعاتنا وشعبنا، كما يستخدم الثوار الكاميرا أو البندقية. وظيفتي كانت نقل ما أراه بإحساسي، حفظه من النسيان، الانتصار لمن أظنهم مضطهدين، وإيصال صوت من لا صوت لهم. إن صحّ التعبير ممارسة الثورة بالكتابة. لكن في الرواية ثمة أشياء أخرى لقولها.

لكن حالة القطيعة التي تقع في زمن الثورات بين الأجيال تختلف في زمن الرواية. الماضي هنا يعود دائماً كشبح هائم، فهو الذي يكوّن لاوعينا وذاكرتنا. صناعة الثقافة عملية تراكمية تتبدى بأشكال مختلفة وتصل إلى مآلات مختلفة، لكنها نتاج موضوعي لتراكم ما سبق، مفعم بالنقد والتغيير. ولئن بدأت الثورات بتكسير التابو السياسي فهي لحظة حرية بدأت، وما على التابوهات الأخرى إلا الانتظار. سيقول قائل بأن التابو الديني يتم تكريسه اليوم، وسأقول بأن تكريسه مرتبط بالعنف والخذلان وشعور العجز أمام آلة قمع عملاقة، تجعل من أجيال الثوار الجديدة تتجه اتجاهات راديكالية لجهة الدين. لكن عندي إيمان بأن تلك الراديكاليات ستبدأ بالخفوت حال انتفاء المسبب. والرواية تعمل هنا خارج المطلق والمكرّس والمفروض على عقول البشر، تحاول تفكيك هذه الآليات، وفهم كيف يسعى الشباب اليوم إقصاء الأكبر سناً، وتوجيه الاتهامات لهم، فهذه راديكاليات الثورات، وقد ظُلم فيها الكثير من المناضلين السابقين الذين قضوا أعمارهم في دفع ثمن نضالاتهم. لكن الزمن سيمضي، الزمن الواقعي سيمضي، وسيكتشف أولئك الشباب، وأولهم الأجيال الروائية الجديدة، بأنهم ليسوا إلا حلقة في سلسلة من الأجيال الإبداعية المتعاقبة على سوريا. لكل قطعة في هذه السلسلة دورها وتأثيرها على التي بعدها، ولن تكتمل السلسلة بنقصان أية قطعة منها.

غواية الحرية التي ابتلت سوريا ستجعل من انفصال ما يحدث من ثورة شعبية عن الثورة الثقافية أمر صعب. إنها مرجل يبدّل البلد بأسره، بل المنطقة بأسرها، لا يبدو فيها أحد في مأمن من رياح التبدّل أياً كانت انتماءاتهم واصطفافاتهم السياسية. الثورة الطلابية في أوروبا 1968 أثرت على الجميع، وثورات التحرر في أميركا اللاتينية، التي أشعلتها أجيال نشأت على الديكتاتوريات المتعاقبة، غيّرت عمق المجتمعات. أحياناً تكون فترات القمع الطويلة محفّزاً أساسياً لكسر الأطواق المكبّلة للعقل. لو تأملنا قليلاً في الماضي سنجد أن مدارس إبداعية كاملة انبثقت من رحم الثورات، أو من رحم (الهزّات الكبرى) في التاريخ، ولا أعتقد بأن البلدان العربية بمنأى عن ذلك.

ثمة شيء عميق وجوهري يخصّ كنه الكتابة وبنية اللغة ورؤيتنا إلى الإبداع سيتبدل، وليست المواضيع فحسب فذلك تغيير سطحي، والرواية في أول الركب. وما سيحدث مستقبلاً من تغيير لخارطة المشهد الإبداعي العربي ما هو إلا رهن بأداء المبدعين.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى