صفحات الثقافةمحمد كتيلة

السوري الحر الآن، هو أول الفلسطيني في قبضة الإحتلال


محمد كتيلة

السوري الحر الآن، في لحظات التدوين والخلق والتكوين والولادة الجديدة، بين الأنقاض وفوق الركام والآلام التي لا تحد،  الممزق المرهق، اللاهث الهارب، الناهض الراكض من موت إلى موت على نصال السكاكين والرصاص والقذائف، بقدم طفلة أو طفل واحدة، بلا يدين، مقطوع الرأس والأهل، يدور حول قلبه المطعون وقلعة روحه، ولا يدري إلى أين يمضي ومن أين، تحت شمس الغروب الكالحة والشروق المتوهجة بالدم … وليد الجراح والكفاح، الباحث المستجد المستعد للقاء الغد الخالي من الغرباء والأعداء، بإفناء الجسد لأجل إستعادة الروح في خضم مأساته الكبرى، وفي المواجهة اليومية الدامية اللامتكافئة مع أجبن جبناء الأرض، هو هو ذاته المحصنة من النكوص أوالتراجع، والمشروخة بكل أدوات القتل والصلب والمجازر والحرق والتدنيس والإغتصاب وانتهاك المقدسات والحرمات والطبيعة والتاريخ… هو أول الفلسطيني في قبضة الإحتلال والغزو الوحشي الأول، وانفتاح الجرح بالعمق، وفي كل أبعاد الجسد والإتجاهات على ملح الأيام، وما ستفضي إليه ليالي الغربة والنكبة القاهرة الجائرة وتواليها، من تشرد وتمزق وضياع في أصقاع العالم، ومن لجوء إضطراري مخيف ومرعب، إلى دول الجوار المشقية بسفاحيها، والعيش المزري والمخزي في حماية العراء والخيام، عرضة لسموم الصحراء وضواريها، من فرسان الحدود، أمراء الحرب والتهريب وتغريب البشر، تجار السلاح والجسد والوطن.

وهو آخر الفلسطيني في إنتظاره الطويل الصعب، في رحلة الشقاء المرير والمسير الدموي الذي لا ينتهي ولن ينتهي إلا في زوال الإحتلال الغاصب.

والسوري كأخيه الفلسطيني ، وجد ذاته المقهورة في قلب الأزمة والصراع، وقد تأخر عن موعد عودته إلى ما كان عليه قبل الإحتلال وإلى ما كان يجب أن يكون، وانفصل فصلاً تعسفياً جائراًعن بيته المنهوب وعائلته الصغيرة والكبيرة المنكوبة، وكأنه وبالصدفة الغريبة صار مركوناً كالفلسطيني خلف ساحات الحرب الحقيقية، كشاهد وشهيد وعرضة للنسيان والذوبان في مقصلة الذاكرة، بعد كل مذبحة ومجزرة ومقتلة.

لقد أحسن السوري الحر الأبي ختام صمته الطويل، وأبدع بما لا يدع مجالاً للشك والظنون، في قلب صورة الماضي البائد البائس التعيس، بإنفجار الروح وصمودها الأسطوري وصعودها فوق الظلام … تحول من شعب، كم ظننا أنه استكان واستسلم للظلم من شدة القهر والعذاب وانعدام القدرة على النهوض، إلى شعب آخر وآخر ومختلف كل الإختلاف، شعب وجد في الموت سبيله وسلسبيله الوحيد ليطل على حياة ليحياها، لا لينساها، بشروطها الطبيعية والعادية البسيطة، لا قهر فيها ولا ظلم ولا هلاك.

السوري اليوم، خصم الماضي، الجديد العظيم الأشم، العاري من الخوف، الوحيد الأعزل، النازف المدمى، الواقف بكبريائه وسط سعير النار وصمت العالم المدوي من حوله، وبعد أن أضحت بيوته في الكثير من المدن والقرى فزاعة للعصافير واستراحة للطيور المهاجرة، ومأوى للقوارض والشبيحة والأشباح…. هو وردة الحياة والموت التي خُلقت من ضواحي العدم وخاصرة المستحيل… هو جنين الماضي البعيد، الذي تخلق في ظلال أحشاء العذابات المريرة ومتاهات الصمت الموحشة .. هو الآن، على الأرض وفي السماوات، غيره تماماً، ويفشل السوري، أي سوري كان فشلاً ذريعاً، في أن يرى إلى ذاته تذهب إلى عصر الظلمات والتصحر والتسلط والبغي والعهر السياسي والدجل، ولن يجهد نفسه طويلاً في المحاولة أو المتابعة العبثية، خشية الغثيان من رؤية دمامة وجهه في قفص العبودية والمذلة ،والموت الرخيص البطئ االذي كان.

السوري اليوم، إبن اليوم هذا والآن، ومنذ أمس آذار الذي بشر بالفجر، وفي كل ثانية موت ولأيام مشؤومة قادمة حبلى بالخراب والدمار، فوق كل ما هو مخرب ومدمر، هو الوجه الآخر للفلسطيني في صراعه الملحمي مع العدو/عدو الحياة،  وفي مواجهة الحصار والنار المستعرة من كل صوب وفي كل قلب، وفي جميع الديار السورية التي تآكلت أرواحها وذبحت أطفالهاوأحرقت بمن فيها وما عليها، وإن إختلف إسم العدو المتغطرس الهمجي الشرس وتباينت أهدافه، إلا أنه وفي الجوهر والصميم واحد ومتحد، وكل منهما سيمضي في نهاية الحرب إلى نهايته ، إن لم يكن الآن، في هذه المرحلة الحرجة الطاحنة الفاصلة، فهو لا بد آت ولو بعد حين، ولو بعد ملايين الضحايا وتشويهات الوطن وخراب البلاد .

وما يشغل بال السوريين في محنتهم ورحلة الشقاء القاسية، في مواجهتهم اليومية  الدامية لحليف الموت،هي ذاتها ما يؤرق أحوال الفلسطينيين ومعيشتهم وأينما شردوا وعذبوا، وأينما كانوا ووجدوا وبأدق التفاصيل ومناحي الغربة…وموت كل طفلة/ طفل سوري بيد الغزاة البرابرة، هو شقاء ما بعده شقاء لكل فلسطيني مجرب، يسعى ليحيا الحياة لمرة واحدة فقط… فإذا ما نظر الفلسطيني اليوم في المرآة، لن يجد اليأس محملقاً وفي يده مطرقة التعنيف، بل سيرى ماضي وجهه متوهجاً فتياً صارخاً متحدياُ في وجه كل ثائرة/ثائر أبي حر في بابا عمرو وينسى أنه كان يوماً ما في جنين…. لن يلحظ الفارق بين عدو وآخر، فالعدو الذي لا يحمل في جيناته وطبعه وصفاته إلا أحط السفالات والرذائل وكل مبتكرات الجرائم والفظائع، وما يجعل الإنسانية في حالة إعياء دائم  وإغماء لا شفاء منه ولا رجاء، لن يُمكنك هو أن تنظر إليه بأقل من عدو…وكلما تفرس الفلسطيني أكثر في المرآة، سيجد وجهه السوري ناضحاً واضحاً، وإن كان مدمياً مثخناً بالجراح، و سترجع إليه  قوته التي صودرت منه عبر الحدود والموانع الشائكة، في نهارات وليل أسود وفهود العرب .

أما السوري الحر الجديد الآن، في صحبة الموت والفجيعة، لن يشعر بخيبة أمل إذا ما تعمق جيداً بالمرآة واكتشف في أعماق أعماق وجهه وروحه، ملامح فلسطينية  كانت مغيبة عنه بالإكراه وبالعسف وبالعقاب الشديد، وسيشكر الرب على ما اجتمع في وجهيهما من شبه، وما في الروح من تماسك وإرادة قوية صلبة ، في جحيم الأحداث الجثام، وتجربة الموت والمعاناة من أجل حرية طال إنتظارها، وها هي تشرف ومن دون خجل، من وراء سحب الدخان الداكنة وجميع الضحايا الذين سرحوا من الحياة من أجل سلطان جائر، وباتوا أمانة مشرفة لا يصعب حملها، في الأعناق والقلوب، وعلى أكتاف كل ضمير حي، وليس المهم من يكون، المهم أن  يتواجد وأن يكون.

كاتب فلسطيني يقيم في كندا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى