أيمن الشوفيصفحات الناس

السرقة وتعميمها خلال الحرب السوريّة/ أيمن الشوفي

 

 

استحوذت الحرب على مقدّمات صالحة لتبرير صنوف من السلوك النفعي، وإعادة صياغتها بعيداً عن رقابة الضمائر الشخصيّة، بحيث نمت السرقة كمعطى سوّقته الحرب فوق النصّ القانوني لمعاقبته، وفوق العرف الاجتماعي لنبذه. السلطة أيضاً جعلت المشهد زَلِقاً إلى هذا الحد، بعدما صارت هي نفسها إحدى استطالات الحرب، وأحد مكوناتها الأكثر تأثيراً.

شبكات تستولي على أملاك الناس

تحمي السلطة نفسها حين تسرق المال العام لأنها بنية فوق بنية القانون، لكنها تلاحق السرقات الفرديّة وتَسوق مرتكبيها إلى السجون. وخلال سنوات الحرب نمت أرقام السرقة في سوريا، وبعض أنماط السرقات انتظمت ضمن شبكاتٍ يصعب تفكيك مكوناتها أو إبطال عملها، ويظل الناس يتساءلون عن علاقة السلطة بها. فبعض السرقات تأخذ طابعاً “شبحيّاً” في مناطق سيطرة النظام، فلا يدري أحدهم كيف فقد سياراته من أمام باب بيته ذات صباح. وتشير أرقام وزارة الداخلية إلى الإبلاغ عن أكثر من 12 ألف سيارة مسروقة بين شهري آذار / مارس، وأيلول / سبتمبر من العام 2011. وفي عام 2013 تم تسجيل سرقة نحو 3 آلاف سيارة عمومية. ويصعب هنا قبول هذه الأرقام على أنها سرقات فرديّة بدافع درء الحاجة، والأرجح أنها عمل جماعيّ منظّم تجري إدارته بعناية، وليس منسوباً

إلى الأماكن التي خرجت عن سيطرة النظام وحسب، بل إنّه تجذّر أكثر داخل مناطق سيطرتها. والسيارات المسروقة يتمّ نقلها وبيعها في أماكن أخرى، أو يجري تفكيكها وبيع مكوناتها كقطع غيار، بعد ندرة القطع الجديدة جرّاء العقوبات الاقتصادية وبسبب ارتفاع أسعارها أيضاً.

المناطق تتبادل المسروقات لبيعها والكلّ ينفتح على فضائل “المنفعة” وإن كانت مع العدوّ عسكريّاً. وفي أحيانٍ أخرى، يسلب الحلفاء ممتلكات بعضهم البعض حين تتغيّر المعطيات على الأرض

ومثلما تنتقي منهجيّة السرقة ماركات السيارات الأكثر طلباً في سوقَي الشراء وقطع الغيار، كذلك تفعل مع الهواتف المحمولة. هذه لعبة السوق أيضاً، والهواتف الحديثة هي الطرائد المطلوبة، بحيث وصل عدد الدعاوى القضائية المرتبطة بسرقات الهواتف المحمولة خلال عام 2013 إلى نحو 10 آلاف دعوى. أغلب الهواتف الحديثة المسروقة تنتقل من مناطق سيطرة النظام لتباع في مناطق سيطرة المعارضة، حيث يصير من غير المجدي تتبّعها، وهذا حال معظم السيّارات المسروقة حين تعبر بواسطة شبكات الفساد المنظّمة إلى أسواق تصريفها في المناطق البعيدة عن سيطرة السلطة. وهذه تتقاسمها حمص ودرعا بصورةٍ أساسية. لكن طرفَي هذه المعادلة يتبدّلان بحسب موطن الغنائم المسروقة لتصير مناطق سيطرة النظام أسواقاً لتصريف الأثاث المنهوب من المناطق التي تنتقل السيطرة عليها من قوات المعارضة إلى قوات النظام. جدليّة ترتّبها حتميات السوق ومنطقه، ولا تعترف بحدودٍ فاصلة. فالكلّ ينفتح على فضائل المنفعة وإن كانت مع العدو عسكريّاً. وفي أحيانٍ أخرى، يسلب الحلفاء ممتلكات بعضهم البعض حين تتغيّر المعطيات على الأرض. نرصد مثل هذا المعطى عندما صادر “لواء التمكين” التابع لحركة “أحرار الشام” في ريف إدلب خلال شهر تشرين الأول / أكتوبر من العام الحالي العديد من القطع الأثرية التي كانت بحوزة حركة “جند الأقصى” إثر معركة لتصفية حليف الأمس، والسيطرة على مقارّه.

سرقة الأجساد، والسرقة لأجل اللقمة

ما يفيض عن الحرب من عقمٍ ومن فوضى يصير قادراً على تسويق نفسه كفرضية تُبْطل المفاهيم الأخلاقية داخل منظومة المجتمع القيميّة. الكثيرون يريدون تجنب العوز، حتى ولو بسرقة الأعضاء البشرية من أجسادٍ لا تزال حيّة، وبيعها. ووفق أرقام قسم الطب الشرعي في جامعة دمشق فإن قرابة 18 ألف شخص تعرضوا لسرقةِ بعض أعضائهم في شمال سوريا، معظمهم من الأطفال. ومصادر أخرى تقول بأن سرقة الأعضاء تحدث أيضاً داخل مناطق سيطرة النظام، بدليل أنّ نقابة أطباء سوريا فصلت من عضويتها 8 أطباء اتضح تورطهم في تسهيل سرقة الأعضاء البشرية ونقلها بغرض الاتجار بها إلى خارج البلاد، ومثل هذه السرقات تتمّ من دون علم الضحيّة. ولكن وأحياناً يضطرّ البعض إلى بيع كلية بمبلغٍ بخس، ربما تحت سلطة اليأس، أو لاجتناب يقين الموت من الجوع. ولا يمكن التفريق هنا بين منطق الحاجة وإلحاحاته المضنية داخل مناطق سيطرة السلطة أو داخل مناطق سيطرة المعارضة. فالأمر سيان.

وبحسب ما يتناقله ناشطون في مناطق الغوطة الشرقية، فإن السرقة هناك باتت ظاهرة قائمة بفجاجة، يتم رصدها بصورةٍ يوميّة، والمطلعون على الشأن المحلّي هناك يعزون أسبابها إلى ارتفاع مستوى الأسعار، وغياب المداخيل النقديّة بسبب تبعات الحصار، وارتفاع نسبة البطالة إلى حدود قياسيّة، حتى أن تجهيزات المدارس لديهم لم تسلم من تطلعات السرقة. ولعل تنامي السرقات في مناطق الغوطة الشرقيّة عمّمَ عن غير قصد حالةً من حظر التجوال بعد حلول المساء والعتمة. فالكهرباء هناك دائمة الانقطاع، والناس تخشى من أن تُسلب ما تملك في أيّ لحظة. و “جرمانا” القريبة من الغوطة الشرقية والخاضعة للسلطة الرسميّة تسجل في يوميّاتها العديد من حالات السرقة، للأسباب عينها التي جعلت من السرقة ظاهرة مُقلقة داخل مناطق الغوطة الشرقية، لدرجة أن السكان المحلّيين في “جرمانا” يخشون من اتساع دائرة السرقات، ومن العنف المرافق لبعضها، ويؤكدون حدوثها بصورةٍ علنيّة وفي النهار أحياناً، ومن دون أيّ رادع. وهذا ينطبق على محافظة السويداء الموالية في الجنوب، والتي شهدت عشرات حالات الاختطاف مقابل طلب فدية قد تصل أحياناً إلى عشرة آلاف دولار. كما تقترن السرقة باستغياب الآخر، باستضعافه في غيابه عن مناطقٍ طحنتها آلة الحرب، وانتقلت الوصاية العسكريّة فيها من قوات المعارضة إلى قوات النظام، وهجرها سكّانها هائمين، وصارت ممتلكاتهم مشاعاً للنهب.

قرابة 18 ألف شخص تعرضوا لسرقةِ بعض أعضائهم في شمال سوريا، معظمهم من الأطفال، ونقابة أطباء سوريا فصلت من عضويتها 8 أطباء لتورطهم في تسهيل سرقة الأعضاء البشرية ونقلها إلى خارج البلاد

هناك أيضاً من يقوم بتزوير أوراق وسندات ملكية للاستيلاء على منازل النازحين، وتدل أرقام غير رسميّة يتناقلها معارضون سوريون أن عدد حالات سرقة سندات ملكية المنازل وإعادة تسجيلها بأسماء مالكين آخرين وصل إلى نحو 30 ألف حالة في سبع محافظات سوريّة، حيث بلغت في حلب وحدها نحو 12 ألف حالة، وفي ريف دمشق وصل عددها إلى أكثر من 8 آلاف حالة.

والبشر “العاديون” يسرقون أيضاً، والحرب تُعيد تربية الناس، وتعيد صياغة مكوّنات المجتمع بصورةٍ براغماتيّة مُقلقة. الأخلاق هنا لا تتدخل، منطق القوة يُرغم الجميع على تقفّي أثره.

* صحافي من سوريا

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى