صفحات الثقافة

“صالة السيكوباثولوجي” قصيدة للشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك ترجمة أحمد يماني

 

 

بعد سنوات في أوروبا

أعني باريس، سان تروبيه، كاب سان بيير،

بروفانس، فلورنسا، سيينا،

روما، كابري، إسكيا، سان سباستيان،

سانتيانا ديل مار، ماربيّا (1)

سجوبيا، آبِلا، سانتياجو

 

والكثير

والكثير

فضلا عن نيويورك وويست فيليدج بوجوه فتيات مخنوقات

أود أن يخنقي زنجي- قالت-

-ما تودينه هو أن يغتصبك- قلتُ (آه يا سيجموند، معك ينتهي الرجال من سوق الزواج الذي ترددت عليه في أفضل شواطئ أوروبا)

ولأنني بالغة الذكاء فلم أعد أصلح لشيء،

ولأنني حلمت كثيرا فلم أعد من هذا العالم،

أنا هنا، بين الأرواح البريئة للصالة رقم 18

مقنعة نفسي، كل يوم، بأنني والصالة والأرواح النقية لدينا معنى، لدينا مصير،

-تقول سيدة من السكان الأصليين لأحلك أحياء قرية لا تظهر على الخريطة:

– قال لي الطبيب إن لديّ مشاكل. لست أدري. أنا لدي شيء هنا (تلمس ثدييها) ورغبة عارمة في البكاء آه يا أماه.

نيتشه: «هذه الليلة ستكون لي أمٌّ أو أتلاشى.»

ستريندبرج: «الشمس، يا أمي، الشمس.»

بول إيلوار: «يجب ضرب الأم ما دامت شابة.».

نعم، يا سيدتي، الأم حيوان لاحم يعشق الخضر الشهوانية.

في اللحظة التي ولدتها فيها تفتح ساقيها، جاهلة بمعنى وضعها المصمم لمنح النور (2) والتراب والنار والهواء،

ولكن بعد ذلك ترغب الواحدة منّا في العودة لدخول ذلك الفرج الملعون،

بعد محاولتي وحدي أن أولد مخرجة رأسي عبر رحمي

(وبما أنني لم أستطع، فإنني أبحث عن الموت ودخول العرين النتن لإخفاءٍ مخفيٍ وظيفته الإخفاء)

أتحدث عن الفرْج وأتحدث عن الموت،

كل شيء فرْج وأنا لحست فروجا في بلاد عديدة وفقط استشعرت الفخر ببراعتي المذهلة – مهاتما غاندي اللحس، أينشتاين اللعق، رايش (3) اللقم، رايك (4) فتح الطرقات بين الشعر كحاخامات مشعثين- آه يا لمتعة الوسخ!

أنتم أيها الأطباء الصغار للصالة 18 رقيقون وحتى أنكم تقبّلون المجذومين، لكن

هل تتزوجون منهم؟

لحظة من الانغماس فيما هو أسفل، فيما هو مظلم،

نعم أنتم قادرون على ذلك،

بعدها يأتي الصوت المصاحب للشباب من أمثالكم:

أبإمكانك صنع مزحة من كل هذا؟

و

نعم

هنا في في البيروبانو

ثمة أرواح لا تعرف

لماذا زارتها البلايا.

يسعون إلى تفسيرات منطقية المساكين، يريدون أن تكون الصالة- حظيرة خنازير حقيقية- بالغة النظافة، لأن الجذام يرعبهم وعزلة الأيام المسكونة بأشباح قديمة مهاجرة من مشاعر الطفولة الرائعة والمحرمة.

أه، لقد قبّلت الكثير من الأعضاء الذكورية كي أجدني فجأة في صالة مليئة بلحم السجن حيث النساء تأتي وتذهب متكلمات عن التحسن.

لكن

علاج أي شيء؟

وأين يبدأ العلاج؟

صحيح أن العلاج النفسي في شكله اللفظي حصرا هو تقريبا جميل مثل الانتحار.

يتحدثن

يمتلئ المسرح الفارغ للصمت.

أو إذا كان ثمة صمت فإنه يتحول إلى رسالة.

لماذا أنت ساكتة؟ فيم تفكرين؟

لا أفكر، على الأقل لا أمارس ما يسمونة تفكيرا. أحضر

في التدفق الذي لا ينضب للهمهمات. أحيانا- دائما تقريبا- أكون رطبة.

أنا عاهرة، رغما عن هيجل. أود رجلا بقضيب هكذا، يأخذني ويولجه في حتى أنتهي إلى رؤية المعالجين (دون شك سيلحسون عضوي) يطردون الأشباح عني ويمنحونني برودا جنسيا جيدا.

رطبة

فرج قلب لمخلوقة آدمية،

قلب طفل صغير لا يكف عن البكاء،

«وسكت نفسي كفطيم» (مزمور) (5)

أجهل ما أفعله في الصالة 18 إلا تشريفها بحضوري

الفخيم ( لو أحبوني قليلاً لساعدوني على إلغائها).

أوه ليس أنني أود مغازلة الموت

أود فقط أن أضع نهاية لهذا الاحتضار الذي يعود سخيفا من كثرة طوله،

(بسخافة زيّنوكِ لأجل هذا العالم- يقول صوت رحيم بي)

و

وأن تلتقي مع نفسك- قال

وأنا قلت:

كي ألتقي بـ ي معي وأن أكون كيانا واحدا هو نفسه علي ّ أن أقتل الـ ي كي يموت الـ مع، وهكذا، بإلغاء الأضداد، تنتهي الجدلية المتوسلة إلى الانصهار بين الأضداد،

الانتحار يحدد

سكينا دون شفرة

بلا مقبض.

إذن:

وداعا للذات والموضوع،

كما في الأيام الخوالي، كل شيء يتوحد في حديقة حواديت الأطفال المليئة بالنهيرات العذبة لما قبل الولادة،

هذه الحديقة هي مركز العالم، مكان الموعد، هي المكان متحولا إلى زمان والزمان إلى محلّ، إنها اللحظة العليا للانصهار واللقاء،

خارج الفضاء الدنيوي حيث الخير مرادف لتطور المجتمعات الاستهلاكية،

وبعيدا عن الصور الزائفة العفنة لقياس الوقت عبر الساعات والتقاويم والأشياء المعادية الأخرى،

بعيدا عن المدن التي يباع فيها ويشترى (أوه، في تلك الحديقة للطفلة التي كنتها، الشاحبة المهلوسة للضواحي الوخيمة التي كانت تهيم عبرها متعلقة في ذراع الظلال: أيتها الطفلة، يا عزيزتي الطفلة التي كانت بلا أم (ولا أب، من الواضح)

بحيث أنني جررت مؤخرتي حتى الصالة 18 والتي أتظاهر فيها بالإيمان بأن مرض ابتعادي وانفصالي لا يتحالف معهم

-هم الجميع وأنا أنا-

أتظاهر إذن أنني أتحسن، أتظاهر بجعل هؤلاء الصبية ذوي النوايا الحسنة (أه أيتها المشاعر الطيبة!) يصدقون أن بإمكانهم مساعدتي،

ولكن أحيانا- أحيانا كثيرة- ألدغهم من ناحية ظلالي الداخلية والتي لن يعرف عنها شيئا هؤلاء الأطباء الصغار (العمق، كلما كان عميقا كلما كان لا يمكن وصفه) وأذلهم لأنني أذكر حبيبي العجوز، الدكتور بيتشون ريفيير (6)، العظيم كما لن يكون واحد من أطباء الصالة الصغار هؤلاء (جيدون جدا، لسوء الحظ)، لكن عجوزي يموت مني وهؤلاء يتكلمون والأسوأ أن لهؤلاء أجسادا جديدة، عفيّة (اللعنة على تلك الكلمة) بينما يحتضر عجوزي في البؤس لأنه لم يعرف أن يكون خراءً عمليا، لأنه واجه الغموض الرهيب والذي هو تدمير الروح، لأنه لمس المخفي كقرصان –ليس منحوسا قليلا فعملات ذهب اللاوعي كانت محملة بلحم المشنوق، في مكان مسور مليء بمرايا مكسورة وبملح مسكوب (7) –

عجوز ملعون، نوع من إجهاض خبيث لأشباح مصابة بالزهري، كم أعشقك في تعرجك الشبيه فقط بتعرجي،

ويمكن القول إنني تشككت دائما في عبقريتك (أنت لست نابغة؛ أنت نهّاب ومنتحل) وفي الوقت ذاته وثقت بك،

أوه، أنت من أوكلت إليه كنزي،

أحبك إلى درجة أنني يمكنني قتل كل هؤلاء الأطباء المراهقين كي أجعلك تشرب من دمهم وأن تعيش لدقيقة، لقرن أكثر،

(أنا وأنت، الحياة لا تستحقنا)

صالة 18

عندما أفكر في العلاج الوظيفي يمكنني نزع عينيّ في بيت مهجور وأكلهما وأنا أفكر في أعوامي من الكتابة المتواصلة،

15 أو 20 ساعة أكتب دون توقف، مشحوذة بفعل شيطان القياسات، محاولة صياغة مادتي اللفظية البشعة الشريدة،

لأن –آه يا عجوزي الجميل سيجموند فرويد- علم التحليل النفسي نسي المفتاح في مكان ما:

الفتح ينفتح

ولكن كيف يمكن إغلاق الجرح؟

الروح تعاني دون هوادة، دون رحمة والأطباء السيئون لا يرتقون الجرح المتقيح.

الإنسان مجروح من تمزق ربما، أو بالتأكيد، تسبب في الحياة التي منحونا إياها.

«تغيير الحياة» (ماركس)

«تغيير الإنسان» (رامبو)

فرويد:

«الصغيرة أ مجملة بالعصيان»، (رسائل…)

فرويد: شاعر تراجيدي. عاشق مفرط للشعر الكلاسيكي.

بلا شك، استخرج العديد من المفاتيح من «الفلاسفة الطبيعيين» ومن «الرومانسيين الألمان» وخاصة من معشوقي الكبير ليشتنبرج، عالم الفيزياء العبقري وعالم الرياضيات الذي كتب في مذكراته أشياء كهذه:

«كان قد وضع اسما لنعليه»

كان يشعر بالوحدة، أليس كذلك؟

(آه يا ليشتنبرج، أيها الأحدب الصغير، كان يمكن أن أعشقك!)

وكيركجور

ودوستويفسكي

وخصوصا كافكا

الذي حدث له ما حدث لي، إذا كان صحيحا أنه كان حييا وعفيفا

-«ماذا فعلتُ بهبة الجنس؟» -وأنا المستمنية كما لم توجد أخرى؛

لكن حدث (لكافكا) ما حدث لي:

انفصل

ذهب بعيدا جدا في عزلته

وعرف –كان عليه أن يعرف-

أن ليس ثمة عودة من هناك

ابتعد –ابتعدتُ-

ليس احتقارا (بالطبع لأن كبرياءنا جهمني)

لكن غريبة هي الواحدة.

من مكان آخر،

إنهم يتزوجون،

ينجبون،

يصيفون،

لديهم مواقيت،

لا يفزعون من الغموض المعتم للغة

(ليس الشيء نفسه أن تقول ليلة سعيدة كأن تقول ليلة سعيدة)

اللغة

-أنا لا أستطيع أكثر

يا روحي، الصغيرة غير الموجودة،

قرري

إما أن تمضي مسرعة وإما أن تبقي،

لكن لا تلمسيني هكذا،

برهبة وارتباك

إما أن تذهبي وإما أن تمضي مسرعة

أنا، من جانبي، لا أستطيع أكثر.

 

هوامش من المترجم

 

(1)= أثبتنا هنا النطق الإسباني لمدن ماربيّا وسجوبيا وآبلا ولم نثبت النطق العربي: «ماربلة» و«شقوبية» و«آبلة»، حفاظا على الإيقاع الغربي لأسماء الأماكن في القصيدة.

(2)= تعبير إسباني يعني الولادة وقد حافظنا على التعبير الحرفي توافقا لما يأتي بعده. م Dar a luz

(3)= فيلهلم رايش (1897-1957) عالم نمساوي، كان محللا نفسيا ينتمي إلى الجيل الثاني بعد فرويد.

(4)= تيودور رايك (1888- 1969) محلل نفسي أمريكي من أصل نمساوي.

(5)= المزمور رقم مائة وواحد وثلاثين.

(6)= أنريكه بيشون ريفيير Enrique Pichon-Rivière (1907- 1977) طبيب نفسي أرجنتيني من أصل سويسري، من أوائل من أدخلوا التحليل النفسي إلى الأرجنتين.

(7)= لملح المسكوب إشارة إلى استحضار الشيطان.

 

كتبت أليخاندرا بيثارنيك هذه القصيدة عام 1971، قبل عام واحد من انتحارها

وذلك أثناء إقامتها في مستشفى بيروبانو للأمراض العقلية في بوينوس أيرس

خالص الشكر للصديقة الشاعرة أسماء ياسين على قراءتها المتأنية للترجمة وعلى ملاحظاتها القيمة وعلى اقتراحاتها وتعديلاتها التي أفادت النسخة العربية كثيرا.

كذلك خالص الشكر للصديق الشاعر أحمد ندا على قراءته للقصيدة وعلى أفكاره الملهمة وحوارنا حول شعر بيثارنيك.  (أحمد)

شاعر ومترجم مصري مقيم في مدريد، اسبانيا

كيكا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى