صفحات الثقافة

إلى إليانا طبعاً!/ تمّام هنيدي

 

 

 

يوم كانت لنا بلاد، كنتُ أتأبط حقيبتي، كأنما قدمايَ على أهبة السفر. كنت أحملها دائماً، إلى المطبخ، إلى الحمّام حيث قرأتُ الكثير من الكتب، إلى الجامعة، إلى البيت، إلى المقهى، إلى الحانات التي عرفت وجهي طفلاً في زحام الوجوه المسنّة.

كنتُ أحمل حقيبتي إلى الملاعب حيث يشتم الجمهورُ اللاعبين والمدرّبين والحكّام وكلّ شيء، ويغضّون طرفاً عن صورة الرئيس في الاستاد.

ومثل شاعرٍ ركيك حين سألتني صبيّةٌ أين أسكن، قلتُ ظانّاً أني أقدّم فتحاً فكرياً: في هذه الحقيبة! حيث فرشاة أسناني، ثيابي الداخلية، كرّاسي الجامعيّ، الكتاب الذي أقرأه، ودفتر الملاحظات. لكنّني، مثلما ينتظر صيادٌ في نهر بردى سمكةً تسبح في ماء الليطاني، ظللتُ منتظراً. لم يمرّ قطارٌ واحدٌ يهزّ صنّارة صيدي، ويذهب بي لمرّةٍ واحدة. فقط لمرة واحدة!

لم أكن أعلم أن القطار سيجيء، عندما سأستلقي تحت دالية العنب قرب البيت، لأحاول فهم وقوف الدبّور على الحبّة التي أشتهيها، تاركاً حقيبتي لغبار الرفوف!

لم أوضّبها كما ينبغي، تركتُ الكتب، وثياب الشتاء وأكثر الأغراض، وظننتُ أنّ قميصاً صيفيّاً أو اثنين يكفيان إلى أن أعود.

شتاء الاسكندريّة الوقح كان أول من قال لي: يا لسذاجتكَ!

حينذاك، اشتريتُ سترة للشتاء، وأصبحتُ مهاجراً.

مثلُ هذا تماماً، مثلُ هذا كله، كأن يسأمَ شابٌّ قلبَهُ المعطوب فيرميه، فيباغته الحبّ من الخاصرة.

كأن يحلم سوريٌّ بالفجر بعدما أعتمت عيناه، فيجيء ليلٌ طويل، ثمّ يحلم بالليل فتجعل القذيفةُ كلّ وقتٍ نهاراً.

مثلُ هنديٍّ لم تخرج أفعاهُ على صوت الناي ليصفق الحاضرون. هكذا تأتي المفاجآتُ عادةً. كان على هذا كلّه أن يحدث كما حدث تماماً. كان على الهنديّ أن ينتظرَ أفاعي اعتاد خروجها (لولا الضوء الذي خرج من الجرّة لكان الهنديّ إلى اليوم يعزف وينتظر التصفيق!)

على السوريّ أن ينتظر الفجر، ثمّ ينتظر الليل، ثمّ… لا ينتظر. وكان عليّ أن أفكّر في الدبّور وكيف يسرق حبّة العنب التي أشتهيها، وأن أترك هاجس حقيبتي، والحقيبة للغبار. لكي أستطيع الآن، أن أرى الطريق في اتجاهين، وأن أرى الغياب قريباً دائماً مثل الحضور، لأحتفل كما ينبغي بهذا اليوم الذي، كأنّه اليوم الأخير في الحياة.

لو طلب أحدهم مني أن أكتب عبارةً كيف حصل هذا كلّه، لكنتُ فكرتُ قليلاً، وابتسمتُ، وشربتُ القهوة مع الهال، كتلك التي أحبّها ولا تحبينها، وقلت: مثل مسافرٍ جاء قطارُهُ بعدما رمى حقيبته.

هكذا تجيئين، فأقتنع أنّ الحياة أكثر جمالاً بلا حقائب.

شاعر سوري مقيم في أسوج

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى