صفحات الرأي

عن السياسة والرياسة في الإسلام.. اقتل السلطان تصبح السلطان


خيري الذهبي

منذ حكم القبيلة وشيخها العادل والحنين إليه حتى يومنا هذا، أي حتى هذا الربيع العربي الذي تأخر قروناً عدة والذي يطالب بالانتقال من حكم شيخ القبيلة المطلق الصلاحيات، عادلاً كان أم غير عادل إلى الحاكم العصري المقيد بعقد اجتماعي متفق عليه بين الحاكم والمحكوم، وربما كان التاريخ السياسي الإسلامي هو تاريخ هذا التوق إلى هذا الانتقال الذي كلف العرب والمسلمين دماء الملايين والملايين من التائقين الذين لم يجرؤوا على التصريح بأنهم إنما يريدون عقداً اجتماعياً صريحاً يفصل بين حقوق الحاكم وحقوق المحكوم، ولكنهم لم يجرؤوا على التصريح بذلك فاختفوا وراء الشكوى بأن الحاكم لم يقم بشروط دينه، أو أنه أخلّ بالعقد الموقع بينه وبين السماء، أي بظلم بني البشر.

كانت الخلافة الراشدية التي ماتزال تلقي علينا بظل خلافات شيوخها حتى اليوم، كانت هذه الخلافة شكلاً من أشكال ما قبل الدولة وامتداداً لحكم شيخ القبيلة الرشيد، العادل، الطاهر إلخ، وكان العقد القائم ما بين الحاكم والمحكوم في تلك الفترة هو عقد بين السماء والبشر وعبر ممثل السماء على الأرض، أمير المؤمنين، وربما كان الصراع الدموي والقاسي المبكر بين علي ومعاوية (مع حفظ الألقاب) والذي سبب الانشقاق بين المسلمين منذ ذلك الحين، هو أول تجليات البحث عن شكل أرضي للدولة، وأعني الصراع بين امتداد حكم شيخ القبيلة والذي انتهى بمقتل أو استشهاد شيخ القبيلة دائماً، عمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، والمرشحين الحسن والحسين، وربما لو طال الأمر قليلاً بأبي بكر لانتهى نهاية عمر وعلي، و…. بين مستعير شكل الحكم البيزنطي شكلاً جديداً للدولة الإسلامية، هذا الشكل الذي حاز عداوة السنة والشيعة معاً (لقد قلب الخلافة إلى مُلك عضوض) وكأنه كان من الممكن الحفاظ على شكل حكم شيخ القبيلة! هذا الرجل هو معاوية الذي لم يستطع بناء الدولة كاملة فقد كان مشغولاً بالفتوحات والصراعات مع المتطلعين إلى شكل شيخ القبيلة الذي كانت عليه الدولة الراشدية، ولن يبدأ شكل الدولة السياسية ببيروقراطيتها واختيار حاكمها القادم من دون دمويات وصراعات إلا زمن عبد الملك بن مروان باني الدولة العربية وفاصلها عن البيزنطية دواوين ونقوداً وبيروقراطية إلخ، ولكنه ليس باني العقد الاجتماعي الحلم الذي لن تعرفه الحضارة الإسلامية.

وإذا ما نظرنا إلى المذاهب الإسلامية، أو الأحزاب السياسية التي تغللت بالدين، والتي بدأ جنينها بالتشكل منذ القرن الهجري الأول، وأعني السنة والشيعة والخوارج، رأينا النزعة الأوليغارشية المبكرة، فالسنة أمويون عباسيون أعلنوا أنّ (الإمامة في قريش) وأكثروا وزادوا في البرهنة على صدق هذه النظرية التي أخرجت الأنصار منذ البدايات من السباق على الإمامة، أما الشيعة فقد أعلنوا وأصرّوا على أن الإمامة (في أهل البيت) فضيّقوا ساحة السباق وربما كان الخوارج هم الأقرب إلى الديمقراطية بمفهومها المعاصر حين أعلنوا أن الإمامة حق للأصلح بين المسلمين ولو كان عبداً حبشياً، فأسقطوا شرط الأوليغارشية القرشية.

فيما بعد وبعد انتشار الإسلام بين الأمم الآسيوية وخاصة الطورانيين اكتشفوا أن للطوارنيين أوليغارشية أخرى احتال عليها الطورانيون، حيث ضعفت الأسر ذات الشرف الموازية لقريش عند الإسلام، وقوي متنفذون آخرون، فكان للدول الطورانية رأسان، رأس يملك ولا يحكم، وربما كان قد انحط به الزمان حتى صار من حرفيي السوق، ورأس يحكم ولا يملك، ولكن شرط حكمه هو تنصيب رأس المملكة الشريف له، وهكذا حين وصل السلاجقة ومن قبلهم عسكريو الترك إلى بغداد العباسية ابتكروا تعبير (السلطان) والتي تعني صاحب السلطة المتنفذ القوي وتركوا شرف الملك دون حكم للعباسيين، وبذلك انحرفت كلمة السلطان عن معناها القرآني لن تنفذوا إلا بسلطان ودخلت القاموس السياسي الجديد كمفهوم للحاكم المتسلطن بشرعية السيف والذي سيلتزم به كل أقوياء الدولة الإسلامية الذين لم يتجرأوا على ادعاء الخلافة. أو إمرة المؤمنين كما فعل الفاطميون، أو أمويو الأندلس.

السياسة واللغة

واللافت للنظر أن اللغة العربــية ليس فيها كلمة واحدة بوليتيكية أو سياسيــة عن علاقة الحاكم بالمحكوم، أو علاقة المحــكوم بالمحكوم، فالكلمة الوحيدة التي تتحدث عن علاقة الحاكم بالمحكوم هي كلمة الدين وهي كلمة ذات مدلول ومرجعية ميتافيزيقية، فالقـــانون كلمة إغريقية استعارتها العربية من الحـــضارة المدينية أو الدولتية السابقة البيزنطـــية، وكانت الحضارة العباسية تستخدمها لا لمدلــول سياسي، بل لمدلول علمي، كقوانين الكيـــمياء أو الفلك وقد رجعت بها الحضارة العربيــة المعاصرة إلى مدلولها السياسي، والناموس كلمة إغريقية أيضاً، أما كلمــة الدســتور، فهي كلمة فارسية استعارتها العثــمانية من الــفارسية، ثم ورثتها العربــية فيما ورثــت عن العثــمانية.

لم تعرف الحضارة الإسلامية عموماً قوانين كقوانين جوستينيان الإمبراطور في القسطنطينية، والتي أصدرها تحت اسم القوانين المدنية corpus juyis civilis في القرن السادس الميلادي والتي جمعت كثــيراً من الحقوق والقوانين في العالم المتوســطي، ولكنــها كانت قفزة قانونية كبرى حتـــى القرن الثالث عشر حين أصدر جنكيــز خان القوانين التي سماها السِه ياسِه والتي تعني الشرائع الثلاث والتي حكمت الثقافات الطورانية على اختلاف تجلياتها حتى أواخر القرن التاسع عشر، هذه الكلمة – المصطلح السِه ياسِه عرفت في العربية تحت اسم السياسة فهي مساوقة لغوياً لكلمة السياسة المشتقة من ساس يسوس أو روّض الحصان العاصي، فمهمة الحاكم ترويض المحكومين واحتلاب أموالهم جباية فقط، وهي تختلف جذرياً عن السِه ياسِه التي تنص على طريقة خلافة الحاكم التالي للسابق وكيف، ومتى ينعقد المجلس الذي سيختار الحاكم الجديد وما الشروط الواجبة أن تكون له إلخ…

الغريب أن القرن الذي أنتج السِه ياسِه أنتج في بلد بعيد هو إنكلترا الماغنا كارتا أو الميثاق العظيم الذي أصدره الملك جون بعد ثورة كبرى من الرجال الأحرار في إنكلترا، وهي هذا الميثاق العظيم حددت صلاحيات وامتيازات الملك، وصلاحيات وامتيازات النبلاء وامتيازات الكهنة وصلاحياتهم وامتيازات الرجال الأحرار وصلاحياتهم وكان صدور الماغنا كارتا عام 1215 مقارباً لزمن صدور السِه ياسِه المغولية.

أما في شرقنا العربي الإسلامي وبعد معركة عين جالوت وانتصار المماليك على المغول عام 1260 بقيادة السلطان المملوكي قطز، ثم اغتياله على يد المملوك القفجاقي بيبرس وإسراعه إلى الخيمة التي يجتمع فيها المماليك ثم إعلانه أمامهم أو أمام المملوك الكبير سناً سيف الدين بلبان: لقد قتلت السلطان!!

وكأن مجلس المماليك الكبار كانوا قد عرفوا بقتل قطز قبل إعلان بيبرس ذلك، لأن المملوك بلبان سيسأل وكأنما ليتوثق من الجواب: من قتل السلطان أيها الأمير؟ فيكرر بيبرس: أنا قتلت السلطان، وعندئذ يشير بلبان إلى العرش: تفضل يا خوند (أي يا صــاحب الجلالة) فالعرش لك، وكانت لغة البلاط المملــوكي تركية عموماً.

منذ تثبيت هذه السابقة دخلت شــريعة جديدة إلى علم السياسة والرياسة في عالم المماليك، وربما كان هذا العرف من الأعــراف والمــواريث الطورانية: اقتل السلــطان فتصبــح السلطان.

الغريب أن يصدر في القرن الثالث عشر الميلادي في إنكلترا شبه البربرية الماغنا كارتا، ويصدر في آسيا المغولية السِه ياسِه، وأن يصدر في سرة العالم المتحضر أي الإسلامي هذا العرف البربري الذي أقره المماليك: اقتل السلطان فتصبح السلطان! وظل هذا العرف قائماً حتى يقتل سليم العثماني قانصوه الغوري فيصبح سلطان الشرق.

ولكن حين نقارن بين البوليتيكا اليونانية والمشتقة من كلمة بوليس اليونانية والتي تعني المدينة، فالبوليتيكا هي فن إدارة المدينة الدولة، وبين السياسة التي تعني ترويض الخيل العاصية ندرك الفرق، وندرك الحاجة الماسة إلى البوليتيكا وحقوق الإنسان لا إلى ترويض الحصان العاصي.

(كاتب سوري)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى