صفحات الرأي

السفور والحجاب في ما يتعدى النص

أحمد بيضون

   بعد أخذٍ وردّ متماديين، ألغت مدينة غند Gand، ثانية المدن البلجيكية، حظراً للبس الحجاب الإسلامي كان مفروضاً من سنة 2007 على الموظّفات في دوائر المدينة. جاء الإلغاء في أثر حملة توّجت بعريضة، واعتبره المسلمون نافذة تفتح في هذا الجدار الرمزي الذي كانت الجارة العلمانية فرنسا سبّاقة إلى إعلائه بالتشريع وما تزال تدافع عنه في وجه مهاجميه… هذه مناسبة للسؤال عن معيار يصلح فيصلاً، عند التنازع، ما بين نظمتي القيم: الشرعية الإسلامية والوضعية الديمقراطية. فإن مشكل الحجاب يبدو مثالاً صالحاً للدخول إلى ساحة التنازع المذكور من بابٍ أوسع أو أرفع من باب المجادلة المباشرة في النصّ الديني. وهذا مدخل يزكّي إمكان التفاهم ويحمل المناقشة مجدّداً أيضاً إلى ديار الإسلام حيث كانت مسألة الحجاب والسفور ولا تزال مطروحة من قرن أو يزيد.

*

ثمّة صيغ للحجاب يدلّ اعتمادها على اختيار حرّ من جانب النساء اللواتي يستخدمنها. فيعود غير جائز أن تواجَه بالاعتراض لما في الاعتراض من تعدّ على حقّ امرأة في التصرّف الحرّ بجسدها. هذه الصيغ تشبه صيغاً من السفور تستبعد التبعية الذليلة لخيارات الجماعة أو لخيارات اللحظة وتشير هي أيضاً إلى شخصية حرّة. بين السفور والحجاب، في هاتين الحالتين، نوع من التماثل المعنوي ومن التكافؤ في القيمة. ويُفترض أن يفضي ذلك إلى قبولٍ تتبادله النساء من الجهتين وتصادق عليه البيئتان الحاضنتان. هذا القبول لا يُفترض أن يَستبعد النقد: النقد الذي لا يرمي، بحالٍ من الأحوال، إلى المنع، ولكنه يستقصي المعاني المحمّلة في كلّ زيّ ويحسّن ما يتوصّل إلى استحسانه  ويقبّح ما يتثبت من قباحته. فيكون كلاماً في الذوق يريد الرفع من سويّة الذوق من غير افتئات على حرّية صاحبه. وقد يفضي إلى طرح مسائل تتّصل بالوجود الشخصي أبعدَ مرمىً من المسألة الذوقية.

لا أقصد بالحجاب هنا ذاك الإسلامي حصراً ولا أفترض السفور الذي أشير إليه خارجاً على الشرع الإسلامي أو خارجاً من نطاقه. أعرف أن الإسلام احتمل ولا يزال يحتمل جدلاً معقّداً في موضوع الحجاب. في جماعةٍ يؤطّرها جهازٌ فقهي، يسع الحجاب الإسلاميّ ألاّ يكون غير الوجه الظاهر لوصول اليد الفقهية إلى العمق الأقصى للحياة الخاصّة (وهو العمق الذي يقع فيه جسد المرأة والعلاقة به وعلاقته بنفسه) ولاتّخاذ هذه السلطة القصوى “برهاناً” يتعذّر دحضه لشرعية السلطة العامّة التي يضطلع بها الفقيه نفسه أو يزكّي المولجين بها. يصحّ هذا قليلاً أو كثيراً تبعاً لشدّة أسر الجهاز الفقهي ولاكتمال حضوره وكثافته ووتائره أو لتعلّق الحجاب وأموره بمجرّد التقليد الذي لا يحتاج إلى من يرعاه وقد بقيت منه مظاهر مستمرّة ولكن قوّة الإلزام التي فيه وعمومية مجاله تقلّصتا قليلاً أو كثيراً. ثم إن الذكور من العائلة يسعهم أن ينوبوا عن الفقيه في هذا المضمار فيزكّي فرْض الحجاب نظمة سلطوية أخرى لا تجافي النظمة الفقهية بالضرورة ولكنها تباينها من حيث الأصل. وقد ينوب عن السلطة الفقهية وعن سلطة العائلة نفسها تسلط بلطجية الحيّ الذين يجدون في حفظ “الأعراض” مدخلاً من مداخل سطوة يحوزونها ويستبيحون بفضلها أموراً بعيدة جداً عن مفهوم الشرف. تلك حالة يكثر ورودها في ضواحي المدن الأوروبية ويكثر دورانها، بالتالي، على ألسنة خصوم الحجاب.

*

ما أتناوله هنا أمر يمكن تحييد مناقشته عن نطاق الجدل الديني إذ هو لا يتعلّق بأمرٍ أو نهيٍ إلهيين يمكن استقاؤهما من نصّ أو اجتهاد. بل هو يتعلّق بحرّية الشخص الذي هو امرأة بعينها وبوجود شخصية لهذا الشخص أو عدم وجودها بالتالي. ولا أفترض أن ما يحصل على الضفة الأخرى، أي ضفّة السفور، موافق بالضرورة لداعي الحرّية هذا أو معبّر بالضرورة عن الشخصية الحرّة. فقبالة الجدل الديني وذاك العلماني في الحجاب يوجد جدلٌ دينيّ وآخر علمانيّ في السفور. ومحور الجدل في الحالين واحدٌ، بمعنى ما. هو حرية الشخص التي يرى الطاعنون في الحجاب أنه يحدّ منها بإلزامه المرأة دائرة الخاصّ واستوائه رمزاً للرغبة في “كتمان” المرأة وإخراجها من الساحة العامّة وفي استحواذ الذكور على كلّ ما يجوز اعتباره إرادة عامّة. هذا فيما يرى الطاعنون في السفور أنه يحدّ من الحرّية أيضاً بتشييء الأنثى وامتهان جسدها وعَرْضها غرَضاً غير مشخصن لرغبة الذكور.

إذا خرجنا بهذا الجدال من دائرة الأمر والنهي، أمكن، فيما أرى، أن نتّخذ الحرّية معياراً عامّاً للبحث النقدي في الموضوع. ثمّة صيغٌ للحجاب ثبت بالتجربة أنّها لا تنطوي على حدّ من حضور اللواتي يخترنها في المجال العامّ. وهي تستبقي الشخصية معلنةً مؤكّدة بإبقائها الوجه مكشوفاً. يسع بعضنا أن يجد هذا الحجاب جميلاً وباعثاً على الاحترام ويسع بعضنا الآخر أن يجده قبيحاً عصيّاً على التسويغ. ولكننا نبقى في الحالين في دائرة الذوق الذي نملك أن نماحك أهله فيه ولكن لا نملك أن نشكّك في صدوره عن اختيار حرّ لصاحبته. ولا ينتقص من هذه الحرّية موافقة الاختيار للقاعدة الاجتماعية إذ ليست القواعد الاجتماعية، بعامّة، مستوجبة الرفض، بما هي كذلك، بحيث يعتبر قبولها طاعناً في الحرّية. وإنما يحتاج الرفض إلى مسوّغ في كلّ حالة.

على أن ثمة حجاباً لا يمكن ألاّ يعدّ منتقصاً من حرّية المرأة إذ هو يجتزىء بصيغته البعد العامّ لحضورها ويلزمها نوعاً جزئياً من “الوجود”، إذا جازت هذه العبارة. وأهمّ المعالم (أو المجاهل) المميّزة لهذا الحجاب إخفاء الوجه. فإن الوجه صورة الشخصية وهو الشارة الدالّة على استحقاق الفرد اسماً شخصياً. فإذا هو حُجب مالَ الأفراد إلى ضرب من الغفلية ومالت شخصية كلّ منهم إلى البطلان أو إلى الكتمان شأن حبّات الفاكهة في الكيس. معنى ذلك أن القاعدة الاجتماعية أو الدينية تمثّل ههنا، حين وجودها، انتقاصاً مؤكّداً من وجود الكائن الذي تملى عليه. فلا يبقى حاسماً أن ينتهي الفرد إلى قبولها راضياً أو أن يقبلها مرغماً. فإنما هو خاسرٌ وجودياً في الحالين. ثمة خسارة من الوجود الفرديّ يشي بها أيضاً توحيد الزيّ وتوحيد لونه. فهذه الوحدة – كما في حالة العسكر مثلاً –  إدراج مسبق للنساء في الجماعة وتغليب لرأي الجماعة وقولها على رأي كلّ منهن وقولها في أمر نفسها: مظهراً ومن ثمّ مَخْبَراً.

على الضفّة الأخرى، تقع على المرأة خسارةٌ وجودية أيضاً حين تّحْمَلُ، لسببٍ ما، على القبول بعرْض جسدها على الناظرين لغرض الترويج لسلعةٍ ما. وهذا مع أن إبراز الهويّة قد يكون مطلوباً هنا ومتحصّلاً بقوّة من كشف الوجه والجسد أو بعضهما. تبدو المرأة، في هذه الحالة، مروّجة أوّلاً لنموذج للجمال الأنثوي ويصبح رواج هذا النموذج الذي قد يتّخذ اسم هذه العارضة، بالذات، شرطاً لقدرة الإعلان على ترويج السلعة التي يقرن اقتناؤها أو استعمالها بصورة هذه المرأة وبالنموذج الذي تمثّله بالتالي. في كلّ حالٍ، ينحو استعمال صورة المرأة ههنا إلى اتّخاذها قالباً عامّاً أي شيئاً وينتهي مطافها إلى تحصيل الربح بصورتها للبائعين. وفي هذا ما يلحقها بالسلعة ويقرّبها هي نفسها من حال السلعة. فتلتقي المرأة المعروضة المرأةَ المحجوبة في وضع اضمحلال الشخصية، ولو بعد دورةٍ تامّة.

وفي الحالين، ينتهي ما قدّمناه إلى استبعاد المنع وإلى تجويز النقد. فلكلّ من وجد في نفسه الأهلية لذلك أن يظهر ما يلحق بالمرأة من خسارة لوجودها الشخصي أو خسارة منه في حالتي الحجب والعرض. ويفترض أن يكون النقد سبيلاً إلى التحرير حيث تكون خسارة الشخصية أمراً مفروضاً من جانب الجماعة. ولكن ليس لأحدٍ أن يجعل هذا النقد باباً لمنع امرأة بالإكراه من الاحتجاب أو من الاستعراض بحجّة أن المنع يحرّرها. فإن التحرير أمرٌ يُملى على الجماعة ولا يُكْره الفردُ إكراهاً على التحرّر بل تيسّر له السبل إليه.

أمرٌ أخير أردنا إبرازه هنا: وهو أن مناقشة مسألة السفور والحجاب في مجتمعٍ ذي وجهٍ إسلامي له مدخلٌ غير مدخل استعراض النصوص وتأويلها والنظر في ما تتّسم به من لَبْس وما تنطوي عليه من أمر أو نهي، من تحليل أو تحريم. ذاك هو المدخل الفلسفي المتعلّق بشروط تكوّن الشخصية الفردية ومزاولتها لحرّيتها. وهو المدخل الذي اخترنا تناول الموضوع منه هنا. ذاك مدخلٌ لا يوجب البحث الديني ولكنه لا يستبعده أيضاً. وإنما يمكن طرقه على المستوى الفلسفي من التناول الديني، أي على مستوىً أعمّ من مستوى القواعد الفقهية وأرفع.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى