صفحات العالم

السير إلى الهاوية


حازم صاغيّة

في السجال التاريخيّ بين لبنان والأنظمة العسكريّة التي تعاقبت على سوريّا منذ الخمسينات، كان هناك موضوعان ثابتان: الأوّل منهما مسألة الصحافة وحريّاتها وحقّها في انتقاد الحكومات القائمة في دمشق، والثاني قضيّة اللاجئين السياسيّين السوريّين ممّن ينتقلون للعيش في لبنان هرباً من الاضطهاد.

ومن دون مبالغة يجوز القول إنّ هذين الموضوعين شكّلا، معطوفين على المطالبة بربط السياسة الخارجيّة للبنان بسياسة سوريّا الخارجيّة، جوهر العلاقات النزاعيّة بين البلدين. ويكاد لا يوجد السياسيّ السوريّ الذي لم يشكُ، في هذه الفترة أو تلك، حريّات الصحافة اللبنانيّة وعيش لاجئين ومنفيّين في لبنان بعدما هُجّروا من بلدهم.

والراهن أنّ مسألتي الصحافة واللاجئين السياسيّين تندرجان تعريفاً تحت عنوان الحرّيّة. وهذا التمسّك بالحرّيّة إنّما كان يجد تسويغه في التركيب التعدّديّ للمجتمع اللبنانيّ وقيام سياسته على الديمقراطيّة البرلمانيّة. لكنّ ذلك استند أيضاً إلى أنّ الكثير من الأدب السياسيّ اللبنانيّ إنّما قدّم نفسه كمعبّر عن الحرّيّة في هذا الشرق الموصوف بالاستبداد والأحاديّة. ومن هذا القبيل سبق لبعض المثقّفين اللبنانيّين (ميشال شيحا مثلاً) أن طوّروا نظريّة “لبنان الملجأ”، فيما كان الإعلام الغربيّ يسمّي لبنان، قبل حربه الأهليّة في السبعينات، الديمقراطيّة الوحيدة في العالم العربيّ. ذاك أنّ التوكيد على الحرّيّة في الداخل كان غالباً ما يشكّل الوجه الآخر للانفتاح المطلوب على العالم المتقدّم والحرّ.

الآن، وفيما تباشر تونس وربّما بعد حينٍ بلدان عربيّة أخرى اللجوء إلى صناديق الاقتراع، نجد لبنان يتخلّى عمّا سبق لأهله أن تغنّوا به ونسبوه حصراً إلى أنفسهم. فمن تسليم اللاجئين السوريّين إلى غضّ النظر عن خطفهم، يبدو أنّ شطراً أساسيًّا من اللبنانيّين قد انحاز إلى النظريّة العسكريّة السوريّة في ذاك السجال التاريخيّ الشهير. ولمّا كان الشطر المذكور هو قاعدة السلطة القائمة اليوم، جاز القول إنّ “أعلى المستويات” في بيروت هم الذين يتولّون نقل البلد من ضفّة الحرّيّة إلى ضفّة الاستبداد.

في هذا المعنى يصير القلق واجباً مرّتين، مرّة لأنّنا نسير بعكس التيّار الذي يشقّ طريقه، ولو على نحو متعثّر، في المنطقة العربيّة، ومرّة أخرى لأنّنا، بقيادة السلطة ومعها جزء معتَبر من المجتمع، نغيّر ما هو أساسيٌّ في التكوين السياسيّ اللبنانيّ. وهذا ما يصعب وصفه بغير السير نحو الهاوية!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى