صفحات سورية

السجن الذي ابتلع ابي و كيس بوشاري


آية الأتاسي

حول السجن و على حيطانه و في داخل زنزانيه ولدت حكايتي ..أنا ابنة السجن و ابنة أبي الذي اعتقل فيه بعد ولادتي بأشهر معدودة, و كأنني أتيت  الحياة متأخرة قليلا على موعد اللقاء به ! أبي كان الصورة المعلقة في غرفة الجلوس, كنت أسمع عنه و لا أراه إلا في الصورة اليتيمة له في بيتنا. اعتقدت أن الأب هو الصورة و الصورة أب,  كانت أمي تشير إلى الصورة دوماً عندما أسألها عن والدي. و بإدراك الطفلة التي كنتها اكتفيت بالأبوة المركونة بحنانها و قسوتها على جدار. إلا أن جاء موعد الزيارة الاولى في السجن و رأيت أبي يخرج من إطار اللوحة ليصبح من لحم ودم.سألتني أمي :”أين بابا؟” فنظرت إلى الحائط المليء بصور كثيرة لشخص واحد لا يشبه ابي, و الذي سأدرك بعد سنين انه سجانه, و لم أجد الجواب! مع الأيام بدأت صورة الأب السجين تحتل صورة الأب المعلق في إطار, بدات أكبر و يكبر حضور السجن في حياتي و يزداد الحاح الأسئلة على عقلي الصغير

علمونا في المدرسة أن السجن هو للمجرمين و القتلة و السارقين و لكن ابي لم يكن أي منهم! كنت أسأل امي عنه فتجيبني أنه  معتقل سياسي. لم يكن عقلي ليستوعب هذه الكلمات و لم استطع ان اشرح لأصدقائي الصغار غيابه, فكنت أكتفي بغصة القول انه مسافر لمكان بعيد جداً! المكان البعيد كان على قمة جبل قاسيون الغير بعيد عن بيتنا, يزوره قلبي مرات كثيرة في اليوم و أزوره مرتين في الشهر.  أول مرة أدرك فيها قسوة المكان البعيد, كانت عندما دخلته بسنيني الخمسة و بيدي كيس البوشار,ألتقط كل حبة منه بتلذذ ومتعة. يومها وقعت أنا و بوشاري في دائرة التصويب للسجان, و كما لوكنت أهرب مواد محرمة,انقضى باصابعه المتورمة على  الكيس ورمى حبات البوشار على الأرض و دعسها بأقدامه,  بكيت يومها على حبات البوشار بحرقة و كرهت السجن الذي ابتلع أبي, كما ابتلع بوشاري. و بقي طعم الأب برأسي  دائماًمالحاً كالبوشار وكملوحة دموعي الصغيرة.

 و مرت الأيام و كبرت في غفلة من الزمن  و لكن ليس بعيداً عن السجن وعوالمه, و صار للحياة تقويم خاص و للساعات عقارب تدور على وقع الزيارة الشهرية وتوقيتها.أحس باقتراب الزيارة من التوتر الذي يخيم على البيت ومن روائح الأطعمة المبهرة بأشواقنا و حنيننا. صرير الأقفال يوم الزيارة, تفتح الأبواب الحديدية على الجحيم المخبئ في الأقبية السفلية, ما زال يرن في أذني حتى اليوم. كنت أسترق النظر دائماً إلى العوالم المخبئة والجوفية  و أحاول الإصغاء إلى الصرخات المكتومة,  لكن السجن بقي عصي على الولوج والإقتحام و لم يرشح منه سوى رائحة عفونة وباحة صغيرة رمادية تكشف على الزوار لتخفي  طوابق مليئة بالعذاب والتعذيب والويلات.

وحدها وجوه السجناء من وراءالشباك , كانت تفشي أسرار المكان. لطالما تباطئت خطواتي و أنا أعبروجوههم الكاحلة, و لطالما اشتبكت نظراتنا و حملتني سلامات و أشواق للشارع و الحب و النافذة.  وما زالت هذه الوجوه المجهولة الهوية تزورني سراً حتى الأن و تتقاطع مع كوابيسي و أحلامي. في هذا المكان و اللا مكان و لمدة لا تتجاوز الساعة كان  موعدي الوحيد  مع أبي, أبي الذي تعلمت على تقاسمه مع الزوار الأخرين و عنصر الامن و أجهزة الرصد و الإستخبار, أب مشاع  بلا أسرارأو أحاديث حميمية .  كنت أجاهد لأحفر كوة في الحيطان العالية لأهرب من نظرات السجان  و أغلاله و أعبر إلى ضفة والدي و ألامسه. كانت مهمة مستحيلة أعود منها خائبه دائماً, فالسجن ليس مكان للحب و الإكتشاف و الأبوة, إنه مكان الموت و العجز و الإختناق. بعد الزيارة تتكرر الأسئلة من الأقرباء عن الحال و الصحة والأخبار و دائماً الأجوبة جاهزةو معدة مسبقاً و لا تحتمل الشرح و الإسهاب:”أبي بخير و يسلم” و ابتسامة شاحبه تحجب منولوجي الداخلي ,الذي  يرجوهم أن لا يسألوني اكثر و يدعوني  ألملم ذاتي وأعيد تأهيلها  لأقوى  على الحياة من جديد. كنت أحاول دائماً أن أعيش حياة كالأخرين ولكن  نظرات الشفقة في العيون كانت تشعرني دائماً أنني مختلفة و أني في حالة معلقة بين اليتم و الوجود.  و ما زلت اذكر نظرات الدهشة على وجوه أصدقائي, عندما كنا يوماً معاً في رحلة , وأنا أحاول  كأي واحد منهم أن أشتري ايضاً هدية لأبي. كانهم افتكروا لحظتها فقط أن أبي الغائب حاضر في قشور ذاكرتي و أنني ابنة و إن كان مع وقف التنفيذ!!

وهكذا تستمر الحياةبي  و بدون أبي لكن بأمل وحيد أن يعود يوماً, لأقف وأنتظره على باب البيت ملوحة له, كي لا يتوه عن البيت القديم و الإبنة الصغيرة, اللذين غيرهما الزمان. إنه  اليوم الذي سأختلي به و سيكون لي  لوحدي , سأعاتبه على السياسة و الحنان المؤجل و سأتركه يوبخني كما يفعل الأباء أوربما سأطلب منه أن  يدعني أتمرجح على حضنه كطفله صغيرة و ألامس بأصابعي تقاطيعه و طباعه التي  تشبهني بحكم منبع نهر الدم و جريانه و تعرجاته النفسية…  و بعد 22 سنة يعود… و لكن لا شيء يشبه اللقاء الذي كان في البال,  يعود أبي بعد طول غياب جثة في صندوق خشبي و في رحله أخيرة من الزنزانة للسماء. وسيرحل عن حياتي إلى الأبد معنى الأب من دون أن أعرفه و ستد فن أحزاني دون تشييع مع صندوقه في التراب ولن أقوى على شدة الألم فأؤجل الألم و أرتق الأحزان ليتسع قلبي  للحياة, و أترك صفحة إهداء لأبي في يومياتي فارغة لا تملأها من بعد عشرات السنين  !!!و لا يبقى من الحكاية غير ذاكرة تنزف من حين لأخرعفونة سجن ووجع أسئلة وجوع دائم للبوشار .

 حكايتي لها حكايات كثيرة تشبهها بل تفوقها قسوة و بشاعة … أطفال كثيرون كبروا و لم يعرفوا أن يكبروا, سجنوا في زنازين أبائهم و لم يستطيعوا أن يكسروا أبوابها و يخرجوا أحرار.اليوم ومع سورية تولد من جديد نحس نحن أطفال السجون أن أرواحنا المنهكة ترتاح و الأب التائه منا قد عاد , وأننا أصبحنا قادرين على  البكاء بصوت عالي و تقبيل رفاته قبلة الوداع. و ربما سنصبح قادرين يوماً على زيارة زنزانته  كما نزور قبره , نحمل الزهور و نقرأ الفاتحة على العمرالمدفون هناك و نروي له بكل حيادية و تجرد أن صارللحكاية تكملة و أن الربيع و إن تأخر فهو لا يخلف الميعاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى