صفحات سوريةغازي دحمان

السوريون ومزاج الغرب/ غازي دحمان

 

 

واحدة من الانتقادات التي يتم توجيهها للثورة السورية، أو بالأصح للقيادات السياسية المعارضة، والنخب الفكرية والإعلامية، هي العجز عن جعل الغرب يشعر بأن تأييده ثورتهم يحمل فائدة سياسية ومعنوية وقيمة أخلاقية له، حتى أن مثقفين سوريين طالبوا بإيجاد أساليب إبداعية جديدة، غير طريقة عرض المظالم، بالصورة والكلمة التي ثبت عدم جدواها لتسويق قضية السوريين في الغرب، وذهب وزير الخارجية العراقي السابق، هوشيار زيباري، إلى أن الأكراد كانوا أكثر براعة من السوريين، حينما أقنعوا الغرب بعدالة قضيتهم ومسارعته لنجدتهم.

ومع أهمية هذا الأمر، فإن ثورات الشعوب، في الغالب، ليست مطالبة بتحقيقه. وفي الغالب، الثورات مثل الدول، عندما تكتمل أركانها: امتدادها على رقعة واسعة من الجغرافيا الوطنية، واشتمالها على أكثرية شعبية، يصبح الاعتراف بها أمراً واقعاً، وأكثر من ذلك، تصبح حماية الشعب الذي يمثلها حقاً بحكم القانون الدولي وقانون الحماية الإنسانية. ولا شك أن مجرد شعور السوريين بأن تأييدهم مشروط بقدرتهم على إقناع الغرب (بماذا؟) بحد ذاته أمر مربك، فهو يعني وضع قضيتهم في إطار جملة تفضيلاتٍ، قد يقبلها أو يرفضها، وتضع الغرب في موقع المتطلّب الذي يشترط إنتاج ثورة بتعبيرات ومظاهر محدّدة، وقد يطالب بإجراء تعديلات معينة، تتناسب وذوقه وثقافته التي هي، في النهاية، نتاج بيئته الخاصة، الأمر الذي يخرج الثورات عن سياقها الطبيعي، بوصفها تعبيراً عن مظالم شعب وتطلعاته إلى العيش بكرامة، والأهم هويته الوطنية والقومية، ويضعها في إطار المنتجات السلعية التي تراعي شروط تقبّل المستهلك الغربي لها.

في المقابل، صمم هذا الغرب نفسه موقفاً قبلياً من الثورة السورية، وجعل أمر اختراقه صعباً، إن لم يكن مستحيلاً. رفض سردية الحدث كما قدمته الثورة، وكان ينتظر الطرف الآخر حتى يجهز سردية موازية، حتى لو كانت من نوع تحقيقات سيمور هيرش البائسة، أو على شاكلة روايات بثينة شعبان الخرافية، أو ينتظر أحداثاً هنا وهناك، كان يقدّر حدوثها سلفاً، نتيجة قراءته تطورات الحالة، ليثبت أن ما يحصل هو جملة من الحوادث المتناقضة في سباق صراعي، وليدعّم موقفه القبلي بأن لا مصلحة له بالدخول في هذه المعمعة.

لكن، أيضاً، وللإنصاف، تبيّن أن الرأي العام الغربي لم يكن يعرف عن سورية، على الرغم من وجود مئات البعثات الدبلوماسية والملحقيات الثقافية بين الطرفين، سوى ما كان يصدّره له إعلام شركات العلاقات العامة، والتي كانت تركز على بزّة بشار الأسد والسنة والنصف الدراسية التي قضاها في لندن ونمط حياة زوجته التي أطلق عليها لقب “وردة الصحراء”، أما باقي سورية فهي قبائل بدوية، ذات ثقافة مختلفة وطبيعة غيرية، شعب له بنى وتشكيلات اجتماعية واقتصادية وثقافة مختلفة. وقلة المعرفة تشمل الأقليات أيضاً، ولم يكن التعاطف معها إلا بسبب نمطية الصورة الوحشية عن الأكثرية.

ثمة رأي آخر، يرى أن القضية أعقد من ذلك بكثير، ولا يمكن مقارنتها بتأييد الغرب بعض المكونات في المنطقة، ومسارعته لنجدتهم، ذلك أن القضية السورية، وتحديداً وضع الأكثرية فيها، تقع على خط الاشتباك العربي والإسلامي مع الغرب، سواء لجهة صدع العلاقات مع إسرائيل، حيث يتم احتساب المكون الأكثري في سورية في كفة الجهة المعادية وغير المعروفة توجهاتها في المستقبل، وما يمكن أن تكون عليه (لعلّ إيران كانت الأكثر وضوحاً عندما أكدت أن إسقاط الأسد سيؤثر على أمن إسرائيل)، أو لجهة موقف الغرب من الإسلام “الجهادي”، والذي يعتبره عربياً سنياً، أو حتى لجهة موقف تياراتٍ يمينية ممّا يعتبره أسلمة الغرب بسبب كثافة الهجرة الإسلامية، وتلك محدّدات وضعها الغرب تجاه موقفه من القضايا العربية عامة.

بكل الأحوال، يقول المنطق إن السوريين لا يحتاجون حرتقاتٍ إعلامية وسياسية، لإقناع الغرب للوقوف معهم ومساعدتهم، إنْ لم يكن بسبب تعرضهم لعدوان إقليمي ودولي واضح، فلأن الغرب مؤسس النظام الدولي الحديث، ويحق له تقرير ما لا يحق لأحد غيره، وهذا الأمر مسجّل ضمن وثائق قانونية دولية (ميثاق الأمم المتحدة)، كما أنه حصل على المزايا التي تجعله بهذه المكانة نتيجة التزامه “المفترض” تجاه قضايا بعينها، وفي مقدمتها حماية حقوق الإنسان، بغضّ البصر عن انتمائه، في الحرية والكرامة. لكن، من الواضح أن صدر الغرب لم يعد يتسع لمحاولات الشعوب التحررية، ولم تعد مراكز أبحاثه ومنابره الإعلامية مهتمة بالحديث عن هموم الشعوب وآمالها وتطلعاتها، في وقت يبدو فيه الحديث عن بدائية الشعوب وتوجهات الإرهاب و”مستقبلات” المنطقة أكثر إغراء. لذا، كان الحديث المشوّق أكثر هو عن جيواستراتيجية الصراع، وإخفاء البعد الإنساني فيها.

لا داعي لأن يجهد السوريون أنفسهم لإثبات أن ثورتهم مفيدة للغرب. الإشكالية أن الغرب اقتنع أن لا شيء مفيداً يأتي من الشرق، وبالتالي، لم يعد ممكناً اختراق هذه القناعة. إنهم يبحثون عن كل ما يثبّتها، لا يفنّدها، لكن، أيضاً، لا بد من التأكيد على مسألة جوهرية، هي أن ثورة السوريين وتضحياتهم وضعت العالم في مأزق، فهو وإن بدا غير راغب بمساعدتهم، لكنه في الوقت نفسه عاجز عن تجاوز رغبتهم في الانتقال إلى الحرية. هذه التضحيات صنعت تلك المعادلة، وفرضت نفسها واقعاً على السياسات الدولية والرأي العام العالمي، وإن طال مشوار الألم.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى