بدر الدين شننصفحات سورية

السوريون يتحفزون للثورة

 


بدر الدين شنن

الواقع الملموس يفصح ، أن ما بعد المد الثوري الشعبي العربي هو غير ماقبله .. وبالتحديد بالنسبة لعالم السياسة في البلدان العربية كافة .. لاسيما البلدان التي تحكمها الأنظمة الأكثر ا ستبداداً ، ورجعية ، وفواتاً . وقد تجاوزت أجواء ما بعد هذا المد ، الكثير مما كان سائداً قبله من مفاهيم وأطر واعتبارات سياسية متداولة مخادعة ، على مستوى السلطات والأحزاب الحاكمة ، وعلى مستوى الكثير من المعارضات ، وأعادت الاعتبار للقيم التي تحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها ، وأ سقطت ادعاءات كانت تطرح لتشفع لهذا النظام أو ذاك خطاياه وأخطائه ، أو تقدم المسوغات لتعليق المعارضة ضده .. أو محاولة ا ستدراج النظام ، على بساط الإحراج الأخلاقي ولعبة المنطق السياسي ، للقيام ذاتياً بالإصلاح المطلوب ، وأ سكتت كل من ينكر على الشعب السوري حقه في إحداث تغيير ثوري ديمقراطي اجتماعي عادل ، يشمل بالدرجة الأولى ، دمقرطة الدستور ، ورفع حالة الطواريء والأحكام العرفية ، وإشاعة الديمقراطية والمساواة في الحقوق ، وفرص العمل ، ومستوى عيش كريم ، وبناء وطن قوي بوحدته الوطنية وتآخي الجيش والشعب ، وحالت دون أن يستغرب أحد أو مصدر ، كائن من كان ، أن يحدد الشعب السوري خياراته ، وفق تجربته وقناعاته ، وخصوصياته ، لتحقيق هذا التغيير ، الذي كلما تأخر ، تزداد الأمور سوءاً على سوء ، في كل المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وتزداد الأسئلة المشروعة إلحاحاً :

– إلى متى يظل المواطن غير المنتمي للحزب الحاكم مواطناً من الدرجة الثانية وأقل ، في كل الحقوق والتعاملات الحقوقية والتمثيلية الأساسية والفرعية ، وذلك حسب دستور متحزب يفتقد لأبسط المباديء الديمقراطية ، وحسب مقتضيات حالة الطواريء والأحكلم العرفية وصلاحيات الأجهزة الأمنية اللامحدودة ؟ .

– إلى متى يظل حزب البعث مستأثراً بالسلطة وبحق قيادة الدولة والمجتمع ، واضعاً نفسه قبل الجميع ، وفوق الجميع ، في كل شيء في الدولة والمجتمع ؟ .

– إلى متى يظل المواطن محروماً من حرياته العامة وحقه في التعبير عن الرأي .. وحق التنظيم الحزبي والنقابي والجمعوي ، وحقه في اختيار حكامه ؟ .

– إلى متى يظل الاقتصاد وعوائد الاقتصاد حكراً على أهل النظام وشركائهم ، الذي اتخذ أخيراً النمط الأسوأ .. نمط اقتصاد السوق الليبرالي ، والذي تتجه محاوره ومداراته الأساسية لخدمة عتاة الرأ سماليين على حساب المجتمع كله ؟ .

– إلى متى يظل التمايز الاجتماعي الطبقي مستفحلاً ويزداد تفاقماً ، بحيث باتت مئات آلاف الأسر السورية تحت رحمة معونات حكومية هزيلة وتحت خط الجوع بعد خط الفقر ، وبات الفارق بين الأجور والأسعار يقضي على الحق بالكرامة أكثر مما يقضي على القدرة على تأمين الكفاف من الخبز والدواء والكساء .. وبحيث باتت حفنة من أهل الحكم تستحوز على ثروة ، تقدر ما بين 30 – 40 مليار دولار . أي مايعادل ميزانية الدولة الانفاقية والاستثمارية لمدة عامين ؟ .

وإذا كانت ” إلى متى ” تتصدر هذه الأسئلة ، فإن ” كيف ” تتصدر سؤالاً جوهرياً في الظرف السوري الراهن وهو :

– كيف سيتحقق التغيير الثوري الديمقراطي الاجتماعي العادل في البلاد ؟ .

لقد خاض السوريون المعارضون ، على امتداد نحو نصف قرن ، أشكالاً شتى من المعارضة المسلحة وغير المسلحة . بعضهم تعاطى في معارضته مع الهوى الطائفي ، وبعضهم الآخر تشبث بالديمقراطية . ودفعوا ثمن معارضة النظام ، قتلى ، وأحكام إعدام ، وسجون ، ومعتقلات ، ومناف ، وحرمانات لاتحصى . وأقاموا تحالفات .. وفشلت تحالفات . وخاضوا فيما بينهم سجالات ومناقشات ، حول البديل للنظام ، وحول معنى وحجم الديمقراطية ، وحول أولوية الاجتماعي أو الديمقراطية في التغيير وبالعكس ، وحول دور الخارج ومن هو الخارج الذي يعول عليه . وا ستهلك الزمن جيلاً وأكثر من المعارضة . وجاء جيل معارض جديد .. ولم يتمكن المعارضون السوريون من تحقيق التغيير وتبديل النظام .. وبقي السؤال الثنائي الأبعاد .. ” إلى متى .. وكيف ” معلقاً ..

حتى حدثت الثورة الشعبية في تونس في ( 14 كانون ثاني 2011 ) وقدمت بتجربتها الرائدة نمطاً للثورة ، الذي جمع بين اللحظة التاريخية ، المتمثلة بإشعال محمد بو عزيزي نفسه ، كحدث مفجر للمشاعر الغاضبة من الظلم المزمن ، وبين التراكم النضالي المشحون بالغضب ضد الاستبداد والفساد ، والذي جمع بين الاجتماعي والسياسي في المضمون الديمقراطي ، وأدى من خلال عنفوان الشباب ، والحشد الشعبي ، وتحرك القوى السياسية المعارضة ، إلى تحييد الجيش وهرب الديكتاتور .

ثم حدثت الثورة الشعبية في مصر .. وقدمت نمطاً ليس بعيد الشبه عن نمط الثورة التونسية ، من حيث ا ستخدام اللحظة التاريخية ، المتمثلة بمبادرة شبابية اعتصامية في ساحة التحرير يوم ( 25 شباط 2011 ) في تفجير ثورة شعبية عارمة ضد الاستبداد والفساد ، ومن حيث الجمع بين الاجتماعي والسياسي في المضمون الديمقراطي ، ومن حيث توظيف عنفوان الشباب والحشد الشعبي الهائل وتحرك القوى السياسية المعارضة ، ما أدى أيضاً إلى تحييد الجيش وتنحي الديكتاتور .

ثم حدثت الثورة الشعبية في ليبيا .. لتقدم تجربة ثورية أخرى . وهي تقدم الآن نمطاً ليبياً بامتياز . لم ’يتح تشبث القذافي الشرس بالسلطة لهذه الثورة حتى الآن ، أن تفصح عن ماهيتها الاجتماعية بشفافية . وا ستقر هدفها الأوحد على إ سقاط الديكتاتور . ربما مرد ذلك يعود إلى الاعتقاد الضمني لدى الثوار ، أن الاعتماد على الدخل النفطي الليبي الكبير كفيل بتحسين مستوى المعيشة المأمول ، أكثر من الاعتماد على بنية الاقتصاد بقطاعاته المختلفة عامة كما في مصر وتونس . ولم يتح الديكتاتور ” قذاف الدم ” للثورة أن تتمتع بالنمط الشعبي السلمي ، كما في مصر وتونس ، لتحقيق التغيير . وذلك لاستخدامه السلاح .. القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ضد الثورة . ولم ’يتح للثورة أن تحصل على حياد الجيش الليبي ، لأن هذا الجيش لم يبن كما هو معروف دولياً كجزء من بنية المجتمع ، وإنما تم بناؤه كتائب تابعة لعائلة الديكتاتور والمقربين جداً منه . ما أدى إلى أن تضطر الثورة للدفاع عن نفسها بحمل السلاح ، وإلى أن تتلقى الضربات الجوية والمدفعية وتتصدى للدبابات والصواريخ والمرتزقة .

وخلال نفس الزمن اندلعت الاحتجاجات الشعبية الواسعة في اليمن ، التي تتطور بسرعة إلى ثورة شعبية ضد الديكتاتور ” علي عبد الله صالح ” . وتصنع الجماهير اليمنية الآن ثورتها الشعبية أيضاً . وهي تحمل مضمونها الاجتماعي والديمقراطي ضد الاستبداد والفقر .. من أجل الحرية واللقمة الكريمة . وهي حتى الآن مصرة على التصدي الشعبي السلمي للدكتاتورية ، رغم الأساليب القمعية القذرة ، التي يستخدمها النظام ضدها . فمن جهة يرسل الديكتاتور الموالين له من أعضاء حزبه الحاكم المسلحين بالهراوات والسيوف ، لإرهاب وقمع المحتجين ، ومن جهة أخرى يرسل الحرس الجمهوري وقوات الأمن المركزي ، لتقويض وفض الاعتصامات بالقمع المفرط وبالرصاص الحي .. ويتساقط الشهداء .. آخر هجوم وحشي للنظام على المعتصمين كان صباح ( 12 آذار 2011 ) في ساحة التغيير في صنعاء . وقد ا ستخدم الديكتاتور في هذا الهجوم الإجرامي قنابل الغازات السامة المحرمة دولياً التي زودته بها أميركا ودول غربية أخرى لمواجهة ما يسمى الحرب على الإرهاب ، ما أدى إلى إصابة أكثر من ألف من المعتصمين بأعراض خطيرة حرجة تهدد حياة الكثير منهم بالموت .. وما زات الاحتجاجات الشعبية تشتد وتتسع وتتصاعد في مختلف المدن اليمنية مصممة على إ سقاط الديكتاور .

في البحرين وعمان والعراق والجزائر ، هناك حراك شعبي يتصاعد من أجل التغيير . وهناك قمع لهذا الحراك . لكن الجماهير الشعبية تواصل التظاهر والاحتجاجات . انتزعت جماهير الجزائر رفع حالة الطواريء في البلاد . وملك البحرين يقيل وزراء ويقدم مبادرات تراجعية أمام الجماهير . ونوري المالكي يتعثر مرعوباً ، من مآلات المطالب الشعبية في العدالة الاجتماعية ، وفي إنهاء الاحتلال الأميركي ومكافحة الفساد . . وسلطان عمان ، تحت ضغط الاحجاجات الشعبية المتصاعدة ، رفع الرواتب المنخفضة إلى الضعف ، ووظف الآلاف من العاطلين عن العمل .

المحصلة العامة للمد الثوري الشعبي العربي حتى الآن ، إ سقاط الديكتاتور ” بن علي ” في تونس ، وإ سقاط الديكتاتور ” حسني مبارك ” في مصر ، إ سقاط الشرعية الشعبية والعربية والدولية عن الديكتاتور ” القذافي ” وانحسار سلطاته عن معظم الأراضي الليبية ، واقتراب موعد الخلاص منه .. تنحياً .. أو هرباً .. أو اعتقالاً . رفع حالة الطواريء في الجزائر . إ سقاط التفرقة الطائفية في حركة الشارع الاحتجاجي المطلبي في العراق . تحول ميدان اللؤلؤة في المنامة إلى بؤرة تحرير البحرينيين من الفساد ومن الملكية .

لقد خلق المد الثوري الشعبي العربي مناخاً يتيح للشعوب العربية أن تنهض .. أن تسترد انسانيتها وحريتها وكرامتها ولقمتها الكريمة . وأرسل من تونس ، ومن ميدان التحرير في القاهرة ، ومن ساحة التغيير في صنعاء ، ومن بنغازي المحررة ، ومن ميدان اللؤلؤة .. أرسل ارتدادات لمفاعيل الثورات والاحتجاجات والاعتصامات ضد الاستبداد والقهر والفقر عمت كل الشعوب العربية وكل المدن العربية .. ووصلت هذه الارتدادات مضمونة حاملة توصية خاصة إلى دمشق تطالب السوريين ، الذين يعانون ، ليس أقل من معاناة التوانسة والمصريين والليبيين واليمنيين ، من الاستبداد والظلم الاجتماعي والفساد والغلاء .. تطالبهم أن يجددوا حراكهم الشعبي .. أن يفعلوا شيئاً .. أن يتحرروا .. أن يصنعوا هم أيضاً ديمقراطيتهم وعدالتهم الاجتماعية ومستقبلهم .

لقد جرت دعوات بالفيسبوك للقيام باعتصامات تضامنية مع الثورات العربية ، وجرت محاولات .. مبادرات متعددة في هذا المضمار ، لكنها حوصرت وقمعت من قبل الأجهزة الأمنية . وتظهر يومياً كتابات ودعوات وبيانات على شاشات المواقع الإلكترونية وصفحات الجرائد ، تدعو السوريين للحرك ضد الاستبداد من جديد ، وبعضها يحدد مواعيد وأمكنة لانطلاق هذا الحراك ، وكلها تشير إلى أن السوريين يتحفزون للقيام بالثورة .. لإجراء تغيير جذري حاسم في البلاد . على أن اللافت في معظم هذه الكتابات والبيانات والدعوات ، إما أنها نسخ صورة طبق الأصل عن ثورات حدثت في بلدان أخرى ، وإما أنها لاتزال تعمل بعقلية ما قبل المد الثوري الشعبي العربي وتجلياته المتعددة المتنوعة ، وإما يحمل ضمناً أو صراحة التمني على النظام أن يبادر بالإصلاح ” لتجنب البلاد ماهي في غنى عنه ” ، وإما مازال أسير مقولات التدرج السلمي كطريق أوحد للتغيير ، أو يعتبر الفيسبوك بديلاً عن الاتصال الحي بالمواقع والمراكز الشعبية .

غير أنه من أسف ، مع الاحتفاظ بأهمية الحدث المفاجيء المفجر ، ليس من المتوقع ، ضمن الشروط والظروف السورية الذاتية الراهنة ، أن ينطلق التعاطي الشعبي السوري مع ارتدادات المد الثوري العربي ، دون ا ستكمال عدد من الخطوات المستحقة . أهمها ا ستدراك النقص في التجانس البنيوي للقوى والتحالفات التي تتصدى لمهام التغيير ، وفي التحديد الملموس الشفاف للبرامج السياسية الاجتماعية المعارضة ، وفي المضمون الاجتماعي للمفهوم الديمقراطي ، وفي العلاقة مع الجماهير الشعبية .. التي شكلت الأساس في كافة الاحتجاجات والثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والعراق .. والتي ستشكل .. وبدونها لن يتشكل .. حراك شعبي احتجاجي ثوري في سوريا .

إن الواقع السوري يمتلك فيضاً من مقومات الاستجابة لاستحقاقات مناخ المد الثوري الزاحف في البلدان العربية . يمكن تلخيصها بما يلي :

– تفاقم العوامل الداخلية المتمثلة بالاستبداد ، والقمع ، والفساد ، وانخفاض مستوى المعيشة ، وتراكم مشاعر الظلم والقهر والاستلاب لدى المواطن ، يقابلها عجز النظام وا ستعصائه على الإصلاح .

– انعكاس المناخ الثوري المنتشر على امتداد الوطن العربي مبشراً بقدرة الشعوب على انتزاع حرياتها وإنسانيتها وكرامتها ، وصنع مستقبلها الديمقراطي القائم على المساواة في الحقوق والعدالة الاجتماعية .

– النضج ” المفترض ” لتجربة المعارضة السورية ، والآلام السياسية والاجتماعية التي كابدتها أجيال من المعارضين على اختلاف ألوان الطيف المعارض .

– ا ستعداد الشباب المتعلم الفاقد للرجاء بالمستقبل في ظل النظام القائم ، والقادر على مواجهة التحدي الديمقراطي عبر أجهزة الاتصال المتطورة ، للقيام بمبادرات محورية جريئة جديدة بمواجهة الانحباس السياسي والسطوة القمعية .

إن التوظيف الإبداعي لهذه المقومات ولغيرها مما يلفت إليها الواقع الشعبي .. يشجع على القول ، أن الشارع السوري لن يبقى زمناً أكثر ، خاوياً من الجماهير الغاضبة ، المطالبة بحقوقها الديمقراطية وبالعدالة الاجتماعية .. وعلى القول أن الثورة الشعبية السورية سوف تضع بصماتها في سجل ثورات الشعوب العربية الأخرى المعاصرة .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى