صفحات الرأي

السلطة المستبدة.. وقتل الغريزة الثورية

 


احمد برقاوي

هل لدى الكائن البشري غريزة ثورية شأنها شأن الغرائز الأخرى الدافعة للسلوك من أجل إشباعها؟ الجواب الذي أفترض: أجل، لدى الإنسان غريزة هي الغريزة الثورية شأنها شأن غريزة الجنس والطعام والشراب والتنفس. فالثورة كما أعرفها: حال من الغضب على تهديد خارجي للوجود الإنساني ودرءاً لخطرٍ على هذا الوجود. إنها ثمرة عدم الرضى عن واقع ينفي حضور الذات في هذا العالم كما تريد أن تحضر. نفي يتم عبر جماعات تمتلك القوة النافية هذه. وإننا، حتى لو رحبنا بتعريف لينين للثورة، على أنها انتقال السلطة من يد طبقة إلى أخرى، فإن هذا التعريف لا يعدو كونه غضب طبقة من سلب طبقة أخرى للحياة التي تريدها. وبأي صورة عرفت الثورة فإنها غضب ناتج عن الخوف والقهر والجوع. وقولنا إن الثورة غريزة بشرية يعني أنها جزء من جِبلة الإنسان، ومكوّن أصيل من مكونات عالمه البيولوجي – النفسي. ولهذا فإن غريزة الثورة كأي غريزة أخرى قابلة للإشباع وللقمع وللتثقيف. وقبل أن أتناول الإشباع والقمع والتثقيف، أشير إلى أمر لم يخطر على بال النائمين، ألا وهو أن غريزة الثورة ككل الغرائز التي تؤدي وظيفة غريزة البقاء. فحب البقاء غريزة مشتركة لدى الحيوان والإنسان. ما المقصود بإشباع غريزة الثورة: لا يكون هناك إشباع لغريزة الثورة إلا إذا عاش المرء في حال من الأمان والحرية والشبع. وإذ نقول إشباع الغريزة الثورية لا يعني سوى أننا نحول دون تحولها إلى فعل تدميري بالمعنى الايجابي للكلمة، مهما رافق هذا الفعل من دفع إتاوات باهظة. وإشباع الغريزة الثورية تحقيق لغريزة البقاء، لكن مفهوم البقاء الإنساني مختلف عن البقاء الحيواني. ذلك أن الإنسان وحده يحول غريزة البقاء إلى ما يجب أن يكون عليه البقاء، ولهذا فإن الحيلولة دون البقاء كما يجب أن يكون، يشمل الغريزة الثورية، وعلى العكس كلما تحقق للكائن الإنساني البقاء كما يريد، فإنه يشبع الغريزة الثورية. فلقد مضى وقت طويل حتى وصلت المجتمعات الأوروبية وما شابهها إلى حال إشباع الغريزة الثورية عبر تحقيق البقاء كما يريد الأوروبي. فالديموقراطية بوصفها نظاماً سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً حققت للأوروبي ـ وما شابهه ـ العناصر الثلاثة لإشباع غريزة الثورة، الأمن والحرية والشبع. ولهذا انتقلت الغريزة الثورية إلى حال الاحتجاجات الموقتة لزيادة الأمن والحرية والشبع، ولهذا فإننا منذ أن انتهت الحرب العالمية الثانية، لم نشهد إلا ثورات أوروبا الشرقية وهي ثورات سلمية أطاحت بالحكم الشمولي. لقد تحول غضب الشعوب في أوروبا الاشتراكية الذي سببه غياب الشعور بالأمن وغياب الحرية واتساع قطاع الفقر إلى ثورة أعادت للحياة شروط إشباع غريزة الثورة. وكل ما تحقق في أوروبا أو أميركا الشمالية أو ما شابه ذلك، لا ينفي أبداً إمكانية الغضب في صورة احتجاج يتسع أو يضيق حسب ظهور غريزة الثورة. أما في دول العالم التي يحكمها الطغاة، فرداً أو أفراداً، فإنها تبذل كل جهد ـ عبر القوة ـ لقمع غريزة الثورة، وعبر استخدام النفي الروحي والجسدي للإنسان، وتحمل البشر على كبت غريزتهم الثورية حباً بالبقاء الجسدي، كما تحملهم على الخضوع بكل أشكاله، فتفقدهم القدرة على إظهار كرامتهم الإنسانية، فضلاً عن أن هناك نمطاً من الطغاة الصغار يغرقون في الفساد الذي يسلب الناس جيوبهم، فيتحوّل الناس والحال هذه إلى لاهثين نحو تأمين اللقمة. تعتقد السلطة الطاغية، أنها عبر قمع غريزة الثورة قد استأصلتها استئصالاً كلياً وهذا الوهم يقودها إلى التمادي في القهر والإفقار وسلب الكرامة. وقبل أن أطبق ما قلته على الحال العربي أشير إلى أن غريزة الثورة كأي غريزة أخرى قابلة للتثقيف، وقولنا قابلة للتثقيف يعني أن ممارستها تنتقل من الغضب العفوي إلى تنظيم الغضب وتحديد الأهداف وخلق النخب الثورية، وعندها يتصالح العقل مع الغريزة، لتحقيق الانتصار على من يسلب الناس أمنهم وحريتهم وكرامتهم، وهذا التثقيف إنما يتم بتنظيم حزبي، نقابي، مدني.. إلخ. بل وإن جماعة صغيرة ثورية تغدو معبرة عن الكل حين تنظم أهدافها وتحدد سلوكها. منذ بداية السبعينيات أي قبل أربعين عاماً ـ شهد الوطن العربي ظاهرة السلطة المستبدة القامعة للغريزة الثورية قمعاً جسدياً وروحياً، إلى حد قل مثيلها في التاريخ. فلا مجال للمقارنة أبداً بين رموز الديكتاتوريين في العالم الحديث والمعاصر والقديم وبين الديكتاتوريين العرب. فالإمبراطور عبد الحميد وهو إمبراطور آسيوي ظل مشغولاً بالحفاظ على الدولة العثمانية ورفض أن يتخلى عن بيت من بيوت فلسطين ولم يمارس ولو جزءاً ضئيلاً من التنكيل بالسكان، كما مارسه ويمارسه أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو والمعالي العرب. لقد مات الديكتاتور الأشرس ستالين الذي قتل مئات الألوف من سكان الاتحاد السوفياتي من دون أن يفسد، ويجمع الثروات، لكنه بالمقابل أسس صناعة الدولة السوفياتية وانتصر في الحرب ضد النازية ـ وذهب ابنه أسيراً وقتله النازيون رافضاً المساومة عليه. وهتلر الديكتاتور الذي انتخبه الشعب الألماني، حوّل ألمانيا إلى أقوى دولة في تاريخ ذاك الزمان، وحين انهزم أطلق الرصاص على نفسه وانتحر. فرانكو ديكتاتور هو الآخر، كان يعتبر أن هو اسبانيا واسبانيا هو من حيث العظمة. فيما الحكام العرب هم صورة كاريكاتورية للديكتاتور. فلقد أسسوا بسبب طول بقائهم في السلطة عصبيات ضيقة وتوزعت عناصر القوة على أفراد هذه العصبيات، فلقد انتقلوا من امتلاك السلطة إلى خلق شروط استمرار هذا الامتلاك إلى ما لا نهاية، أو قل، كان هدفهم الامتلاك النهائي للسلطة مع استمرار عصبية هذه السلطة. أنتج هاجس الاستمرار في امتلاك السلطة مع الأيام الخوف على فقدانها، إذ انحصر مفهوم السلطة في أمرين: الحكم الدائم وامتلاك الثروة هذا الترابط الذي قام بين سلطة الحاكم وامتلاك الثروة أدى إلى بروز ذهنية المحتل. إذاً الشرط الأول للاستمرار في امتلاك السلطة والثروة معاً القمع الدائم لغريزة الثورة لدى المحكومين. بالنسبة لهذه السلطة، كانت أدوات القمع الأساسية بسيطة جداً: أجهزة امن وجيش، قادته مخلصون لمصالحهم المرتبطة بوجود السلطة، وقانون طوارئ وجهاز أيديولوجي. لقد تضخم جهاز الأمن إلى حد صار أكبر من مؤسسات الدولة الديكتاتورية وصار لديه في كل مدينة وقرية وعزبة فروع وأقسام ومفارز. السجون المغلقة على كل لجان حقوق الإنسان والأهل والأقارب، تشهد التعذيب والقتل والاعتقال من دون أي رادع. حركات المجتمع وسكناته لا تمر إلا عبر الأمن. استباحة أموال الناس تتم بتراتبية شديدة الحاكم وعصبيته، أجهزة الأمن، الوزراء، المحافظون، ورؤساء الدوائر.. مع استمرار هذا الاحتلال الكامل من قبل السلطة وأدواتها ومتمجّديها، اعتقدت السلطة أنها قد استأصلت، كما قلنا، غريزة الثورة ولا سيما أنها حالت من دون ظهور أية معارضات ممكنة. وهي إذ اعتقدت ذلك لم تعد تفكر أصلاً بأن المجتمع قادر أن يرفع رأسه. لم تدر أن المجتمع الخالي من غريزة الثورة المثقفة التي هي المُعَارَضَة صار مجتمع الشرارات. مجتمع انفجار الغريزة الثورة بشكل عاصف بسبب شرارة واحدة. فالبالون لم يعد يتسع إلى أي ذرة من الهواء إضافية. لكن مجتمع الشرارات هذا، التي استيقظت فيه غريزة الثورة بعد سبات طويل، هو مجتمع الاتصالات، مجتمع المعرفة، مجتمع متخرجي الجامعات والمدارس، مجتمع الحاجات المتنامية، مجتمع الإحساس بالعبودية، مجتمع الحرية المكبوتة، مجتمع العالم كما يجب أن يكون. هذا المجتمع راح يواجه مجتمعاً قد استرخى ووصل إلى ما وصفه ابن خلدون إلى مرحلة الدعة. فالعصبية الأولى راحت تضعف شيئاً فشيئاً. حين انفجر مجتمع الشرارات، انفجرت الغريزة الثورية المكبوتة والمقموعة. أصيبت سلطة الاحتلال بالدهشة والاستغراب. لكن مجتمع شرارات وجد أمامه دولة هشة ـ هشيماً فأشعلت النار في هذا الهشيم. مجتمع الشرارات هذا، مجتمع الغرائز الثورية المثقفة، من دون تنظيم كلاسيكي للثورات الماضية. ولقد اجترح التظاهر السلمي الدائم والمستمر في الشوارع، اجترح فكرة الصراع على نحو جديد، صراع الغريزة الثورية المثقفة العامة والشاملة والسلمية ضد القوة الهمجية للسلطة القمعية. لأول مرة منذ أربعين عاماً تواجه السلطة العربية ظاهرة لا قبل لها بمواجهتها سابقاً، ليس لها تجربة في الانتصار على شعب كامل، رمى نظارات الخوف عن عينيه، وراح يواجه بثبات وصمود ودماء، أجهزة الأمن التي لا تملك سوى أدوات القتل. كانت السلطة قد اعتادت على مواجهة جماعات مسلحة على شاكلتها. جماعات قابلة للانتهاء لأنها محدودة العدد، سرية، لكنها الآن في ورطة غريزة الثورة المكبوتة، تتجه نحو الإشباع، نحو شعارات جد بسيطة، من كرامة، حرية، رغيف ديموقراطية بسيطة لأنها من الشعارات المألوفة في التاريخ المعاصر، لكنها هذه المرة شعارات كتل تاريخية جديدة، تحتوي على كل انجازات تاريخ البشرية، شعارات جماهير من الشباب حيث الغريزة الثورية في أول ظهورها قوية عنيدة مغامرة وأنيقة وذكية ومثقفة هذه الغريزة الثورية الشابة أيقظت الغريزة الثورية للجيل القديم التي غطت في خوف خبرته على مدى عقود، وراح يشارك الشباب الساحات، من دون أن يكترث الشباب بحكمتهم القديمة ـ الجديدة. حين اشتعل مجتمع الشرارات التونسي ظنّ من هم مطمئنون على سدة الحكم أنهم في منأى مما حصل في بلاد أبي القاسم الشابي، هذا الوهم كان بسبب المرض الذي أصابهم على مر الأيام، ألا وهو مرض الصمم التاريخي ما هذا المرض وأعراضه؟ للجواب عن هذا السؤال مقال آخر. [ مفكر وأكاديمي في سوريا

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى