صفحات العالم

مقالات تتناول الوثيقة التي قدمها الأخوان المسلمون في سوريا(مشروع عهد وميثاق)

ما الذي فعله إخوان سوريا؟
طارق الحميد
الوثيقة التي قدمها الإخوان المسلمون في سوريا (مشروع عهد وميثاق) والتي تقول بمدنية الدولة بعد بشار الأسد، وحق الأقليات والمرأة، وضمان ألا تكون ديمقراطية سوريا تعسف الأكثرية على الأقلية، ليست حدثا سوريا فحسب، بل هي ثورة الإخوان أنفسهم الذين ألقوا بصخرة كبيرة في ماء الإخوان الراكد بكل مكان.
إخوان سوريا أثبتوا أنهم غير، مثلما يقال بأن سوريا غير، لكنهم أيضا وجهوا رسالة واضحة للتنظيم الأم، وتحديدا في مصر، وباقي دول العالم العربي، وكذلك إخوان الخليج، الواضحين منهم والمخادعين.. فما قدمه إخوان سوريا في وثيقتهم هو رسالة تطمين لكل أطياف المجتمع السوري، وكذلك للمجتمع الدولي، لكنهم أيضا ضربوا عصافير بحجر، مثلما أنهم حطموا مفاهيم كانت هي نقطة إدانة الإخوان، في كل مكان.
وثيقة إخوان سوريا تعني أن الدولة هي الوطن الأم، وليس مفهوم إلغاء الدولة، أو «طز في مصر» كما قال ذات مرة مرشد إخوان مصر. وبالتالي، فإنه لا بيعة، أو هكذا يفترض، للمرشد، وإنما هناك عقد اجتماعي بين الدولة والناس، وشرعه الدستور. وثيقة إخوان سوريا أيضا تعني أن الدين لله والوطن للجميع، فلا إقصاء، ولا مزايدات، وإنما يكسب سدة الحكم من يقدم مشروعا تستفيد منه الدولة، ومواطنوها. فشعار «الإسلام هو الحل» لا يسدد فاتورة جوال، ولا يفتح مدرسة، وإنما العمل، والتفاني، وفق رؤية واضحة، وعبر مفهوم التعايش المشترك، والتواصل مع المجتمع الدولي، هو الذي يبني دولة، لا أن تكون سوريا منبوذة دوليا، وحليفة لساكني الأقبية، والكهوف، على غرار حسن نصر الله، ومن هم على شاكلته.
وثيقة إخوان سوريا رسالة مهمة لإخوان مصر الذين يسيرون على نفس خطى نظام مبارك، حيث الإقصاء، والاستئثار بكل شيء، وحتى لو كان بصناديق الاقتراع. فالقضية هنا هي قضية بناء وطن، وليس استغلال اللحظة، فالأوطان لا تبنى باستغلال اللحظات، وإنما ينفع ذلك في الحروب، أما بناء الدولة، وكتابة دستورها فليس بمعركة، بل هو رؤية مستقبلية، حيث تكتب الدساتير للمستقبل، وليس للماضي.
ومن هنا، فإن وثيقة إخوان سوريا مهمة، ورسالة تطمين للسوريين، بجميع مشاربهم، وأديانهم، وطوائفهم، مثلما أنها مطمئنة للجوار السوري، وتحديدا لبنان والأردن، أما العراق فهو من يحتاج إلى تطمين السوريين، وليس العكس. وعندما نقول إن وثيقة إخوان سوريا مطمئنة، ومتقدمة، ولو على الورق، فلأنها جاءت متقدمة على رؤية كل الإخوان في المنطقة، وإن لم تكن أكثر وضوحا من رؤية إخوان تركيا، فهي تقاربهم، كما أنها ستكون مطمئنة للمجتمع الدولي، وبمثابة المشذبة لأي تيار إسلامي آخر في سوريا. فمن يشذ سيكون لونه صارخا، كما أن تلك الوثيقة ستشكل انفراجة لكل من اليمن وليبيا وتونس، ورسالة إحراج لإخوان مصر، لأن نسختهم تبدو الأكثر تأخرا. أما خليجيا، فإن الوثيقة تعد بمثابة الجرس لهم، فها هم إخوان سوريا، وبعد عقود من الصراع مع النظام الأسدي يقرون بمفهوم الدولة، والحقوق، للمرأة تحديدا، والأقليات، فما بال إخوان الخليج المستقر يريدون نقض مفهوم الدولة والمواطنة؟!
حقا.. إنه حدث كبير!
الشرق الأوسط
وثيقتان أزهرية وإخوانية.. بطعم الربيع
وسام سعادة
يمكن القول، بالاستناد الى وثيقة “مستقبل مصر” التي أعلنها شيخ الأزهر الشيخ احمد الطيب في حزيران الماضي، ووثيقة “عهد وميثاق” التي أعلنها الإخوان المسلمون السوريون قبل يومين، من اسطنبول، أننا فعلا أمام متغير نوعي، بطعم الربيع، وأنه متغيّر يتجاوز تعديل الأسلوب، ولو كان التأسيس لمرحلة جديدة يحتاج الى ما يتجاوز الوثائق.
واذا كان ثمة مشترك أساسي بين الوثيقتين الأزهرية المصرية والإخوانية السورية، يتصل بتبني مقولات الدولة الوطنية المدنية الدستورية القائمة على التعددية وتداول السلطة والفصل بين السلطات، فان التمايز بين الوثيقتين يستحق أيضاً الالتفات اليه: فالمؤسسة الازهرية ما زالت متقدمة وبأشواط نوعية عن خطاب الإخوان المسلمين المصريين، في حين ان الإخوان المسلمين السوريين باتوا بوثيقتهم الاخيرة متقدمين على كثير من العلمانيين السوريين، بما في ذلك بعض الاوساط المعارضة.
أما المستوى الآخر من التمايز فهو ان الوثيقة الازهرية تقرأ أيضاً، وربما قبل اي شيء آخر، من زاوية البندين العاشر والحادي عشر فيها المتضمنين تأييد مشروع استقلال مؤسسة الازهر وعودة هيئة كبار العلماء واختصاصها بترشيح واختيار شيخ الازهر والعمل لتجديد التعليم الازهري” و”اعتبار الازهر الشريف هو الجهة المختصة التي يُراجَع فيها في شؤون الدين وعلومه”، في حين ان اهمّ ما في الوثيقة الإخوانية السورية هو الحديث عن”الاسرة السورية الكبيرة” التي تحتاج الى “المصالحة الوطنية الشاملة” والى “عقد اجتماعي جديد” بعد سقوط النظام البعثي الفئوي الدموي.
لسنا اذاً أمام نموذج نمطي واحد للدولة التي تصفها الوثيقتان بالمدنية. الفصل بين السلطات الدستورية يتكامل في الوثيقة الازهرية مع استقلالية المؤسسة الدينية المرجعية من بعد اعادة تعريفها كمؤسسة اجتهادية لا تصادر الرأي. فالاساس التاريخي هنا ان الدولة الحديثة المصرية قائمة، وانه في مكان ما ينبغي “استكمالها”، لكن في مكان آخر ينبغي “احياؤها”.
اما الاساس الفكري بحسب نص الوثيقة فيقيم تعارضاً جوهرياً بين الديموقراطية التمثيلية بوصفها “الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الاسلامية” وبين “الدولة الدينية الكهنوتية” المرفوضة دينياً.
في المقابل، تكفي قراءة الوثيقة السورية للتنبه الى امر اساسي: الدولة المنشودة في سوريا تستدعي التأسيس بما يكاد يكون من عدم، والتأسيس بدوره، يتطلب المزاوجة الضرورية قدر ما هي صعبة بين مهام الثورة وبين شروط المصالحة الوطنية، اثر اسقاط اولى حلقات النظام الفئوي الدموي القائم: العائلة الاسدية المخلوفية التي باتت اسابيعها معدودة في رأس السلطة، خصوصا اذا ما احسنت قوى الثورة السورية استثمار الروحية الإخوانية الديموقراطية، واذا ما احسن الإخوان انفسهم السير قدماً بمندرجات وثيقتهم على صعيد الترابط الكفاحي الميداني والعمل الجبهوي المشترك في المرحلة الانتقالية، واذا تناسب ذلك مع زيادة الضغط الدولي على النظام المتهالك، وفي مقدمة ذلك كلمات اكثر حزما من اي وقت آخر ينطق بها الرئيس الاميركي باراك اوباما، ولا ننسى رفع درجة التنسيق التركي – العربي المحوري…
أمر آخر: الوثيقتان الازهرية والإخوانية السورية تذكراننا كلبنانيين بوثيقة كان لها باع اساسي في تحرير بلدنا من عتمات الوصاية البعثية الكارثية، عنينا بذلك الارشاد الرسولي من اجل لبنان. هي اذا وثائق ثلاث حيوية وفعالة لتسفيه ودحض منطق تحالف الاقليات، ولدفع ابناء الاقليات الى التفكير مجددا في الكيفية التي تمكنهم من الانخراط النوعي والنقدي والمتميز في هذا الزلزال الربيعي العربي. فالمسألة لا تتصل هنا فقط بتحرير ابن الاقلية الفلانية من التفكير الاقلوي او من التفكير التحالفي بين الاقليات، انما بالدفع باتجاه ربيع تجديدي داخل كل اقلية: فالاقلية التي يروج داخلها الخوف من رحيل السجان الكبير، او من قدوم سجان جديد، انما هي ايضا اقلية تسجن نفسها بنفسها من خلال سجن صغير وسجان صغير او مجموعة سجانين صغار، وليست واحة لديموقراطية داخلية مزعومة تخاف على نفسها من ديموقراطية المجموع.
المستقبل
مع وثيقة “الأخوان” وضد وثيقة “الحزب”
شارل جبّور
تشكّل الوثيقة الصادرة عن “الأخوان المسلمين” تحت عنوان “عهد وميثاق” نصّاً مرجعياً، ليس فقط على المستوى الإسلامي، إنما على المستوى الانساني العالمي، خصوصا أن النص-البيان مكثّف لدرجة أنه يصعب معه اجتزاء أو اختصار سطر واحد، أو حتى حذف مجرد عبارة واحدة.
ولا حاجة للعودة إلى ما تضمنه النص على مستوى الدعوة إلى إقامة دولة مدنية تضمن التعدد والتنوّع والمساواة، وتقيم أفضل العلاقات الندية مع أشقائها، وفي مقدمتهم لبنان الذي “عانى شعبه وَيلات نظام الفساد والاستبداد”، كما لا حاجة أيضا للدخول في متاهة الحكم على النوايا والتشكيك بصُدق ما صدر، وبالتالي الذهاب إلى حد التمييز بين الأقوال والأفعال…
فالمهم أننا أمام نصّ تاريخي، ومن لديه الأفضل فليتفضل، وإذا كان “حزب الله”
يعتبر أنّ ما تقدم لا يخرج عن سياق المناورة السياسية للالتفاف على الرئيس السوري عبر المزايدة الأخوانية بالدولة المدنية التي لا تنصّ على أن “دين الدولة الإسلام” أو “دين رئيس الدولة الإسلام” كما ورد في الدستور الذي وضعه بشار الأسد، فما عليه سوى أن يتقدم بوثيقة أفضل تحاكي تطلعات شعوب المنطقة، وهذا الأمر يَسري على كلّ مَن يدور في فلك الحزب.
صحيح أن الحكم يجب أن يكون على الأفعال، إنما هذا الحكم يأتي طبقا للمانيفست السياسي الذي يضعه هذا الفريق أو ذاك، ويدعو بموجبه الرأي العام إلى محاسبته على أساسه. ومن هذا المنطلق، لم يكن الأخوان ملزمين وَضع هذا السقف المرتفع جدا وتعريض أنفسهم للمحاسبة لاحقا، لولا صدق نواياهم وتفكيرهم وقناعاتهم، إذ باتوا بعد هذه الوثيقة مطالبين بتطبيقها بحذافيرها والالتزام في كل جملة واردة فيها، فيما كان باستطاعتهم وَضع سقف أدنى من ذلك بكثير، ولَما كان أحد في وارد مساءلتهم في ظل المواجهة التي يخوضها الشعب السوري في سبيل كرامته وحريته.
قد يدّعي البعض أن هدف الأخوان استمالة الأقليات من جهة، علماً أن تأثير هذه الأقليات في مجريات الأحداث الميدانية يكاد يكون معدوما، وكسب تأييد المجتمع الدولي من جهة أخرى، خصوصا بعد التردّد الذي أصاب هذا المجتمع في دعم المعارضة السورية نتيجة التضخيم المتعمّد للحركات العنفية التي أبصرت النور والإشاعات المغرضة عن القاعدة وأخواتها، علماً أن العنف يولّد عنفاً، والنظام السوري لا يمكن مواجهته بـ”حمامة سلام” أو بالجمعيات اللاعنفية والمجتمع المدني، وبالتالي من حق الأخوان وغيرهم إسقاط ذريعة من ذرائع النظام بإعادة تصويب المسائل عبر تظهير رؤيتهم السياسية وتطلعاتهم المستقبلية.
فالحكم يجب أن يكون على الأفكار وربطها بالدرجة الأولى بالواقع الحالي المتصل بالثورات العربية، أي عدم الاستناد إلى التجارب التاريخية والتأسيس عليها على غرار وثيقة الأخوان في العام 2005، لأنّ واقع ما قبل الثورات يختلف عمّا بعدها، هذه الثورات التي أظهرت الإسلام السياسي بحلة مختلفة وجديدة. وطالما الشيء بالشيء يُذكر، فمن المفيد، على سبيل المثال، وضع وثيقتي “الأخوان المسلمين” و”حزب الله” والمقارنة بينهما، هذه المقارنة التي تظهر انحياز الطرف الأول لحقوق الانسان بكلّ أبعاده، في مقابل انحياز الطرف الآخر للمنطق الأيديولوجي الذي يضحي بالانسان أو يستخدمه في سبيل غاياته.
ففي حين تدعو وثيقة الأخوان إلى دولة “تكون عامل أمن واستقرار”، تدعو وثيقة الحزب إلى الحرب واللاإستقرار، وهي ضد السلام ومع إسقاط الاستكبار العالمي وتدمير إسرائيل، وهذا ليس دفاعا عن إسرائيل، إنما من زاوية وضع لبنان في مواجهة تتجاوز طاقاته وقدراته وتدخله ضمن الإطار الجهادي وفي سياق مشروع إسلامي لا ناقة له فيه ولا جمل.
لا يمكن أن يكون المرء ضد “الأخوان المسلمين” الذين أعلنوا إيمانهم بـ”الدولة المدنية الحديثة والديموقراطية والتعددية التداولية، ودولة المواطنة والمساواة والالتزام بحقوق الإنسان والقائمة على الحوار والمشاركة والتي تحترم المؤسسات ويكون فيها الشعب سيّد نفسه”، فيما يكون مع “حزب الله” الذي يقف ضد المبادئ الدولتية التي أعلنها الأخوان.
ما أفرزته الثورات من دينامية تغيير وتطوير كشفَ “حزب الله” الذي كان يتلطّى بالواقعين الأخواني والسلفي تبريرا لوجوده ودوره، هذا التبرير الذي لم يعد يقنع أحدا، لا بل أظهر مدى الهوّة بين طروحات الأخوان التطويرية وطروحات الحزب الماضوية.
تبقى ملاحظة أخيرة لا بدّ منها، وهي أنّ التغيير والإصلاح الإسلامي انطلق من السلفية التي تدعو الى الاجتهاد وترفض المذهبية في الإسلام، كما تدعو الى التذكير بأنّ المفتي محمد عبدو هو سلفي ورمز الإصلاح في العالم الإسلامي.
الجمهورية
عهد وميثاق إخوان سوريا
عبدالعزيز السماري
قطعت جماعة الإخوان المسلمين” في سوريا ألف خطوة في الاتجاه الصحيح عندما أصدرت وثيقة أسمتها “عهد وميثاق”، بينت فيها رؤيتها لمستقبل سوريا في مرحلة ما بعد الأسد، وتعهدت بالالتزام بقيام دولة مدنية تعددية وديمقراطية، مع المساواة بين جميع المواطنين حتى في فرص الوصول إلى أعلى المناصب، مع احترام حقوق الإنسان والحريات، وفي بيانها الأخير قفزة تاريخية في تقريب مقاصد السياسة الشرعية بالمفاهيم المدنية التي تلتزم بتحقيق العدل، وتأمين الحريات، وتضمن حقوق الإنسان في الوطن.
كنت أنتظر أن يشيد المثقفون العرب والذين قدم بعضهم جهداً غير عادي من أجل الوصول إلى صيغة مدنية تتوافق مع مفاهيم الحداثة الإنسانية ولا تتعارض مع مقاصد الشرع، لكن يبدو أن الثقة بين القوى السياسية في المجتمعات العربية لم تصل بعد إلى مستوى يسمح لها بالاحتفال، فالتطور العربي الحالي يمر في انقلابات على مختلف الأصعدة، وسيكون ميثاق سوريا أحد هذه التطورات في العقل السياسي العربي، لكن ربما ينتظر الاحتفال النخبوي طور التطبيق، ولا يمكن بأية حال إغفال أهمية الدور التركي في تطوير العمل السياسي في المجتمعات العربية المجاورة، وإن كنت أنتظر أيضاً أن تقوم دول مجلس التعاون بتقديم المثال النموذجي لبقية الدول العربية في هذه المرحلة الحساسة جداً في تاريخ العرب.
لم يعد هناك مكان لشعار أن الإسلام أو القومية هما الحل، والذي تم اختزاله خلال العقود الماضية في مفاهيم غير صالحة لمستقبل الأوطان، في محاولة لإعطاء رجال الدين سلطة أعلى من الشعب، والسبب أن الدين الإسلامي في مضمونه يرفض الكهنوت، وذلك لوضوح تعليماته وأصوله في الكتاب المحكم، ومهما حاولت بعض الفرق المتطرفة أن تختزل مرجعية الأمة في فئة فأنها تخسر في ظل سماحة الدين الإسلامي الذي جاهد طوال تاريخه في محاربة الأيقونات والأصنام والعصمة، فالأمر أو الحكم تُرك شورى بين الناس في أن ايختاروا طريقة الحكم المثلى لهم، ولم يترك الأمر محصوراً لفتاوى رجال الدين أو الفقهاء، وما يحدث في إيران يعد حراكا خارج التاريخ، إذ لا يمكن أن تٌختزل مصالح وطن في رؤى دينية متطرفة.
في هذه المناسبة لابد من الإشارة إلى دستور المدينة أو صحيفة المدينة‎، والذي تمت كتابته فور هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة، وهو يٌعد أول دستور مدني في التاريخ، واعتبره التاريخ مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني، وكانت الصحيفة تهدف إلى تنظيم علاقة الحقوق والواجبات بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرون و الأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، وفي حالة الهجوم على المدينة يتحد من خلاله المسلمون و اليهود وجميع الفصائل للعدوان الخارجي، ويعتبر ذلك أول تعريف لمفهوم الوطن ومبادئ الحقوق والواجبات، ومثال ذلك (وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ)، فالعلاقة كانت مبنية على احترام المواثيق والعهود وليست على الدين.
السياسة تنظيم لعلاقات الناس وضمان لحقوقهم ولا تعني امتياز فئة دون أخرى، فالإخوان المسلمون أو السلفيون وغيرهم ليسوا أمناء على الناس، فالدستور يجب أن يضمن حقوق الفرد تحت رعاية الدولة، وأن ينص على إعطاء الأفراد حريتهم العقلية على شرط أن لا يُخالفوا القانون، وأن يلتزم الإنسان بمصالح الوطن في ظل مشاركة الجميع.
ويُظهر أن مصر تواجه أمراً عسيراً في مرحلة تأسيس الدستور الجديد، والذي يجب أن لا يتأثر بالأطروحات الطائفية والفئوية، وأن تكون المواطنة حرية اختيار وحقوقا واجبات، وأن يكون مفهوم تطبيق الشريعة ليس شكلياً تُنفذ من خلاله بعض الحدود، ولكن قانون شامل يتوافق مع المبادئ والمقاصد الشرعية، ومع ما توصل إليه الفكر الإنساني من تطورات في دولة الوطن الحديث.
يستغل بعض المتزمتين مشاعر الخوف على هوية الأمة من فوبيا التغريب، وفي ذلك هلع غير مبرر، فالحفاظ على هوية الأمة يأتي من خلال صهر الثقافة بمختلف مصادرها في قالب واحد وهو اللغة، والتي يتجاوز مفهومها لغة التخاطب إلى أن تكون بمثابة الوعاء الذي يختصم ويتناغم ويختلف ويبدع من خلاله المواطنون، ولو راقبنا سيرة دول مثل: فرنسا وبريطانيا وأسبانيا وكوريا الجنوبية واليابان لأدركنا أنها حافظت على هويتها من خلال تقوية ثقافتها المحلية بالترجمة وصهر المصطلحات الجديدة في قالب ثقافي محلي، لكنني أحياناً أتفاجأ عندما لا أجد في أدبيات بعض الإسلاميين مفهوم الهوية وعلاقته باللغة، فقد اختاروا الشكليات لأن تكون هوية الدرجة الأولى في المجتمع، وأن تكون اجتهادات وفتاوى الفقهاء بمثابة الدستور الشفوي للأفراد غير المصنفين.
الجزيرة السعودية
علامات الربيع
ساطع نور الدين
الموجة الثانية من الثورة العربية تتقدم بخطوات ثابتة، وتحقق مكتسبات مهمة، تعيد الى الربيع ألوانه ووروده الزاهية، وتعيد الإسلاميين الذين حاولوا مصادرته الى حجمهم الطبيعي والى دورهم الواقعي الذي لا يمكن ان يصل الى كتابة دساتير عصرية لدول ومجتمعات خارجة من اسر الاستبداد على اختلاف أشكاله السياسية والدينية.
باستثناء ليبيا التي لا تزال في مرحلة ما قبل اختراع الدولة، واليمن الذي لا يزال في حقبة ما قبل ظهور الاسلام، سجلت تونس ومصر وسوريا ثلاث علامات فارقة من الموجة الثانية للثورة، تنبىء بان الامور ستعود الى نصابها بأسرع مما كان يتوقع الخائفون من الخريف الاسلامي الذي حل في الأشهر القليلة الماضية وأوحى بأن العرب، عندما استردوا حرياتهم الفردية والجماعية، قرروا على الفور العودة عشرات بل ربما مئات السنين الى الوراء، لأن مخيلتهم ضيقة الافق وذاكرتهم مصادرة بالإسلام وحده ولا شيء سواه.
في تونس، حسمت حركة النهضة الاسلامية الحاكمة أمرها وقررت ان تفترق عن السلفيين وتتصدى لهم وتستجيب لمطالب الجمهور العلماني الواسع الذي خرج الى الشوارع معترضا على اعتماد الشريعة وإحياء الخلافة، ومناديا بحفظ النصوص والتقاليد المدنية للدولة التونسية: اعلنت الحركة أنها لن تغير نص الدستور التونسي المكتوب منذ عهد الراحل الحبيب بورقيبة والذي لا يذكر الاسلام كمصدر للتشريع.
وفي مصر، وجد الاخوان المسلمون انفسهم وحيدين في العراء، مع خصومهم السلفيين، بعدما خرجت من لجنة صياغة الدستور الجديد، جميع الاحزاب والتيارات والشخصيات السياسية في حركة احتجاج مؤثرة، تصوب مسار الثورة المصرية وتفتح من جديد أفقها المدني، وتحاصر مراهقي تلك الثورة الذين كادوا يحطمون دور المؤسسة العسكرية كحصن مدني قوي في مواجهة الزحف الاسلامي على الدولة ومؤسساتها.
والأرجح ان إخوان مصر وسلفييها الذين هيمنوا على عضوية لجنة صياغة الدستور لن يكون بمقدورهم المضي قدما في تحديد هوية مصر وبنيتها، استنادا الى نتائج الانتخابات النيابية الانتقامية او الانفعالية الاخيرة، التي حاصرت شرائح واسعة من المدنيين المصريين الذين كانوا وما زالوا عصب الثورة ورافعتها السياسية، وهم يستعدون الان لاسترداد مطالب المجتمع وحقوقه وجدول اعماله من الإسلاميين الذين ساهموا بسرعة في تلطيخ العقيدة وتشويه السياسة، وتعريض مصر لخطر جدي.
في هذا السياق جاء خطاب الاخوان المسلمين السوريين الاخير، معلنا انهم شركاء في كتابة مستقبل سوريا لا أوصياء على الدولة ذات التقاليد المدنية العريقة والمجتمع ذي التكوين التعددي الراسخ.. وهي ما يعد بان التجربة السورية المقبلة ستكون اسهل بما لا يقاس من التجربتين التونسية والمصرية، حتى ولو تبين ان اسلاميي سوريا وسلفييها اكبر من رفاقهم التونسيين والمصريين.
انه الربيع.
السفير
إخـوان سـوريا: يقظـة مـن غفـوة؟
ادمون صعب
«تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى»
قرآن كريم
كادت الوثيقة السياسية التي أعلنها «الإخوان المسلمون» في سوريا الأحد الماضي، من اسطنبول، تحقق وإن نظرياً وعلى الورق، ما طمح إلى تحقيقه فريق كبير من اللبنانيين، لهم ولوطنهم، من مثل «عقد اجتماعي جديد يؤسس لعلاقة وطنية معاصرة وآمنة بين مكونات المجتمع، عهد يصون لحقوق، وميثاق يبدد المخاوف ويبعث على الطمأنينة والثقة والرضا».
وإذ شرح الإخوان، وسط توجّس من المكونات الأخرى غير الإسلامية في سوريا، وخصوصاً المسيحية منها التي نطق باسمها أخيراً البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي محذراً من أخطار وصول جماعات إسلامية متطرفة إلى السلطة في دمشق على التعايش الإسلامي ـ المسيحي هناك ـ شرحوا في العهد المذكور «رؤيتهم الوطنية» لحلم سوريا، في حال وصولهم إلى السلطة ـ، وأعلنوا التزامهم «دولة مدنية حديثة، ودستورا مدنيا يحمي الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات (…) ويضمن التمثيل العادل لكل مكونات المجتمع، دولة ديموقراطية تعددية، تداولية (…) ذات نظام جمهوري نيابي يختار فيها الشعب من يمثله ومن يحكمه عبر صناديق الاقتراع، في انتخابات حرة، نزيهة وشفافة». كما دعوا إلى «دولة مواطنة ومساواة (…) يحق فيها لأي مواطن الوصول إلى أعلى المناصب، استناداً إلى قاعدتي الانتخابات والكفاءة، كما يتساوى فيها الرجال والنساء في الكرامة الإنسانية»، مبدين أقصى درجات الانفتاح على «جميع إخواننا في وطننا الحبيب…».
وصادف صدور وثيقة الإخوان من تركيا، انعقاد لقاء تشاوري مسيحي ـ إسلامي في بكركي، في اليوم نفسه، شارك فيه رؤساء الطوائف الرئيسية إلى جانب ممثلي رؤساء الطوائف الأخرى، وقد ظللتهم جميعاً انتفاضات «الربيع العربي»، وخصوصاً أحداث سوريا، فأكدوا «حق الشعوب في خياراتها»، مشاركين القلقين على تداعيات التغيرات في البلدان التي شملها ذلك الربيع وأوصل إسلاميين إلى السلطة، «مما قد يحصل إذا طال الوقت في البحث عن الطريق السليم لإرساء دولة القانون والعدالة والمساواة في تلك المجتمعات»، وهذا كان من أبرز مطالب البطريرك الماروني وقد حمله في سفراته الخارجية بدءاً بفرنسا وطرحه على المسؤولين الكبار في الدول التي زارها.
وفي موازاة وثيقة الإخوان التي قد يصح فيها مثل «اقرأ تفرح، جرّب تحزن»، أشار بيان لقاء بكركي إلى ما يجري في سوريا، وذكر ان المجتمعين «أعربوا عن شجبهم العنف المتمادي، وحزنهم الشديد على الضحايا التي تسقط كل يوم».
والواقع أن إخوان سوريا لم يقدموا إلى الجمهور السوري ومعه الجمهوران العربي والأجنبي، طوال سنة، سوى «الشارع الجهادي» الإسلامي في الدرجة الأولى، الذي يضج بالشعارات المثيرة والمقلقة لغير المسلمين، إضافة إلى السلاح والمسلحين، والتفجيرات في الأحياء السكنية الآمنة والعبوات الناسفة على الطرق، وما يرافقه من دمار وجثث. وكان موقف البطريرك الماروني حيال هذا المشهد: «نحن مع الربيع العربي لكن ليس مع الربيع بالعنف والحرب والدمار، لأنه بهذه يصبح شتاء».
ولا بد لوثيقة الإخوان من ان تستوقف المسيحيين وسائر الطوائف الإسلامية، وخصوصاً الجماعات السلفية التي لا تشارك الإخوان في تصورهم للحكم الإسلامي، ولما يتوجب على المسلم «الصالح» التزامه من تعاليم دينه، في الواجبات كما في الحقوق، والتي يعتبر ميثاق إخوان سوريا خروجاً عليها، وخصوصاً في التعامل مع «الكفار» وفي توليتهم على المسلمين، في إطار فصل الدين عن الدولة، أي إبعاد ما هو روحي عما هو زمني، ذلك ان للإسلاميين المتشددين موقفاً من الدولة في ذاتها، إذ هم يعتبرون ان الدولة الإسلامية هي نتاج «تعاقد بين الناس والله، لمصلحة الأخير»، وان العالم منقسم بين «دار الإسلام» و«دار الحرب»، والناس ثلاثة أنواع: المؤمنون، والذميون، والكفار.
وتوجّه الاسلاميين في السلطة هو إلى حكم «المستبد، المستنير والعادل» الذي «لا يحكم باسم الشعب، بل باسم الله، وحيث الطاعة له عمياء، ولا مجال لديه لا لحرية الرأي ولا للمعارضة أو الانتقاد».
وثمة أمثلة كثيرة على ذلك في عالمنا العربي. وثمة من يعتبر ان التوجه نحو الدولة الدينية، سواء أكانت مسيحية أم إسلامية أو يهودية، هو سباحة بعكس تيار التاريخ الذي يتقدم إلى الأمام ولا يعود إلى الوراء كما يطالب السلفيون. كما ان على هؤلاء ان يعترفوا بأن الإسلام يمر بمرحلة انحطاط، وان صحوته يجب أن تنحو صوب الحداثة والمشاركة في صنع قيم جديدة تفضي إلى عقد اجتماعي وثقافي مع الأديان الأخرى، على غرار ما حصل في أوروبا بإنتاج حضارة هي مزيج من الفكر الكاثوليكي، والفكر البروتستانتي، والفكر اليهودي. على ان يتحول الحضور الإسلامي في الغرب إلى اغناء للفكر الغربي، بدلا من التقوقع في الخصوصية الثقافية والدينية الرافضة للاندماج.
وثمة باحثون إسلاميون يرون ان الإسلام مدعو إلى التكيّف مع العالم المعاصر من دون الرجوع مع السلفيين إلى الماضي لأنه مائت، ولا إلى التمثل بالغرب لأنه مميت، والإقدام على فصل الدين عن الدولة، وإقامة دولة مدنية «يتقدم فيها الروحي على الزمني، والروح على النص، شرط إسباغ طابع إنساني عليهما»، وعلى ما قال المفكر الجزائري مالك بن نبي، على أن يكون المجتمع الإسلامي قائماً على المحبة «ذلك ان مجتمعاً خالياً من الحب، هو مجتمع تُلغى فيه العلاقات بين الناس، فيصبح مجتمعاً مستحيلاً». وأضاف: «يجب تقديم الروح على النص، لأن القلب هو الذي يخلق ويعطي، وليس العقل الذي يحسب».
وسبق لعبد الرحمن الكواكبي ان دعا إلى ما طرحه إخوان سوريا مطلع القرن الماضي، ما اعتبره الرئيس جمال عبد الناصر، بعد ثورة 1958، «رائداً للقومية العربية وللوحدة العربية».
وكان الكواكبي قال ان تولية رجل الدين المسلم للسلطة تصادر الحكم وتُخضع الأمة لسلطان مستبد، في مقابل سلطة روحية على المجتمع.
يبقى السؤال الكبير: إذا كان المسلمون يطمحون إلى الخروج من حال الانحطاط الذي لم يكن غفوة كما خيل إليهم بل تقهقر وتراجع، فهل هم جاهزون الآن لقفزة إلى الأمام على طريق الديموقرطية رغم ما يحوط تلك العملية من مطبات وأخطاء من جانب السلفيين؟
وهل يتقبل المسلمون الديموقراطية التي طرحها إخوان سوريا في عهدهم؟
وما دام الإسلام كان على الدوام «المحرر» في نظر المؤمنين به، فهل هو جاهز الآن لإكمال الشوط، على كرتي الديموقراطية والحداثة؟
السفير
تحيّة للإخوان السوريّين
حازم صاغيّة
يصعب أن تصدر عن جماعة الإخوان المسلمين السوريّين، أو عن غيرهم، وثيقة أفضل من تلك التي أذاعوها أمس الأوّل. إنّها، كما يقول تعبير إنكليزيّ، أكثر جودة من أن تكون حقيقيّة. وحين يشرحها ويدافع عنها، على شاشة قناة “العربيّة”، رجل محترم ومتواضع كعلي صدر الدين البيانوني، فإنّه يضفي عليها مزيداً من الصدقيّة.
تلك الوثيقة تتويج لوجهة بدأت في 2001، بُعيد تولّي بشّار الأسد السلطة، وهي وجهة دلّت قي مسارها المديد نسبيّاً إلى براغماتيّة الإخوان السوريّين، لا بوصف البراغماتيّة ضعفاً في القيم، على ما قد يظنّ البعض، بل بوصفها ضعفاً في الإيديولوجيا. وضعف كهذا هو ما يتيح لأصحابه أن ينحازوا إلى الواقع وإلى الوقائع، وأن يتعلّموا من التجارب والإخفاقات، ملاحظين، في الآن عينه، التحوّلات التي تهبّ عليهم من حولهم وتعمل على تكييفهم. فكأنّنا، بالتالي، حيال انقلاب بارز تباشره مدرسة عريقة في المعتقديّة الإيديولوجيّة على ذاتها الجامدة.
وبالفعل بتنا أمام أرقى وثيقة ينتجها الإخوان العرب من دون استثناء، تصدر عن أكثر الإخوان العرب تأثّراً بالإخوان الأتراك من جماعة “العدالة والتنمية”. فما أغضبَ إخوان مصر ممّا قاله لهم رجب طيّب أردوغان حين زارهم، حوّله إخوان سوريّة إلى مبدأ مُتبنّى ومدافَع عنه. وإذا قيل إنّ الإخوان التوانسة، في حركة “النهضة”، هم الأشدّ استماعاً إلى نبض العصر، وإنّ قائدهم راشد الغنّوشي الأكثر استنارة بينهم، فهذا ما خطّأته الوثيقة الأخيرة التي خلت من الغمغمة التونسيّة في ما خصّ الشؤون الأكثر إلحاحاً. فهي قطعت مع الغموض في ما خصّ الديموقراطيّة وحقوق النساء والأقليّات الدينيّة والعرقيّة. وإذا جاز لنا أن نتفاءل بمستقبل للإسلام السياسيّ العربيّ، ينتقل معه إلى ما يشبه الديموقراطيّة المسيحيّة في أوروبا، جاز اعتبار تلك الوثيقة عملاً تأسيسيّاً، أو استباقاً أوّليّاً، لا سيّما لجهة التكامل الذي انطوت عليه بين الخلفيّة الدينيّة لأصحابها وبين الجهر بالدعوة المدنيّة الديموقراطيّة.
وفضلاً عن طمأنة الأقليّات والمرأة، تضعنا الوثيقة أمام مدخل لصياغة الوضع المستقبليّ لسوريّة ولرسم صورة البدائل المطلوبة. وهو ما قد يعزّزه إصدار مؤتمر اسطنبول إعلاناً دستوريّاً لم يعد تأخيره مجدياً ولا مقنعاً. وهذا إلى جانب الإلحاح الذي يفرضه التردّي المتسارع للعلاقات الأهليّة في سوريّة تحت ضغط العنف الرسميّ المنفلت من عقاله وما يستجرّه من ردود ثأريّة.
ولا بأس، هنا، بالإشارة إلى البيئة الحاضنة للوثيقة والمتشكّلة أساساً من مناخات ثورة مديدة ومكلفة تعجّ بالعِبر والدروس بقدر ما تضجّ بالمخاطر. وقد أضيف إلى هذا ردٌّ إخوانيّ نبيل على تاريخ القهر والمظالم الذي تعرّض له الإخوانيّون، وفهمٌ ضمنيّ رحب لتعدّديّة المجتمع السوريّ وللآفاق التي يمكن للتعدّديّة هذه أن تُصرّف فيها.
بطبيعة الحال فإنّ الذين لا يريدون أن يطمئنوا، في سوريّة (ولبنان) والعالم الأوسع، لن يجدوا ما يطمئنهم، لا في هذه الوثيقة ولا في غيرها. لكنّ ذلك ينبغي ألاّ يردع الإخوان السوريّين عن متابعة طريقهم إدانةً لكلّ ممارسة طائفيّة، كبيرة كانت أو صغيرة، وتمايزاً عن كلّ توسّل متعصّب للإسلام. ذاك أنّ الممارسة اختبار الوثيقة الأخير.
الحياة
صراع في المتن
حازم صاغيّة
قطع الإخوان المسلمون في سوريّة وتونس خطوتين معتبرتين الأسبوع الماضي، أكان في ما خصّ الأقلّيّات والمرأة، أو في ما خصّ الشريعة والدستور. ويبدو أنّ الإخوان الشرق أردنيّين في صدد تركيز عملهم السياسيّ على مسائل الوطنيّة الأردنيّة، بدلاً من هوائيّة القضايا الإيديولوجيّة العابرة للحدود. وكان إخوانيّو المغرب قد شكّلوا حكومة تطمح إلى انتزاع مزيد من الصلاحيّات التدريجيّة، من ضمن علاقة تكامليّة مع العرش – المخزن. وغير بعيدة من هذه التجارب تجربة الإخوان الأتراك، جماعة “حزب العدالة والتنمية”، التي كثر تحليلها وتقليب أوجهها.
وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، أن الإخوان قطعوا الشوط الذي يتمنّى لهم حاملو الأفكار السياسيّة الحديثة أن يقطعوه. كما لا يعني أنّهم بدّدوا كامل الشكوك المشروعة في ما خصّ مواقفهم من المرأة والأقلّيّات والشريعة، أو، على جبهة أخرى، في ما خصّ الصلات الغامضة بالأطراف الإسلاميّة الأكثر راديكاليّة وتخلّفاً. وعلى العموم فإنّ استواءهم عند موقع حديث ومعاصر، وعند صورة عن العالم تشبه العالم، لا يزال مهمّة تحضّ على الضغط من أجل حلّها.
بيد أنّ التطوّرات المذكورة تقطع في أمر واحد هو أنّ الإخوان المسلمين يتغيّرون، بغضّ النظر عن الاختلاف في تقدير درجة التغيّر. وعن هذا تنشأ وثائق ومواقف قد لا تكون مطلقة الإلزام، ولا مطلقة الضمانة، غير أنّ فيها شيئاً من الإلزام والضمانة يجعل ما بعدها مغايراً لما قبلها.
وأهميّة ذلك لا تقتصرعلى الحيّز الفكريّ الذي يطال الفكر والممارسة السياسيّين الإسلاميّين، بل تتناول أيضاً الآفاق السياسيّة والوطنيّة الأعرض. ذاك أنّ التغيّر المذكور يحصل في المتن العريض، وليس في نطاق تنظيم يساريّ صغير يراجع “منطلقاته النظرية” أو يناقش “برنامجه السياسيّ”. كما أنّنا لسنا حيال شكل من أشكال الإعاشة السياسيّة التي تمثّلها منظّمات المجتمع المدنيّ الحسنة النوايا بالطبع.
ولتقدير ما هو مقصود يكفي أن نتخيّل لو أنّ الإمام الخمينيّ والذين وصلوا معه إلى السلطة في 1979 دشّنوا تحوّلاً ديموقراطيّاً تدرّجيّاً يتمّ تحت مظلّة الإسلام. مثل هذه الفرصة كانت لتكون أوزن وأهمّ بلا قياس من سيطرة “فدائيّي الشعب” أو “مجاهدي الشعب” على إيران. ذاك أنّ الثقل الجماهيريّ الذي حمل الخمينيّ هو، أقلّه نظريّاً، أضمن للاستقرار وللديموقراطيّة من فصائل “طليعيّة” تعوّض طابعها الأقليّ بتمكين قبضة الاستبداد والديكتاتوريّة.
بيد أنّه، ولأنّ الطابع الأكثريّ ليس كافياً بذاته، انتهينا، مع الخميني، إلى فرصة ضائعة. وهو ضياع لم يتأخّر في الظهور، فأطلّ لدى الخلاف مع المهدي بازركان وحكومته، ثمّ كرّسته القطيعة مع أبو الحسن بني صدر.
وفي النهاية قاد الخميني المتن الإيرانيّ العريض في اتّجاه أكثر ديكتاتوريّة واستبداداً ممّا كان عليه الشاه، كما أسّس للثورة الرجعيّة بعد قرابة قرنين على الثورة الديموقراطيّة الفرنسيّة. وبدل الحرّيّة والإخاء والمساواة وتحرير السياسة من الدين والحدّ من الهرميّات التي تحكم علاقات الطبقات والأجناس، أقيم نظام يوطّد الهرميّات من كلّ صنف، ويربط السياسة ربطاً محكماً برجال الدين.
وقصارى القول إنّ ما فعل الخمينيّ نقيضه مطروحٌ فعله اليوم على الإخوان المسلمين العرب. وهنا سيكون المسار نفسه أهمّ من القول المتعجّل بعلمانيّة صريحة وقاطعة (لم تقل بريطانيا بعد بمثلها) أو بحقّ المرأة في تولّي أرفع المناصب، على رغم أهميّة المطلبين.
فلنعاين المسار هذا بدقّة، مع ما يستدعيه من ضغط يُستحسن أن يأتي محكوماً بالقدرات والإمكانات الفعليّة. وحصول هذا الذي يحصل في المتن العريض إنّما يستوجب ذلك من قبل أوسع الفئات ويحضّ عليه.
الحياة
“إخوان” سوريا.. وسلفيوها
ساطع نور الدين
إنهم صادقون فقط، لأن سوريا لا تحتمل غير الصدق، ولأن شعبها لا يقبل بأقل من دولة مدنية تعددية ديموقراطية، تختلف عن مصر التي أنجبتها الثورة، وتنافس تونس التي أنتجتها «النهضة».
لم تكن حركة «الاخوان المسلمين» في سوريا تقدّم في برنامجها الذي أعلنته من اسطنبول تنازلاً للرأي العام السوري والعربي والعالمي، بل كانت تسلم بحقيقة سورية رسمتها انتفاضة العام الماضي وهي أن أحداً، فرداً كان او طائفة او حزبا او جماعة، لم يعد يستطيع ان يحكم الشعب السوري وحده، وبناء على شرعية او فكرة او وظيفة مستمدة من القرن الماضي، او من القرون الغابرة.
الإعلان عن البرنامج قد يكون جزءاً من التحضير لمؤتمر المعارضة السورية ثم لمؤتمر أصدقاء سوريا، لكن الوحدة الداخلية «للإخوان» السوريين حدث بحد ذاته، كما ان التزامهم المسبق بالعناوين الجوهرية لمطالب الثورة العربية الكبرى، خطوة مهمة على طريق التغيير المنشود في سوريا، وعلى أمل ان تكون الكلفة، الباهظة حتى الآن، هي الحد الأقصى الذي يفترض أن يدفعه الشعب السوري الشقيق.
كان لا بد من تبديد الخوف المقيم لدى شرائح واسعة من السوريين من ذلك التنظيم الاسلامي الذي يتقدم نحو الصفوف الأمامية، لكن الخطوة كان يمكن ان تشكل اختراقاً للوعي السوري العام، لو انها أرفقت بتجديد المراجعة التي سبق للحركة نفسها أن أجرتها قبل ست سنوات لتجربة الثمانينيات، ولو أنها توجت باعتذار عن الأخطاء التي ارتكبت في تلك المرحلة المثيرة للجدل والقلق.
مع ذلك، فإن اندماج «إخوان» سوريا في ذلك الخطاب السياسي العام الذي يتردد على لسان رفاقهم المصريين والتونسيين واليمنيين، تميز بليبراليته السورية الخاصة، التي تفرض الإقرار الصريح بحق الولاية للمسيحي وللمرأة، والاعتراف الواضح بالآخر مهما كانت هويته السياسية او الطائفية او القومية.. وإن كانت لا تبدد الشكوك في أن الحركة الاسلامية السورية الأقوى تمارس التقية على غرار شقيقاتها العربيات. وهي تقية لن تقاس الا عندما تظهر المفاجأة السورية المقبلة، ويتقدم السلفيون الخارجون للتوّ من التحالف السابق مع النظام، في الشارع او في صناديق الاقتراع، على تلك الجماعة التقليدية العريقة التي باتت تبدو بالمقارنة معهم حزباً عصرياً يرمز الى الحداثة والتحضر، ولا يمت الى الأصولية الإسلامية بأي صلة!
لن تكون سوريا استثناء لهذه الظاهرة السلفية الواسعة الانتشار والتي باتت جماعة الاخوان الدرع الواقية وربما الوحيدة من خطرها الداهم.. الذي لا يمكن حصره إلا بمثل ذلك البرنامج السوري الذي أعلن في اسطنبول، وأرسى الأسس الصلبة لخطة المعارضة السورية التي باتت وحدتها السياسية والتنظيمية مطلباً جماهيرياً سورياً وعربياً وعالمياً إجماعياً.
السفير
وثيقة “الإخوان” خطوة متقدّمة في تأهيل البدائل
روزانا بومنصف
حظيت موافقة النظام السوري على خطة المبعوث الدولي المشترك للامم المتحدة والجامعة العربية كوفي انان لوقف النار في سوريا وبدء تسوية سياسية بترحيب ممزوج بتشكيك كبير من الدول الكبرى. فهذه الدول لا يمكنها الا ان تعتبر الاعلان عن هذه الموافقة ايجابيا كونها داعمة لخطة انان وراغبة في ان ينجح اقله في وقف النار وقد اعتبرت المبادرة الفرصة الاخيرة باعتبار ان لا بديل متوافقا حوله حتى الان من الدول الكبرى باستثنائها. الا ان قدرا كبيرا من التشكيك بهذه الموافقة تحتمه جملة امور من بينها التوقيت الذي يبدو مرتبطا كما تقول مصادر ديبلوماسية بموعد انعقاد القمة العربية في بغداد ومن ثم بمؤتمر اسطنبول الاحد في الاول من نيسان لاصدقاء سوريا الذين جاوز عددهم في الاجتماع الاول الذي عقد في تونس قبل اسابيع الستين دولة. وهناك قدر من السعي الى محاولة تنفيس نتائج هذين الاجتماعين من خلال الموافقة على مبادرة انان في موازاة محاولة اظهار ان هذه الموافقة لا تنبع من موقف ضعف بدليل الزيارة التي قام بها الرئيس السوري لمنطقة بابا عمرو في حمص. كما ان هذا التشكيك الدولي وحتى العربي تحفزه التجربة مع النظام الذي لم يعد يحظى بأي صدقية في هذا الاطار مع اعتماده خيارا امنيا لا يمكنه العودة عنه وفق ما اظهرخلال سنة وشهر من عمر الازمة السورية. اذ ان خطة انان تنطوي على “حرية التجمع والتظاهر السلمي المكفول قانونا” بعد سحب الدبابات والقوات الامنية من الشارع. الامر الذي يعني ان تظاهرات كبيرة ستنزل الى الشارع سلميا على نحو يمكن ان يظهر مدى رفضه من السوريين شأنه في ذلك شأن التظاهرات التي يسمح بها للمؤيدين له بغض النظر عما اذا كانت هذه التظاهرات منظمة او عفوية. وهو الامر الذي خاف منه منذ البداية ولجأ الى العنف. ومع سيطرته على بابا عمرو وادلب اخيرا واستعادته موقعا للحوار معه يعتقد كثر ان طموحاته ستمتد الى محاولة العودة الى السيطرة كليا. ولذلك فان الحكم سيكون على ترجمة النظام لالتزامه الكلامي من خلال تعاونه او موافقته على خطة انان مع توقعات بان يسعى الى نسفها بعد وقت قصير متذرعا بتظاهرة او باي امر يتهم فيه من يسميهم “ارهابيين” من اجل استخدام العنف في حال اوقفه. وما لم يحصل هذا التعاون فان الامر لا يعدو حتى الآن وحتى اشعار اخر اكثر من مناورة لكسب الوقت ليس الا اذ ان الاسلوب السوري معهود للدول العربية الذي عايشت النظام السوري لعقود في تملصه من الالتزامات في لبنان بعد موافقته عليها كما بات معهودا للدول الغربية ايضا.
ومع ان النظام لم يأبه في السابق ظاهريا على الاقل لاجتماعات كالقمة العربية المرتقبة في بغداد او مؤتمر اسطنبول مقللا تأثيرهما واهميتهما ومضى في خياره الامني وهو يسوق عبر حلفائه في لبنان ان لا قيمة لهذه الاجتماعات وهو غير معني بها، الا انه بات “على الكتف حمال” كما يقال بالتعبير الشعبي. ومن جهة ثانية فإن روسيا التي دعمت مبادرة انان لا تستطيع ان تستمر في دعم ما يقوم به الرئيس السوري على الارض وهي ضغطت في هذا الاتجاه على النظام من اجل قبوله بمبادرة انان شأنها في ذلك حين ضغطت عليه من اجل ان يقبل المبادرة العربية التي تضمنت الكثير مما ورد في مبادرة انان لجهة وقف النار واطلاق المعتقلين والسماح للصحافيين في تغطية ما يحصل. وتاليا يتعين عليها كما على الصين ان تظهر حسن نيتها في انجاح مبادرة انان من خلال الضغط على النظام لاعطاء هذه المبادرة فرصة بغض النظر عن المدى الذي سيتعاون فيه النظام السوري مع المبادرة ورد الفعل الروسي والصيني على اي اخلال من جانب النظام ما لم تستمر روسيا في تبني وجهة نظره عن تحرك المعارضة.
لكن ما يجري من مساع خارجية من اجل ان توحّد المعارضة السورية صفوفها وتقدم مشروعا ودستورا بديلا من النظام السوري يشكل حرجا للنظام خصوصا ان ثمة مبادرات للمعارضة باتت تحشر النظام فعلا. وقد قدم الاخوان المسلمون وثيقة اعتبرتها مرجعيات بمثابة أن الامر جميل جدا لكي يصدق، تبعا لترجمة للمثل الفرنسي في هذا الاطار “C’est trop beau pour être vrai”. مما يعني ان الوثيقة التي قدمت لا غبار عليها من حيث المبدأ وتثير علامات دهشة واستغراب عن مدى التحول الذي ادخله الاخوان المسلمون في سوريا على خطابهم السياسي. ومع ان الامر يبقى مثيرا للشك بعض الشيء بالنسبة الى البعض فان هذه المراجع تعتبر ان ما اعلنه هؤلاء والتزموه علنا لا يمكن التراجع عنه او عن الجزء الاكبر منه. وفي هذا خطوة كبيرة باعتبار ان الاخوان المسلمين في سوريا هم على طريق الاخوان في تونس نتيجة وعي يقرأه مراقبون كثر في تحول جماعة الاخوان المسلمين في بعض الدول العربية والتحرك الجذري الذي بدأ يلمسه هؤلاء في خطابهم وادائهم ورؤيتهم للعمل السياسي. وهي وثائق متى اضيفت الى وثائق الازهر في مصر فانها تساهم في توفير الاطمئنان الضروري للبديل في سوريا في حال ادت الانتخابات الى فوز الاخوان المسلمين الذين يبدون بالنسبة الى كثر انهم تعلموا الدرس من النموذج التركي والحزب الذي يترأسه رجب طيب اردوغان لجهة القدرة على استلام السلطة والحصول على انفتاح عربي وغربي في الوقت نفسه.
النهار
إخوان سياسة: «مش حتقدر تغمض عينيك»
حسين شبكشي
في علم وفن التسويق هناك مقولة آسرة ومهمة تتبعها الشركات العالمية الكبرى المتعددة الجنسية، وهي باختصار: «فكر عالميا ونفذ محليا» Think globally, act locally والمعنى الأدق لهذه الجملة أن يتم الاتفاق على شعار كبير مغر وواضح ومبهر وتعطي مساحة الحراك لكل فرع من فروع الشركة حول العالم بحسب ظروف المنافسة ووضع السوق ونوع الزبون المنشود، فمثلا كانت شركة المأكولات السريعة المعروفة «ماكدونالدز» تقوم في فروعها بالفلبين بتقديم المكرونة الإيطالية المشهورة «الاسباكيتي» مع وجبتها الأشهر الهامبرغر نظرا لأن «الاسباكيتي» وجبة مفضلة جدا لدى الشعب الفلبيني، وكذلك الأمر في مواقع أخرى حول العالم. وما ينطبق على هذه الشركة الكبيرة ينطبق على غيرها من الشركات أيضا.
تذكرت ذلك وأنا أتابع بالكثير من الدهشة والاستغراب مواقف جماعة الإخوان المسلمين المتباينة جدا، بحسب كل بلد هي فيها. فاستمعنا إلى خطاب حزب النهضة في تونس وهو يتغير ليتبنى خطابا مدنيا صريحا وصل به الأمر مؤخرا ليقول عن طريق حكومته المشكلة من رجاله إن الشريعة لن تكون المصدر الأساسي للدستور الجديد في البلاد، وطبعا استمع الكل للوثيقة التاريخية المهمة جدا التي أعلنتها حركة الإخوان المسلمين في سوريا خلال مؤتمر صحافي لافت أقاموه في اسطنبول بتركيا والتي أوضحت الجماعة فيه أنها ستراعي حقوق الأقليات تماما ولن تسمح باستبداد الأغلبية على حساب الآخرين، ومنح حقوق المواطنة كاملة وبمساواة تامة للجميع بغض النظر عن الانتماء العرقي والإثني أو الدين، وهو خطاب انقلابي تماما على كافة المعايير الإخوانية التقليدية والموجودة، على سبيل المثال، بشكل واضح في مصر، وهو الذي أدى إلى مأزق سياسي كبير أثار مخاوف وانتقادات الأطراف الأخرى المنتمية للأقليات والتيارات السياسية المختلفة وتمارس دورها بشكل تسلطي واستفزازي بحيث ترغب الجماعة بشكل واضح وصريح في أن تسيطر على كافة المناصب والصلاحيات، حتى تحولت بشكل سريع إلى صورة جديدة من الحزب الوطني الديمقراطي الذي هاج الشعب عليه وتخلص منه، لأنه لم يكن يحترم الأصوات الأخرى مهما اختلفت معه، ولم يكن بالتالي يشاركها في صناعة قرارات مستقبل البلاد.
وهناك طبعا الحراك الإخواني في الكويت الذي اكتسب خلطة خاصة جدا راعى فيها ظروف البلاد واختلط بالخط القبلي ليرسخ قاعدته الشعبية بشكل مختلف. وهناك الحراك الإخواني في الأردن وفي المغرب المعتمد على الجامعات والنقابات بشكل أساسي دون تغيير في الخطاب السياسي العام.
وطبعا هناك الخطاب الإخواني في اليمن المعتمد على إرث قديم وصل إلى هناك من طلبة حسن البنا ليدخل في صميم التركيبة القبلية اليمنية «مستغلا» هذا الوضع ليشكل خطابا إخوانيا يمنيا فريدا وخاصا بالبلاد هناك.
لم يعد من الممكن القول إن هناك خطابا إخوانيا واحدا، وشعار «الإسلام هو الحل» عند تطبيقه يتبين أن هناك عشرات الصيغ لعمل ذلك، وهي مسألة صرف عليها العشرات من السنين في جدل بيزنطي عقيم لأن الإرث السياسي في الإسلام غير موجود، حيث إنه ليس من أصل الدين، وعليه فهو أمر دنيوي بحت كما يثبت ذلك وبشكل عملي هذا الحراك الإخواني المتنوع والمشكل والبراغماتي والمكيافيلي بامتياز. الإخوان حركة سياسية تبحث عن زبونها وتنوع بضاعتها بحسب السوق وحسب رغبة المستهلك وتقلباته، وما كان ممنوعا في يوم ما بات مرغوبا اليوم لتثبت لنا يوميا أن لديها من الإثارة والتنوع والتحول ما يجعل من الممكن فعلا أن نطلق عليها «مش حتقدر تغمض عينيك».
الشرق الأوسط
ما فعله «إخوان» سوريا هل يشعل النيران في حقول الجماعات «الإخوانية»؟!
صالح القلاب
ما أعطى الخطوة التاريخية، التي اتخذها الإخوان المسلمون السوريون بإعلان الخطوط العامة لمشروعهم السياسي لمستقبل سوريا بعد إسقاط هذا النظام، الذي لم يعد هناك ما يشبهه في العالم كله إلا نظام كوريا الشمالية، أنها جاءت بعد بدء توحيد المعارضة السورية بدمج المجلس العسكري بقيادة العميد مصطفى الشيخ بالجيش الحر بقيادة العقيد رياض الأسعد، بأيام قليلة وعشية انعقاد المؤتمر التوحيدي لهذه المعارضة، وانعقاد الاجتماع الثاني لـ«أصدقاء سوريا» في إسطنبول، وبينما أعلن المبعوث الدولي والعربي كوفي أنان من موسكو أنه على أطراف الأزمة السورية عدم مقاومة رياح «التغيير» الذي هو مقبل لا محالة.
ولعل الأدق مما أُطْلِقَ من أوصاف على هذه الخطوة التاريخية فعلا، التي وضعت كل تنظيمات الإخوان المسلمين في العالم بأسره أمام تحديات واستحقاقات القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة، هو ما نسب لحركة الرابع عشر من آذار اللبنانية، بأنها قالت إن ما أقدم عليه الإخوان المسلمون السوريون يشكل في وقته ومضمونه إضافة أساسية ونوعية لوعود ثورات الربيع العربي.
لقد تضمن هذا المشروع السياسي، الذي من المفترض أنه أراح كل مكونات المجتمع السوري السياسية والحزبية والطائفية والدينية التي كان يؤرقها الخوف من مستقبل بات قريبا قد يُستبدل فيه استبداد الحزب الأوحد وهيمنة العائلة الواحدة باستبداد ديني، وليس إسلاميا، على غرار ما حدث في أوروبا في القرون الوسطى، وأيضا غداة وبعد الثورة الفرنسية العظيمة، لقد تضمن هذا المشروع عددا من الأمور البالغة الأهمية التي كان لا بد من إيضاحها بعد عام من انطلاق الثورة السورية، من بينها التأكيد على الدولة المدنية الحديثة وعلى ديمقراطية وتعددية هذه الدولة، والتزامها بحقوق الإنسان، ورفضها للتمييز، وتمسكها بالحوار وبالمشاركة، واستبعادها للاستئثار والإقصاء و«المغالبة»، وتشديدها على احترام حقوق سائر مكونات هذه الدولة، العرقية والدينية والمذهبية، واعترافها بخصوصية كل هذه المكونات بأبعادها الحضارية والثقافية والاجتماعية وبحق التعبير عن هذه الخصوصية.
لكن أهم ما تضمنه هذا المشروع، الذي يجب أن يصبح ملزما لكل قوى الثورة السورية وفصائلها، هو التأكيد على أن دولة المستقبل، بعد ظلام دامس بقي يلف هذا البلد لنحو خمسين عاما وأكثر، هي دولة «مواطنة ومساواة» يحق لأي مواطن فيها الوصول إلى أعلى المناصب استنادا إلى قاعدتي الانتخاب أو الكفاءة، كما يتساوى فيها الرجال والنساء في الكرامة والإنسانية والأهلية، وتتمتع فيها المرأة بحقوقها الكاملة.
ولمزيد من إيضاح هذا الجانب الهام جدا، قال المراقب العام للإخوان المسلمين السوريين في مؤتمر صحافي عقده في إسطنبول، الأحد الماضي، إن «الإخوان» مع إقامة دولة ديمقراطية تعددية، وإنه لا فرق لديهم بأن يأتي مسيحي أو مسلم أو امرأة للرئاسة ما دام أن الفائز يستحق منصبه نتيجة تصويت شعبي.. وقد استطرد رياض الشقفة قائلا: «إن المجتمع السوري لم يكن يوما طائفيا، ففارس الخوري (مسيحي ماروني أصله من الجنوب اللبناني) انتُخب مرات عدة رئيسا للحكومة السورية لأنه كان كفؤا ولم يرفضه أحد لمسيحيته». وحقيقة أن هذا يشكل ثورة هائلة في الفكر «الإخواني» الذي بقي تقليديا ومحافظا ومتوقفا عند لحظة تأسيس «الجماعة» الأم قبل نحو خمسة وثمانين عاما، ووفقا لما كان قاله حسن البنا وأحمد السكري الذي انفصل عنه لاحقا، ويومها كانت المَلَكية المصرية في ذروة تألقها في عهد الملك فؤاد وعهد الملك فاروق، وكانت الأمية في المجتمع المصري وقتها تصل أرقاما فلكية بين الرجال وبين النساء.
بهذه القفزة ارتقى «إخوان» سوريا بتنظيمهم إلى مستوى الأحزاب الديمقراطية والمدنية و«العلمانية» أيضا، إن في الشرق البعيد وإن في الغرب، ووضعوا إخوانهم في مصر وفي الأردن وكل الدول العربية التي لهم فيها وجود تنظيمي، وأيضا في العالم الإسلامي والعالم كله، على مفترق طرق، وأمام خيارين استراتيجيين وحاسمين؛ إذ إما الالتحاق بهذه الخطوة واتباع هذا النهج الثوري والحضاري الجديد، أو الانكفاء والاستمرار بالتمسك بالماضي والبقاء في الخنادق القديمة ومواصلة اجترار نظريات سياسية بائدة لم تعد تلائم القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة، ولم تعد مقنعة حتى للأجيال الشابة الصاعدة من أبناء هذه «الجماعة» التي بقيت ترفض التجديد وتعتبره رجسا من عمل الشيطان وتدعو إلى اجتنابه!!
وهنا للإنصاف، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن «إخوان» مصر و«إخوان» الأردن باتوا يعيشون بعد «تسونامي» الربيع العربي، الذي ضرب هذه المنطقة قبل نحو عام وأكثر، والذي لا يزال يضربها بعنف وقوة، حالة تململ داخلي قد تتبلور في النهاية إلى «مفاصلة» تنظيمية بين تيار إصلاحي أعطاه «الإخوان» السوريون بهذه الخطوة التاريخية الهائلة دفعة تشجيعية قوية، وبين تيار تقليدي متحجر يرفض الخروج من الخنادق، بل الكهوف القديمة، وحيث يطالب الإصلاحيون، الذين يمثلهم في مصر مؤيدو مرشح الرئاسة عبد المنعم أبو الفتوح والنائب السابق للمرشد محمد حبيب، بينما تمثلهم في الأردن مجموعة صغيرة بقيادة أحد المرشحين لموقع المراقب العام هو الشيخ عبد الحميد القضاة، بإعادة «الجماعة» الإخوانية إلى مهمة يوم تأسيسها وانطلاقها التي هي «الدعوة»، والابتعاد نهائيا عن أي ممارسات سياسية.
لقد أنهى الإخوان المسلمون السوريون، بهذه الخطوة التاريخية الرائعة والواعدة، كذبة أن الأقليات السورية مهددة بالفناء من قبل هذه «الجماعة» التي ادعى نظام بشار الأسد أنها تشكل خطر الإسلام السياسي السني على هذه الأقليات، والملاحظ هنا أن المستشرق سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، قد اتهم ثورة الشعب السوري، في تصريحات له قبل أيام انفردت بفضحها وبالرد عليها صحيفة «الشرق الأوسط»، بأنها تسعى لإقامة نظام سني مكان هذا النظام القائم الذي هو نظام طائفي، وليس نظام الطائفة العلوية. وهنا أيضا، ومن قبيل المراهنة على أن هذا الذي بادر إليه «إخوان» سوريا سيؤدي، بالإضافة إلى وضع حد لأكاذيب نظام بشار الأسد الذي بقي يروج لخطر وهمي داهم، على الأقليات الدينية السورية، إلى صحوة شاملة بالنسبة لحركات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها تنظيم الإخوان المسلمين في المنطقة العربية والعالم بأسره، فإنه لا بد من مصارحة هؤلاء «الإخوان» الأعزاء بأنه لا بد من استكمال خطوتهم هذه الهامة والتاريخية بخطوة لاحقة هامة وتاريخية أيضا، وهي الإبقاء على «الجماعة» كجماعة دعوية وإصلاحية لا علاقة لها بالسياسة، لا من بعيد ولا من قريب، والمبادرة وبسرعة، لأن عامل الوقت في غاية الأهمية، إلى إنشاء حزب سياسي جبهوي قد يحمل اسم «حركة التغيير والديمقراطية»، بإمكانه استيعاب أبناء الأقليات الدينية والطائفية والقومية، ويكون تنظيما مفتوحا أمام السوريين كلهم على مختلف انتماءاتهم المذهبية والطبقية، بإمكانه أن يشكل العمود الفقري للثورة السورية بشقيها المدني والعسكري، إن الآن في هذه المرحلة الصعبة والحاسمة التي تتطلب الوحدة وصب كل الجهود في اتجاه واحد، أو في المرحلة الانتقالية القريبة التي ستكون أدق المراحل وأخطرها، والتي يجب أن تُفضي إلى الدولة الوطنية المنشودة التي حدد مواصفاتها المشروع السياسي «الإخواني» الآنف الذكر، الذي تم الإعلان عنه بخطوطه العامة قبل أيام.
لقد انطلق «الإخوان» بالمشروع السياسي الذي أعلنوا عنه قبل أيام، انطلاقة هائلة ستكون بمثابة الشرارة التي ستلهب حقل منظمات وتنظيمات الإسلام السياسي في المنطقة العربية وفي العالم بأسره، ولهذا فإنه غير جائز أن يبقى هؤلاء يعيشون في جلباب تنظيم قديم ليس له أي علاقة لا بهذا العصر ولا بمنطلقاته واستحقاقاته، فجديدهم الذي أعلنوا عنه قبل أيام يتطلب اسما جديدا يتمتع بالرشاقة وبجاذبية استدراج الأجيال الصاعدة واحتوائها، وبخاصة من منهم من مكونات المجتمع السوري كلها، بما في ذلك الأقليات التي حاول هذا النظام الاستبدادي تجنيدها لتكون قوة مضادة للثورة، التي ثبت أنها لا مذهبية ولا طائفية ولا فئوية ولا عنصرية، وأنها للجميع ولشعب سوريا كله.
الشرق الأوسط
بلدٌ رائدٌ و… سهل
الخطوة التي اتخذتها قيادة “حزب النهضة” التونسي الحاكم وتحديدا زعيمها الشيخ راشد الغنوشي بالإعلان عن عدم تضمين الدستور التونسي الجديد النص على الاسلام كمصدر للتشريع، هي أهم دلالة على جدية تيار التحول الليبرالي المدني للحركات الاسلامية ذات الجذور الاصولية.
انها خطوة تتخطى في اهميتها الرمزية – حتى لو لم تصبح مؤكدة بعد بسبب الضغط من الداخل المتشدد لـ”حزب النهضة” و”الخارج” السلفي على الساحة التونسية – تتخطى “ميثاق” المبادئ الدستورية التي تتبناها حركة “الاخوان المسلمين” السوريين و المعلن مؤخرا. هذا الميثاق الذي رغم نزوعه الليبرالي التعددي المطمئن لا يحدد موقفا واضحا من “مصدرية” التشريع الاسلامي كما لا يزال بعض صياغاته المتعلقة بالمرأة غامضا- برشاقة- حيال اي تعهد بمساواتها بالرجل في “أعلى المناصب” السياسية (الفقرة 3). يُشار الى ان وثيقة عام 2001 التي أصدرها “الاخوان” السوريون تتحدث عن الاسلام كـ”مرجعية حضارية” لسوريا وليس الاسلام كمصدر رئيسي للتشريع في الدولة. مع العلم ان التاريخ السياسي المعاصر لسوريا، في بُعدٍ أساسي منه، هو تاريخ الصراع السياسي بين حزب البعث و”حركة الاخوان المسلمين”، التنافس الانتخابي في العهد الديموقراطي قبل 1958 وكان مرشح “البعث” يفوز أحيانا في قلب دمشق! ثم التنافس الدموي بعد استلام العسكريين البعثيين السلطة عام 1963 في محطات عديدة… الى المواجهة الشاملة الكبرى الجارية الآن. كان بندا “دين رئيس الدولة الاسلام” و”دين الدولة الاسلام” العنوانين الابرزين لمواجهات مباشرة بين الطرفين خلال سنوات السلطة البعثية العشر الاولى.
خطوة “حزب النهضة” الآتية من تونس، عدا عن نهضويتها، هي خطوة حكيمة وذكية ونتمنى ان تكون شجاعة لاحقا إذا واجهت اعتراضات متعصبة. اما حكمتها وذكاؤها فناتجان عن كون دستور 1959 الذي أعلن “حزب النهضة” التمسك بفصله الاول يؤكد على تونس”دولة حرة لغتها العربية ودينها الاسلام”. وبالتالي فان الخطوة تتلافى إنهاك الوضع الجديد في معركة داخلية مع الفئات العلمانية المتجذرة في الطبقات الوسطى.
هذه العقلانية الآتية من تونس يعرف معظم التونسيين أنها لن تهدد الاسلام بالمعنى التحريضي الذي يبثه المتعصبون. فتونس بلدٌ مسلمٌ، والاسلام كثقافة سيظل شخصيةَ البلد، والانفتاح الحضاري والسياسي العلماني في نظام ديموقراطي سيعزز هذه الشخصية لا العكس… ما تقوله تونس تحديدا هو أن الافق الليبرالي مفتوح فعلا داخل موجات الاسلام الاصولي. مفتوح… وانما داخل سياق صراعي عنيف وطويل.
تونس من هذه “الزاوية”… بلدٌ “سهل” قياسا بدول متعددة دينيا كمصر وسوريا رغم التكوين الأكثري المسلم لكل منهما. انه الفارق الجوهري بين المغرب والمشرق.
جهاد الزين
النهار
“اخوان” الدولة المدنية: ما لسورية لسورية
علي الامين
شكلت وثيقة “عهد وميثاق من جماعة الاخوان المسلمين في سورية” نقلة نوعية في تاريخ هذه الحركة و ما يعرف بالتيارات الاصولية الاسلامية. لا بل يمكن القول ان هذه الوثيقة التي صدرت في 25 الحالي اظهرت بوضوح وبشكل لا لبس فيه اسقاط المفهوم الايديولوجي “ان السلطة في الاسلام هي شأن الهي” الذي تبناه التيار السياسي الاسلامي والاصولي الاعرق بين التيارات الاصولية في العالم العربي والاسلامي، اي حركة الاخوان المسلمين واخواته.
نصت “الوثيقة العهد”في بنودها العشرة البالغة الدقة والوضوح، على هذا التطور النوعي في النظرة الى السلطة، وفي بندها الثالث تحديدا نصت على: يلتزم “الاخوان” في سورية بدولة مواطنة ومساواة، يتساوى فيها المواطنون جميعا،على اختلاف اعراقهم واديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، تقوم على مبدأ المواطنة التي هي مناط الحقوق والواجبات، يحق لأي مواطن فيها الوصول الى اعلى المناصب، استنادا الى قاعدتي الانتخاب او الكفاءة. كما يتساوى فيها الرجال والنساء في الكرامة الانسانية، والاهلية، وتتمتع فيها المرأة بحقوقها الكاملة”.
ايديولوجيا، السلطة صارت عند “الاخوان” شأن بشري، وهذا يمثل نقلة نوعية في تطور الفكر السياسي لدى هذا التيار، ولفئة واسعة من الاسلاميين بصورة عامة. لقد انتهى بموجب هذه الوثيقة الزمن الذي يمكن فيه المطالبة بالسلطة على اساس ديني صرف. واهم ما في هذه الوثيقة انها جاءت في الاتجاه الذي يعزز من فكرة المواطنة، التي كان يحول دونها لدى العديد من التيارات مسار المرحلة الاسلاموية السابقة.
وفيما برزت في مواجهة هذه الوثيقة من غير الاسلاميين تحديدا مخاوف من ان يكون هذا الخطاب، هو السبيل للوصول الى السلطة تمهيدا للانقلاب عليه. ازاء ذلك يمكن الاشارة الى امرين: الاول، ان هذا العهد لا يمكن لحركة “الاخوان” في سورية ان تتراجع عنه لأنه جاء تعبيرا عن حراك فكري وسياسي في داخلها، وفي خضم تحديات سياسية فرضتها الثورات العربية وساهمت في بلورة هذا التجديد. الثاني،ان هذا التيار على اهميته وعراقته في سورية، لا يشكل العنصر الوازن الذي يستطيع بمفرده ان يحدد اتجاهات السلطة المستقبلية في هذا البلد ، فالاغلبية الساحقة من الشعب السوري تتبنى مضمون هذه الوثيقة، والتي بالتأكيد سيكون لها مثيلاتها، التي تعبر بمجملها عن تطلعات الشعب الى سورية الجديدة، ذات النظام الديمقراطي التعددي المستند الى الشرعية الشعبية. وهذا ما نلمس تأثبره منذ “الربيع العربي” ومع الثورة السورية على مجمل حركات النهوض العربية والاسلامية.
ويعكس هذا التجديد الذي تحمله الوثيقة على مستوى حركات الاسلام السياسي الخلوص الى ان الاسلام لا يمتلك عصا سحرية لتغيير الواقع، وان من التحامل والظلم تحميل الاسلام هذا الفهم ، وان الاسلام دين لم يأت بمفاتيح سحرية بحيث يمكن للبشر اذا ما استعملوها تذليل كل العقبات التي تواجههم.
ساهم في هذا الانتقال والتحول، التحديات التي يطرحها الربيع العربي اليوم في مواجهة الاستبداد، عبر صوغ مشروع النهوض الوطني على المستوى العربي، وهو مشروع اكبر من ان يختصره تيار في المجتمع، بل يحتاج اكبر عدد ممكن من الاصوات الفكرية والسياسية لكي تساهم بصوغه. فاخطر ما واجه شعوب المنطقة في العقود السابقة ويواجهها اليوم هو التفرد في انتاج مشروعات النهوض وفي عملية السعي لتحقيقها.
في الربيع العربي وتطلعاته «الإسلاميون لم يختفوا لكنهم تغيَّروا» كما يقول «اوليفيه روا» الباحث الفرنسي المتخصص بشؤون الحركات الإسلامية. ويمكن الاضافة انطلاقا من “عهد” الاخوان المسلمين في سورية هو الانتقال من أدلجة سياسية للدين إلى أدلجة حقوقية له. ما جعل الإسلام ينتقل من مجال الدولة والحكم إلى مجال الفرد والمجتمع، ويتحول إلى قوة تحفيز أخلاقي ووجداني، وقوة إسناد معنوي، في مطالبة وسعي الفرد في أن ينعم بحياة حرة وكريمة.
واذا كان ثمة صمت حتى الان حيال التعليق دينيا وفكريا على هذه الوثيقة من قبل التيارات الاسلامية الاصولية، وتحديدا تلك التي تتبع منظومة ولاية الفقية في ايران، باعتبار ان هذه التيارات لاتزال تربط شرعية السلطة بالشأن الالهي، ففي نظرية ولاية الفقيه السلطة لا تكتسب شرعيتها من خارج سلطة الفقيه. وبهذا المعنى يمكن القول ان وثيقة الاخوان المسلمين في سورية تمايزت ايديولوجيا عن الرؤية الايرانية الرسمية في النظر الى شرعية السلطة، مسوغه الى جانب القراءة النقدية لتجربة الاسلام السياسي عموما، رسوخ فكرة في الشارع العربي مفادها: ان قضية الإنسان العربي اليوم هي الحرية، التي بها وحدها يعيد الإعتبار لذاته عند نفسه وعند الآخرين.
صدى البلد
وثيقة العهد للإخوان المسلمين السوريين
ماجد كيالي
أعلن رياض الشقفة الأمين العام لحركة الإخوان المسلمين في سوريا ونائبه صدر الدين البيانوني، في مؤتمر صحفي (25 مارس/آذار 2012)، “وثيقة عهد” لسوريا المستقبل تضمّنت رؤية الحركة لقيام “دولة مدنيّة حديثة، تقوم على دستور مدنيّ.. يحمي الحقوقَ الأساسية للأفراد والجماعات.. ويضمن التمثيلَ العادل لكلّ مكوّنات المجتمع.. دولة تحترمُ المؤسّسات، وتقومُ على فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.. دولة ديمقراطية تعددية تداولية.. ذات نظام حكم جمهوريّ نيابيّ، يختار فيها الشعب من يمثله ومن يحكمه.. دولة يكون فيها الشعبُ سيدَ نفسه.. دولة مواطنة ومساواة، يتساوى فيها المواطنون جميعاً، على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم.. يحقّ لأيّ مواطنٍ فيها الوصول إلى أعلى المناصب، استناداً إلى قاعدتي الانتخاب أو الكفاءة. كما يتساوى فيها الرجالُ والنساء.. دولة تلتزم بحقوق الإنسان.. من الكرامة والمساواة، وحرية التفكير والتعبير، وحرية الاعتقاد والعبادة، وحرية الإعلام، والمشاركة السياسية، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية.. دولة العدالة وسيادة القانون، لا مكانَ فيها للأحقاد، ولا مجالَ فيها لثأر أو انتقام.. دولة تعاون وألفة ومحبة، بين أبناء الأسرة السورية الكبيرة، في ظلّ مصالحة وطنية شاملة.”
في الواقع، فإن هذه الوثيقة، ومن مختلف المعايير، تعتبر بمثابة ثورة في التفكير والنضج السياسيين عند هذه الحركة. فهي، أولاً، تشكّل افتراقا، بمعنى ما، عن بعض الأفكار الضيّقة التي شابت هذه الحركة ومثيلاتها من حركات الإسلام السياسي، في محاولاتها للمماهاة بين الدنيوي والديني، وبين البشري والمقدّس، وبين السياسي والروحي، وهو ما تم اختزاله في شعار: “الإسلام هو الحلّ” وفي تعريف الأمّة بأمّة الإسلام الممتدة في أصقاع الأرض وبتحديد المواطنة نسبة إلى الدين (الإسلام)، وفي رفض الدولة الوطنية الزمنية للرجوع إلى زمن دولة الخلافة لا التاريخية وإنما المتخيّلة.
ثانياً، إن هذه الوثيقة تأتي بالتفارق، أيضاً، مع الخطابات السائدة في الحركات الإسلامية الأخرى، وضمنها حركة الإخوان المسلمين الأمّ (في مصر)، التي ما زالت تصرّ على اعتبار الشريعة الإسلامية بمثابة المصدر الأساسي للتشريع، والتي لا تقبل برئاسة غير المسلم أو المرأة للدولة؛ إذ لم تتضمّن “وثيقة العهد” النصّ على مصدر التشريع، في حين إنها حدّدت لرئاسة الدولة معايير الكفاءة والانتخابات، وليس الدين أو الجنس.
ثالثاً، مع أن ثمة سوابق لهذه الحركة في إصدار هكذا وثائق في سياق تفاعلاتها مع قوى وطنية أخرى (2001-2004)، إلا أن هذه الوثيقة تعتبر بمثابة محاولة منها للتجاوب مع متطلّبات الثورة السورية وتفاعلاتها السياسية والمجتمعية، لجهة الانفتاح على مكوّنات الشعب السوري، وإبداء الاحترام لواقع سوريا بتنوّعها وتعدّديتها (الدينية والإثنية)، كما أنها تأتي استجابة لحاجات الواقع ومتطلّبات التطوّر للدولة والمجتمع السوريين.
كذلك ففي هذه الوثيقة نوع من محاكاة للعالم، لجهة المصالحة بين الإسلام وحقائق العصر، ما تجلى في القول بقبول الدولة المدنيّة والاحتكام للدستور والقوانين الوضعية والمواطنة المتساوية، ونبذ الإرهاب والاعتراف بالعهود والمواثيق الدولية.
الآن، لا شكّ أن ثمة تحفّظات ومخاوف مشروعة وغير مشروعة، طبيعية ومصطنعة، عند كثيرين من الذين لا يؤمنون بأي دور لحركات الإسلام السياسي، أو عند الذين لا يثقون بها، ويأخذون عليها شبهة انتهاج سياسة “التقيّة” لتهدئة المخاوف الناجمة عن تنامي دورها في مجريات الثورة السورية.
ومع التأكيد بأن هذه المخاوف والتحفّظات إنما هي نتاج التخوّف من ميل غالبية حركات الإسلام السياسي لوسيلة العنف لفرض ذاتها، ومن ممانعتها للحداثة، إلا أنها صادرة في أغلبيتها عن نزعات أيديولوجية هوياتيّة، جاهزة وجامدة ونمطيّة، مفادها أن هذه الحركات في تكوينها الديني لا تؤمن بالدولة المدنيّة ولا بالديمقراطيّة ولا بتداول السلطة، وهي نزعات عملت الأنظمة الاستبدادية أصلاً على تغذيتها لتكريس سلطتها.
طبعا من حقّ أيٍّ كان أن يكون له رأيه في هذه الوثيقة، لكن لا يمكن الحكم عليها بشكل مسبق، فما بعد الثورات الشعبية العربية، ليس كما قبلها، فقد ظهر الشعب على مسرح التاريخ، وبات يعرف حقوقه وبات يدرك أنه سيد مصيره، ومعنى ذلك أن هذا التطور عند حركة الإخوان المسلمين ينبغي أن يخضع للاختبار للتقرير بشأنه.
وفي الواقع ثمة كثير من التعسّف في التعاطي الأيديولوجي مع ظاهرة دخول الإخوان المسلمين إلى الحياة السياسية مع الثورات الحاصلة، والمشكلة أن ذلك يفيد، أو يخدم، قبول استمرار العيش في واقع الاستبداد المقيم. وعدا عن ذلك فإن بعض الرافضين لحقيقة وجود تيار إسلامي مستنير يتجاهلون طبيعة مجتمعاتهم وثقافتها التاريخية، لكأنهم يعيشون في مجتمع سويسري أو سويدي، ويتناسون أنهم أنفسهم ينطلقون من خلفيات أيديولوجية ومن مواقف تتناقض مع الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، وتضرّ بقضية التعدّدية والتنوّع والمواطنة في المجتمع.
ثمة مشكلة أخرى عند بعض هؤلاء أيضا، تتمثّل في أنهم يقبلون بوجود تيارات إسلامية أقلّ استنارة وأكثر استبدادية بذرائع “وطنية”، مما يعني أن ثمة معايير مزدوجة هنا. فكثير من المعترضين على حركة الإخوان المسلمين تجدهم يقبلون “حزب الله” في لبنان، علماً أنه حزب إسلامي وطائفي، والأنكى أنه يتبع ولاية الفقيه، أي إنه حزب عابر للحدود ويستمدّ مرجعيته من “الوليّ الفقيه” في إيران، وحتى أنه لا يتوانى عن التهديد باستخدام القوّة لتعديل موازين القوى الداخلية في لبنان.
ولعلّ المشكلة الأساسية لأصحاب هذه التخوّفات تكمن في رفضهم الاندراج في عملية كسر حلقة الاستبداد الصلبة والقاسية والبشعة المسؤولة عن خراب دولنا ومجتمعاتنا، كما في ضعف إدراكاتهم لمسؤولية هذه الحلقة عن ضعف التيارات التنويرية والعقلانية والليبرالية في مجتمعاتنا، وانتعاش تيارات الإسلام السياسي على حسابها.
على ذلك فإن رفض وجود المكوّن السياسي الإسلامي لدى هذه الاتجاهات يتكشّف عن نوع من مفارقة قوامها إضفاء نوع من الشرعية الأخلاقية على الاستبداد والاستبعاد والتمييز، وفي أن هذا الرفض يتناقض مع الحرية والكرامة والمساواة والديمقراطية، التي تدّعي هذه الاتجاهات الذود عنها.
لذا لا يجوز، لاعتبارات أيديولوجية، أو حتى لاعتبارات الحفاظ على نوعية عيش فئات معيّنة، تهميش أو عدم قبول أو إقصاء أحد مكونات التيارات والحركات السياسية والفكرية العربية، وهو المتمثل بالتيار الإسلامي، فهذا يتنافى مع أبجديات الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير والمواطنة وحقوق الإنسان.
وفضلاً عن كل ذلك فإن هذا الموقف يتعاطى مع الأمر وكأن ثمة جوهرا ثابتا في المجتمعات -كما الحركات السياسية- الإسلامية قوامه عدم القابلية للحداثة والعقلانية والديمقراطية، وهي نظرة مستمدّة من العقليات العنصرية الاستعمارية في الغرب، في حين أن التجربة التاريخية والمعاشة تثبت عكس ذلك.
ففي التجربة السورية السابقة تبوأ فارس الخوري رئاسة الحكومة السورية عدة مرّات، ولم تشهد سوريا في تاريخها الماضي أية حساسيات طائفية. وقد ثبت في مصر أن بعض النزاعات الطائفية كانت مدبّرة من قبل أجهزة النظام. فوق ذلك فكما في سوريا ثمة أيضا في مصر وتونس مقاربات من التيارات الإسلامية باتجاه الدولة المدنية والقوانين العصرية والحكم الديمقراطي. وهنا ينبغي ملاحظة أن التيار الإسلامي لم يعد نفسه، كما في الخمسينيات إلى الثمانينيات، وأن مجتمعاتنا لم تعد هي ذاتها أيضا كذلك، بفضل مسارات العولمة والحداثة والتطوّر التقني، والثورات الحاصلة.
لكن كل ذلك لا يعني أنه ليس ثمة مشكلات ناجمة عن تسييس الدين بدل تنزيهه، وعن أسلمة السياسة بدل اعتبارها شأنا دنيوياً تخصّ مصالح البشر ونزعاتهم الغريزية وأهواءهم الشخصية، لكن ذلك يعني أن ثمة واقعا من حركات سياسية إسلامية لا ينبغي تجاهلها، أو تجاهل حقّ أفرادها في التعبير عن ذواتهم، لأن إتاحة الفرصة لهؤلاء للتعبير عن ذاتهم ربما هو الشرط اللازم لتحويلهم إلى سياسيين عاديين، ولوضع أفكارهم في مختبر الحياة الواقعية لنقلها من الحيّز الديني إلى الحيّز السياسي الواقعي، ومن حيّز المقدّس إلى أفكار بشرية تحتمل الخطأ والصواب والكذب والصدق والتورية والتلاعب.
هكذا ينبغي وضع هذه الظاهرة في محكّ التجربة وفي اختبار الواقع، مثلما اختبرت من قبل الظاهرتان السياسيتان المحمولتان على فكرتي الشيوعية والقومية، فكلما خاض هذا التيار في معمعان التجربة العملية واختباراتها وتحدياتها، من شؤون البلديات إلى السكن والعمل والتموين والصحة والتعليم، قلّ البعد الأيديولوجي والبعد المقدس فيها.
في كل الأحوال فقد قالت حركة الإخوان المسلمين السورية قولها بشأن المستقبل، ويبقى أن القوى الأخرى (اليسارية والقومية والوطنية والليبرالية والعلمانية) معنية بنفس المقدار بأن تقول قولها، أيضاً، فهي ليست معفاة من ذلك، لا سيما أن هذه القوى لم يثبت في التجربة أنها ديمقراطية تماماً أو أنها مع دولة المواطنين الأحرار المتساوين أمام القانون حقاً.
ولعل ما ينطبق على هذه القوى ينطبق أيضا على حزب الله في لبنان كما على مجمل حركات الإسلام السياسي (في العراق وفلسطين وغيرهما) من التي لم تقل كلمتها في هذه الأمور بعد، ومن التي لم تصل في تفكيرها السياسي إلى الحدّ الذي وصلته وثيقة الإخوان المسلمين في سوريا.
ومعنى ذلك أن المطلوب التعامل بديمقراطية وعقلانية وبمعايير واحدة مع مختلف التيارات التي من المفترض مطالبتها أيضاً بـ”وثيقة العهد” خاصّتها، بحيث يصبح بالإمكان إعلاء شعار: “الدين لله والوطن للجميع”، وهو شعار لمعنى وطن يتعايش فيه جميع المواطنين، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والإثنية والسياسية والفكرية بحرية وفي إطار من المساواة أمام القانون وفي إطار من تكافؤ الفرص.
أما بالنسبة للمخاوف المشروعة المتعلّقة بإمكان ارتداد هذه الحركة عن مضامين هذه الوثيقة، على ضوء التجارب السابقة، فهو أمر لا يمكن التيقّن منه، إلا في اختبارات الواقع والتجربة، فضلاً عن أن ذلك يصدق، أيضاً، على كل التيارات التي صعدت إلى السلطة أو التي تحالفت مع السلطات الاستبدادية القائمة، وضمنها تيارات قومية ووطنية ويسارية وليبرالية وعلمانية.
على أية حال فإن التيارات الأخرى (اللادينية) مطالبة بالإقلاع عن سياسة ندب حظّها، والعتب على مجتمعاتها، وإلقاء اللوم على الإسلاميين الذين فازوا بالحصّة الكبرى في انتخابات البرلمانات، وتقبّل واقع أن هذه القوى تمثل جزءاً من المجتمع، وأن مجتمعاتنا ليست مجتمعات إسكندنافية وإنما هي مجتمعات ما زالت تغلب عليها أصلا الثقافة العربية الإسلامية، لا سيما في ظل السلطات التي أعاقت الحداثة والدولة والمواطنة.
وينبثق مما تقدم أن التيارات اليسارية والليبرالية والعلمانية والقومية والوطنية معنية بمراجعة سياساتها وأفكارها وطرق عملها، والتخلّص من البعد الأيديولوجي الهويّاتي في الترويج لذاتها، ومن شبكة العلاقات التي استمرأت العيش عليها في ظل السلطات القائمة؛ وهي العوامل التي أفقدتها هويتها وعزلتها عن مجتمعها، بمعنى أن على هذه القوى أن تجدّد ذاتها وأن تجد هويتها وقضيتها.
مع كل ذلك فإن حركة الإخوان المسلمين معنيّة بتأكيد صدقيّتها بتحويل الوثيقة إلى نوع من ثقافة سياسية لمجمل قواعدها، كما بتأكيد نبذها العنف في علاقاتها مع القوى الأخرى، وفي انحيازها للعقل وقيم الحرية والمساواة والمواطنة وقبول الأخر، أي المختلف معها، في صوغ التشريعات وفي إدارة الدولة والمجتمع. ويأتي ضمن ذلك عدم الادعاء باحتكار تمثيل الإسلام، أو احتكار تفسير الإسلام، ليس لأن هذا يناقض حرية الرأي والتفكير والاعتقاد فقط، بل إن ثمة إسلاما واسعا شعبيا، غير سياسي، مما يعني اعتراف حزب الإخوان المسلمين باعتباره حزبا سياسياً، كغيره من الأحزاب.
قصارى القول لا حلّ لمجتمعاتنا إلا بالتخلص من الدولة الاستبدادية وإقامة الدولة الديمقراطية المدنية، التي لا هي عسكرية ولا هي دينية، وإنما هي دولة مواطنين أحرار متساوين أمام القانون، بدون أي تمييز من أي نوع كان.
فقط في هكذا دولة يمكن إعادة اللحمة الوطنية لمجتمعاتنا، وتنظيم مواردها وطاقاتها، وإدارة اختلافاتها، وتحويل التعددية والتنوع فيها إلى عامل إثراء لحياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية. وفي هكذا دولة لا يمكن أن يكون ثمة تخوّفات من أي نوع، لا أمنية ولا نفسية ولا عقيديّة ولا وجودية، وإنما ثمة تعايش مشترك وقبول متبادل ومستقبل واحد.
عموما فإن ما قامت به حركة الإخوان المسلمين السورية هو خطوة في الاتجاه الصحيح يؤمل أن تترسّخ وأن تتطوّر وأن تتحوّل إلى ثقافة عامة في الحركة، وأن لا تقتصر على قياداتها، وأن لا تكون وليدة ظرف راهن، ولنأمل أن البقية ستأتي، وأن باقي التيارات الأخرى ستقدم إسهاماتها الخاصّة في هذا المجال.
الجزيرة نت
الثورة السورية والمراجعة الإخوانية
ماجد كيالي
بغضّ النظر عن عفويّتها وافتقادها للبرامج النظريّة والهياكل التنظيميّة والقيادة الكاريزميّة، وبغضّ النظر عن نواقصها ومشكلاتها، فإن الثورات الشعبية الحاصلة في عديد من البلدان العربية أحدثت نوعاً من ثورة في الثقافة السياسية السائدة.
فهذه الثورات مكّنت المواطنين من التعرّف على ذواتهم، أي على معنى مواطنيتهم في وطن متعيّن، كما على معنى تشكّلهم الجمعي كشعب في دولة محدّدة، تماماً مثلما مكّنتهم من التعرّف على حقّهم في المشاركة السياسية، باعتبار ذلك جزءاً من متطلّبات المواطنة والحقوق الشخصية، بعد أن كانت هذه تعتبر من الممنوعات وربما المحرّمات أو بمثابة توكيل قدري أو سماوي لا شأن لهم بها.
وعلاوة عن أن هذه الثورات اقتلعت الخوف المقيم في قلوب الناس، فهي عمّقت إدراكاتهم، أيضاً، لمعنى الحرية والكرامة والمواطنة والدولة والدستور والقانون وتداول السلطة والديمقراطية والقانون، محقّقة في كل ذلك نقلة نوعية غير مسبوقة في إدراكاتهم السياسية، قد لا يتحصّلون عليها في عقود.
على صعيد أخر فقد أحدثت هذه الثورات هزّة عنيفة داخل الأحزاب والتيارات والمنظومات السياسية السائدة، أيضاً، التي فاجأتها هذه الثورات، وضعضعت يقينيّاتها ورؤيتها عن دورها وعن توهّماتها، والتي وجدت نفسها في ذيل الحركات الشعبية التي تجاوزتها، بنضاليّتها وتضحياتها وشعاراتها، وربما بمفاهيمها.
هذا حصل مع الجميع، أي مع الأحزاب والتيارات والمنظومات السياسية السائدة، اليسارية والدينية والليبرالية والعلمانية والقومية والوطنية. لكن ما يمكن ملاحظته في هذا الإطار أن تيارات الإسلام السياسي كانت هي الأكثر مبادرة إلى مراجعة أوضاعها وأشكال عملها وخطاباتها، وتحشيد صفوفها، من باقي القوى والتيارات الأخرى، التي ظلّت عاجزة ومشتّتة؛ وهو ما شهدنا حصوله في مصر وتونس.
في هذا الإطار يمكننا فهم المبادرة التي أقدمت عليها حركة الإخوان المسلمين في سوريا والمتمثلة بإصدار “وثيقة العهد”، التي تتضمّن رؤيتها لسورية المستقبل، باعتبارها “دولة مدنيّة حديثة، تقوم على دستور مدنيّ…يحمي الحقوقَ الأساسية للأفراد والجماعات من أيّ تعسّفٍ أو تجاوز، ويضمن التمثيلَ العادل لكلّ مكوّنات المجتمع…دولة تحترمُ المؤسسات، وتقومُ على فصل السلطات..دولة zيمقراطية تعددية تداولية… ذات نظام حكم جمهوريّ نيابيّ، يختار فيها الشعب من يمثله ومن يحكمه…دولة يكون فيها الشعبُ سيدَ نفسه…دولة مواطنة ومساواة، يتساوى فيها المواطنون جميعاً، على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم…يحقّ لأيّ مواطنٍ فيها الوصول إلى أعلى المناصب، استناداً إلى قاعدتي الانتخاب أو الكفاءة. كما يتساوى فيها الرجالُ والنساء… دولة العدالة وسيادة القانون، لا مكانَ فيها للأحقاد، ولا مجالَ فيها لثأر أو انتقام.. حتى أولئك الذين تلوثت أيديهم بدماء الشعب، من أيّ فئة كانوا، فإنّ من حقهم الحصولَ على محاكمات عادلة، أمامَ القضاء النزيه الحرّ المستقل.”
هذه الوثيقة هي في مختلف المعايير، بمثابة ثورة في التفكير السياسي لهذه الحركة، وهي تشكّل افتراقا، بمعنى ما، عن بعض الأفكار الضيّقة التي شابت هذه الحركة، ومثيلاتها، في محاولاتها الدؤوبة للمماهاة بين الدنيوي والديني، وبين البشري والمقدس، وبين السياسي والروحي، والتي تم اختزالها في شعار: “الإسلام هو الحلّ”، وفي تعريف الأمة بأمة المسلمين، وفي تحديد المواطنة بالدين أي بالمسلمين، وفي رفض القبول بالدولة الوطنية الزمنية، وبالحنين إلى العودة إلى زمن الخلافة العادلة (المتخيّلة).
ففي هذه الوثيقة ثمة مصالحة بين الإسلام وحقائق العصر، وهو ما تجلى بقبول الدولة المدنيّة، والاحتكام للدستور والقوانين الوضعية. وهنا ثمة قبول بالآخر وبالمواطنة الحرة المتساوية وبعدم النص على دين الرئيس وقبول حتى بتولي المرأة مكانة الرئاسة.
ومع أن ثمة سوابق لهذه الحركة في إصدار هكذا وثائق (2001ـ2004)، في سياق تفاعلاتها مع قوى وطنية أخرى، إلا أن إصدارها في هذه المرحلة يعبّر عن مدى النضج والتطور في التفكير السياسي لهذه الحركة، وعن استجابتها لمتطلبات الثورة السورية، وللتفاعلات السياسية الحاصلة في المجتمع السوري.
طبعا ثمة تحفّظات ومخاوف، مشروعة وغير مشروعة، طبيعية ومصطنعة، عند كثير من الذين لا يؤمنون بأي دور لحركات الإسلام السياسي، أو عند الذين لا يثقون بها، ويعتبرون الوثيقة مجرّد خطوة تكتيكية ونوع من ممارسة لسياسة “التقية”، لتهدئة المخاوف الناجمة عن تنامي دور هذه الحركة في مجريات الثورة السورية، ويأتي في اعتبار هؤلاء أن هذه الحركات في تكوينها الديني لاتؤمن بالدولة المدنية ولا بالديمقراطية ولا بتداول السلطة.
ومع التأكيد على المشكلات الناجمة عن تسييس الدين بدل تنزيهه، وعن أسلمة السياسة بدل اعتبارها شأنا دنيوياً، تخصّ مصالح البشر ونزعاتهم الغريزية وأنانياتهم الشخصية وأهواءهم، ثمة وقائع من حركات سياسية ـ إسلامية لا ينبغي تجاهلها، أو تجاهل حقّ أفرادها في التعبير عن ذواتهم، وهذا من مستلزمات الديمقراطية اصلاً. وفي الواقع فإن إتاحة الفرصة لهؤلاء للتعبير عن ذاتهم، ووضع افكارهم في مختبر الحياة، ربما هو الشرط اللازم لتحويلهم إلى سياسيين عاديين، ولنقل افكارهم من حيّز المقدّس المتخيّل إلى أفكار بشر، تحتمل الخطأ والصواب، والكذب والصدق، والتورية والتلاعب.
أما بالنسبة للمخاوف المشروعة المتمثلة بتراجع هذه الحركة عن مضامين الوثيقة، على ضوء التجارب السابقة، فهو أمر لايمكن التيقّن منه، فضلاً عن أن ذلك يصدق على كل التيارات التي صعدت إلى السلطة أو تحالفت مع السلطات الاستبدادية القائمة، وضمنها تيارات قومية ويسارية وليبرالية وعلمانية ووطنية من تلك التي لم تثبت صدقيتها في الدفاع عن قضايا الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية في مجتمعاتها.
وبالتأكيد فإن حركة الإخوان المسلمين معنية لتأكيد صدقيتها في هذا الأمر بتحويل هذه الوثيقة إلى نوع من ثقافة سياسية لمجمل قواعدها، كما إنها معنية بتأكيد ثقافة نبذ العنف في علاقاتها مع القوى الأخرى، وفي انحيازها للعقل وقيم الحرية والمساواة والمواطنة وقبول الأخر في صوغ التشريعات وفي إدارة الدولة والمجتمع.
في كل الأحوال فقد قالت حركة الإخوان المسلمين قولها بشأن المستقبل، ويبقى أن القوى الأخرى (اليسارية والقومية والوطنية والليبرالية والعلمانية) معنية بنفس المقدار بأن تقول قولها أيضاً فهي ليست معفية من ذلك، لاسيما أنها لم تثبت في التجربة بأنها ديمقراطية تماماً أو أنها مع دولة المواطنين الأحرار المتساوين أمام القانون حقاً، وهذا ينطبق على حزب الله في لبنان وعلى مجمل حركات الإسلام السياسي (في العراق وفلسطين وغيرهما) من التي لم تقل كلمتها في هذه الأمور بعد، ومن التي لم تصل في تفكيرها السياسي إلى الحدّ الذي وصلته وثيقة الإخوان المسلمين في سوريا.
عموما فإن ما قامت به حركة الإخوان المسلمين في سوريا هو خطوة في الاتجاه الصحيح يؤمل أن تترسّخ وأن تتحول إلى ثقافة عامة في الحركة، وان لاتقتصر على قياداتها، وان لاتكون وليدة ظرف راهن، ولنأمل أن البقية ستأتي، وأن باقي التيارات الأخرى ستقدم إسهاماتها الخاصّة في هذا المجال، لمصلحتها ولمصلحة شعبها وبلدها.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى