صفحات سوريةمحمد منصور

السوريون يتحولون إلى شعب من المصورين والمراسلين ويرمون إعلامهم الرسمي في سلة المهملات!

 


محمد منصور

يبدو أن السوريين اليوم، يكتبون ملحمة تحرر جديدة من نوع فريد سيخلده التاريخ من دون شك.

ملحمة ليست مليئة بالدم والدموع وحصار المدن وقصف الدبابات والمدرعات والموت تحت التعذيب في أقبية المخابرات وحسب، لكنها مستهدفة أيضاً بالتعتيم الإعلامي، وبميليشات إعلامية رسمية تتحول كاميراتها ومايكروفوناتها وكلمات مذيعيها وندوات استوديوهاتها ونشرات أخبارها، إلى حالة من التشبيح الأمني الذي لا يطالب مشاهديه بأي ذرة احترام، وهو يحرف الحقائق، ويفبرك الافتراءات، ويخون الشرفاء، ويمثل بجثث الشهداء، ويقتل القتيل ويمشي بجنازته، ويبارك عمليات القتل باعتبارها أعلى درجات الوطنية، ويصورها بوصفها أسمى حالات الحرص على الوطن.. والتضحية من أجل الوطن!

لم يحدث في أي بقعة من العالم أن قام نظام يواجه حملة احتجاجات شعبية، ويقوم بقمعها بعنف مفرط أو غير مفرط، بمنع حتى إعلامه الرسمي من تصوير أماكن الحدث… لم يحدث أن طردت كل وسائل الإعلام، وأغلقت المناطق، وعلقت التصاريح، ومنع المراسلون المعتمدون من دخول المناطق التي يفترض أن تدخلها الكاميرات كي تنقل ما تيسير لها من حقيقة تحت إشراف السلطات الممسكة بزمام الأمور نفسها.

حتى في حرب أفغانستان… وفي حرب احتلال العراق، وأثناء عملية السور الواقي وعناقيد الغضب وحصار جنين، وحرب تموز وحصار غزة، كان هناك إعلام يطمئن العالم إلى أن الجرائم إن حدثت لن تحدث وسط الصمت المطبق، والسيطرة المطلقة للجلاد على أصوات الضحايا وأنين الجوعى والمحاصرين. وحتى في تونس وفي مصر وفي ليبيا كان هناك إعلام ومراسلون… فأي شريعة غاب تحكم حق السوريين في المعرفة وفي نقل الصوت والصورة والألم وصرخات الاستغاثة، وأي مروءة إعلامية يمكن أن تشعر السوريين بأنهم لم يتركوا لقدرهم ومصيرهم كي يواجهوا نظاماً ضرب بعرض الحائط أبسط معايير التغطية الإعلامية، وراح يتحدث على هواه عن عصابات مسلحة وإمارات سلفية، ويصور ما يشاء من اعترافات تلفزيونية ليس لها أي قيمة قانونية في أي محكمة وأمام أي قضاء، وراح يصادر ما يشاء من كميات الأسلحة أمام كاميرات تلفزيونه، وترك العنان لأبواقه كي تخترع ما تشاء من روايات عن وزراء دفاع في إمارات سلفية، وعن أمراء كانوا يتأهبون للهرب على متن طائراتهم الحوامة، وعن كوماندوز إسرائيلي أخرج نائب تيار المستقبل عقاب صقر من بانياس في وقت سابق، وعن القبض على ضباط استخبارات عرب وإسرائيليين… وعن حبوب هلوسة ضبطت وعلى أكياسها شعار قناة الجزيرة… من دون أن يفكر بتقديم أي دليل جدي يقنع الأصدقاء قبل الأعداء بما يهذي به؟

سخر السوريون من سَفَه وجرائم إعلامهم … ووجدوا أنفسهم وحيدين في الساحة، فقرروا أن يبدعوا ملحمة كسر التعتيم الإعلامي بشجاعة وذكاء قلبت تلك المعادلة الظالمة رأساً على عقب. رموا كل وسائل الإعلام الرسمية والحليفة في سلة المهملات، أسقوطها من حسابهم ووجدانهم… وصنعوا لأنفسهم وسائل إعلام تواكب ملحمتهم الكبرى، التي لم تكن في أي لحظة من اللحظات مجرد مباراة ودية أو نزهة… صار المتظاهرون المحتجون هم المراسلون وهم المصورون وهم الشهود في اللحظة التي كانوا يستشهدون فيها أيضاً. استخدموا كاميرات هواتفهم النقالة التي طالما ابتزهم السيد رامي مخلوف بها، وسرق من جيوبهم على مدار سنوات أغلى أثمان هذه الخدمة وأكثرها ارتفاعاً عالمياً، ليجعلوا منها أدوات نقل الحقيقة التي عتم عليها إعلامهم وقلبها من النقيض إلى النقيض. وعلى شبكة الانترنت، أسس مجموعة من الشباب السوريين على موقع التواصل الاجتماعي شبكة أخبار حملت اسم (شام) استطاعت بإمكانات بسيطة وعلى صفحة فيسبوك مجانية، أن تهزم ترسانة إعلامية من قنوات التلفزيون السوري والفضائية السورية والإخبارية السورية، التي تصرف عليها مليارات الليرات.. فنقلت الخبر أولا بأول، والصور والفيديوهات حدثاً بحدث، وشهيداً بشهيد، وحصارأ بحصار، ومجزرة بمجزرة… وفنّدت أكاذيب الإعلام السوري أكذوبة أكذوبة… حتى صار شعار هذه الشبكة يظهر على شاشات كبرى المحطات التلفزيونية يومياً عشرات المرات، لينافس أشهر وكالات الأنباء العالمية، ولتصبح هذه الشبكة مصدراً للخبر المصور تعتمده المحطات عبر تحميل الصور التي تنشرها شبكة (شام) على صفحتها يومياً، معتمدة معايير بسيطة وواضحة لتحديد تاريخ الخبر ومكان التقاط الصور، عبر معرفتها الشاملة بالجغرافيا المحلية.

وشبكة (شام) ليست استثناء، فقد أبدع السوريون آلاف الصفحات على شبكة الانترنت كي يخوضوا معركة الحياة أو الموت التي يواجهونها… ففي كل مظاهرة، وفي كل شارع، وكل زاوية ومن على شرفة كل بيت، ووراء ستار كل نافذة، ثمة عين ترى الجريمة، وكاميرا موبايل تصور، وثمة صور تحرج هذا الإعلام الرسمي الذي خرج مجموعة من السوريين في منطقة برزة بدمشق، ليقولوا رأيهم الحقيقي فيه، فشكلوا فرقة عراضة شامية لشتم هذا الإعلام، وقول رأيهم الصريح في أبواقه، وقاموا بتصويرها في فيديو بدا أشبه بندوة شعبية لتقييم هذا الإعلام الذي ما زال يصر على ألا يستضيف في استوديوهاته إلا من يمدح جرائمه الموصوفة باعتبارها واجباً وطنياً يرفع الرأس، ومن يتهدج صوته حتى البكاء من فرط تصديقه لرواية العصابات المسلحة والإمارات السلفية.

وهكذا استطاع السوريون وهم على مقربة من رصاص القتل أن يكونوا الشهداء والشهود، وتمكنوا من أن يمدوا المحطات التلفزيونية بالصور الحقيقية التي تبقي قضيتهم في دائرة الحدث والضوء والمتابعة اليومية… وكثير منهم اعتقلوا وعذبوا أو قتلوا في الشوارع لأنهم ضبطوا وهم يصورون ما يجري… فالصورة ليست لقطة تذكارية لسائح عابر، لكنها صرخة الألم التي تنطلق من صدور أبناء البلد، وهتاف الحق ضد التعتيم الإعلامي الذي باستطاعته في ما لو تمكن أن يمنع تدفق الصور، أن ينكر طلوع الشمس في وضح النهار من دون أن يرف له جفن.

وفي موازاة ذلك… انطلق العديد من الشباب السوريين كي يبدعوا أفلاماً وثائقية قصيرة، وكي ينجزوا ‘سلوغات’ ساخرة تكمل خطابهم الإعلامي الخاص… فصنعوا أفلاماً عن شهداء، وأنجزوا تقارير إخبارية عن ظواهر القمع، وصاغوا من تلك الصور أعمالا فنية تعبر عن الحقيقة وتفضح الزيف، وأنجزوا العديد من الأعمال البصرية التي فندوا فيها كذب الإعلام السوري، أو بعض الفيديوهات المفبركة التي تنجزها جهات أمنية وشركات فنية تابعة لمتنفذين، وتنشر على موقع اليوتيوب لخلط الحابل بالنابل وتشويه سمعة الثورة… الأمر الذي دفع الجهات التي نشرتها إلى رفعها وحذفها بعد انكشاف حقيقتها.

أجل أنها ملحمة من نوع فريد، يبدع فيها السوريون إعلام الحقيقة بأدوات بسيطة وشجاعة نادرة، وفكر وثاب، وروح حرة عظيمة… روح تقول للعالم كله: انظروا نحن لسنا الشعب الذي يهتف ويصفق وينحني ويخرج في مسيرات تأييد كالقطيع، ونحن لسنا الشعب الذي عدل نوابه الدستور في أقل من ربع ساعة قبل أحد عشر عاماً، ونحن لسنا الشعب الذي يقول للسيد الرئيس: (مطرح ما بتدعس وتدوس… نحنا بنوطي ونبوس) ونحن لسنا الشعب الذي يريد قائداً إلى الأبد خارج كل أعراف الحكم والسياسة والتداول السلمي للسلطة. إننا هؤلاء الذين ينزلون إلى الشوارع بصدور عارية، والذين لم تستخدم السلطات ضدهم حتى اليوم أي رصاص مطاطي لأنها لا ترى أي حرج في استخدام الرصاص الحي… ونحن الشعب الذي يعتقل الآلاف من أبنائه كل أسبوع، ويقضي أبناؤه شهداء تحت تعذيب وحشي… نحن الشعب الذي لا مستشفيات لجرحاه، لأن مستشفياتنا صارت معتقلات، وسيارات الإسعاف تنقل بعض الجرحى إلى فروع التحقيق فوراً، ونحن الشعب الذي لا حصة له في إعلامه، ومع ذلك فكل هذا لم يفت من عزيمتنا، ولم يرهبنا، إننا شعب نستحق الحياة. ونستحق أرقى أشكال الحياة: حياة العزة والكرامة والكبرياء.

نشرة أخبار الحياة الطبيعية!

في يوم الجمعة الماضي الذي سمي (جمعة الحرائر) وبينما كانت كل المحطات الفضائية تعرض صور المظاهرات التي خرجت في أكثر من عشرين مدينة وبلدة، بما فيها محافظات كبرى كدمشق وحمص وحماة، كانت نشرة الأخبار في الفضائية السورية وعلى مدى ما يقرب من ساعة كاملة، تنقل صوراً لشوارع فارغة إلا من بعض المارة، وكانت تؤكد أن الحياة تجري بشكل اعتيادي لا أثر فيه لأي دعاية مغرضة، وكان جميع من أجرى التلفزيون لقاءات معهم في نشرته التاريخية يؤكدون في جوقة موحدة وعلى لسان واحد: ‘ما في شي أبداً… الحياة طبيعية جداً’.

لا يفهم المرء الخبر فإذا كانت الحياة طبيعية جداً والشوارع شبه فارغة، والناس لا هم لهم إلا التسوق وشراء الخضراوات والفواكه والخروج للنزهات، فأين هو الخبر… بل لماذا تكون هناك نشرة أخبار بالأساس؟

وإذا كان الخبر ليس فيه خبر في نشرة أخبار التلفزيون السوري، فإن الحوار ليس فيه أي معنى من معاني الحوار أيضاً.. ذلك أن التلفزيون السوري ما زال مصرا على مواكبة الأزمة بحوارات يتفق فيها المتحاورون على كل شيء منذ أول سؤال. المفردات نفسها بين السائل والمجيب، الرؤية ذاتها، حمى تكذيب الحقيقة ذاته، الخلط الفاجر بين بقاء الوطن وبقاء النظام ذاته.. بحيث أن أحداً لا يجرؤ على أن يسأل نفسه: إذا حدث مكروه للنظام هل ستزول سورية من على الخارطة؟! لقد رحل حسني الزعيم وشكري القوتلي وهاشم الأتاسي وأديب الشيشكلي… و…و… لكن سورية بقيت، لم تذب من على الخارطة، ولم تتبخر تحت الشمس… ولم يرم أبناؤها أنفسهم في البحر… فلماذا هذا النظام فقط هو الذي سيحمي سورية من الزوال؟

ناقد فني من سورية

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى