صفحات العالم

سورية: التوريث والأخطاء القاتلة


خالد الدخيل

من الواضح أن حافظ الأسد نجح في بناء مؤسسة أمنية قوية بقدرات عسكرية عالية، للنظام الذي أعاد تأسيسه في خريف 1970. الأداء العسكري للنظام هذه الأيام يؤكد ذلك، والأعداد الكبيرة ممن قضوا على يده، ومن شردهم، ومن اعتقلهم من السوريين، ومن حجم الدمار الذي يوزعه على معظم مدن وقرى سورية خير شاهد على ذلك. لكن من الواضح أن النظام السوري فشل في كل شيء آخر، وأبرز معالم هذا الفشل أنه أشعل حرباً أهلية لا يستطيع بعدما يقرب من 16 شهراً أن يكسبها، ولا أن يوقفها، ولا حتى أن يخسرها. وصلت الأمور إلى حد المأزق، لأن النظام فقد السيطرة على سياق الأحداث. يملك النظام قوة تدميرية هائلة مقارنة مع المعارضة، وسقفه في التدمير والقتل مرتفع جداً حتى عن سقف إسرائيل، لكنه لم يعد يملك القدرة على حماية نفسه من السقوط. كل ما يملكه هو رفع كلفة هذا السقوط، وهو ما يفعله الآن، وربما لهذا اقترح الرئيس الأسد على كوفي أنان هدنة تسمح بخروج متزامن من المواقع الحساسة لقوات النظام وقوات المعارضة، وأن يضمن خروجاً آمنا لهذه الأخيرة. قد يكون في ذلك خدعة، لكن الأرجح أنها تعبير عن عجز بدأت بوادر استيعابه تظهر للعلن.

هنا يبرز السؤال: كيف نجح الأسد الأب في سحق انتفاضة حماة عام 1982 في ثلاثة أسابيع، وحصرها بحيث لم تنتقل عدواها إلى مدن أخرى، في حين فشل ابنه في السيطرة على انتفاضة درعا، ومنع انتقالها إلى أنحاء سورية؟

درعا مدينة ريفية وأصغر من حماة، وتقع في منطقة نائية عن المدن الكبرى، ثم إن ما حصل في حماة كان ذروة مواجهة شرسة بين النظام و»الإخوان المسلمين» بدأت عام 1979. أما ما حصل في درعا فلم يكن إلا محاولة أطفال لتقليد ما كانوا يسمعونه من شعارات الربيع العربي التي كانت تتردد بشكل يومي على شاشات الفضائيات. كان بالإمكان معالجة الموقف بشيء من الحكمة، لكن قسوة النظام وشراسته تعكس من ناحية طبيعته الحقيقية، ومن ناحية أخرى ارتباكه في ظل أجواء الانتفاضات الشعبية. نجح الأسد الأب لثلاثة أسباب: الأول أن الانتفاضة اقتصرت بشكل أساسي على حماة، وثانياً أنها حصلت قبل الربيع العربي بحوالى ثلاثين سنة، وثالثاً أن حافظ الأسد كان آنذاك يتمتع بغطاء عربي ودولي سمح له بتدمير المدينة وفرض تعتيم إعلامي على ما كان يحدث. الرئيس الشاب يفتقد هذه الميزات الثلاث، ومع ذلك تصرف مع أطفال درعا بالطريقة نفسها التي تصرف بها والده مع حماة، غير آبه أو غير مدرك لأهمية الاختلافات الكبيرة بين الحالتين، بما في ذلك اختلاف الظروف المحيطة بهما، وبخاصة اختلاف الظرف الإقليمي والدولي وعلاقته الوثيقة بما كان يحدث في كل منهما. لم تتحول انتفاضة حماة إلى ثورة شعبية تشمل غالبية سورية، أما انتفاضة درعا فتوسعت لتصبح انتفاضة في كل أنحاء سورية تطالب بإسقاط النظام. وبما أن سياسة النظام واحدة في الحالتين، فإن هذا الاختلاف يعود بشكل أساسي إلى اختلاف طبيعة الانتفاضتين، واختلاف الظروف المحيطة بكل منهما، وبالتالي فإن المسؤولية في عدم تقدير هذه الاختلافات، وما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات خطرة تعود بشكل حصري إلى قيادة النظام السياسي للرئيس بشار الأسد. السؤال: لماذا فشل الرئيس في إدراك هذا الاختلاف بما يمكنه من احتواء أحداث درعا، ومنعها من التحول إلى شرارة ثورة تطالب بإسقاطه؟

بدأ مأزق الرئيس الشاب قبل الثورة بسنوات، وتحديداً مع عملية التوريث التي أوصلته للحكم. كان التحضير والترتيب لهذه العملية أمنياً وسرياً، وعندما توفي الأسد الأب تمت عملية التوريث بشكل مموّه، إذ تم تعديل المادة الدستورية المتعلقة بسِنّ الرئيس لتلائم سنّ الوريث خلال أقل من نصف ساعة، ثم صوّت مجلس الشعب، وبعده أجرى استفتاءً شعبياً تحت إشراف وزارة الداخلية لإعطاء مسحة انتخاب للرئيس الجديد، أي أن النظام كان في حالة تناقض حاد مع نفسه، فأقر التوريث، لكنه لا يستطيع الاعتراف بذلك، ولا يستطيع إعطاءه صفة رسمية دستورية، لأن هذا يتطلب تعديلاً دستورياً يغير من طبيعة وأسس الجمهورية، ولم يكن هذا متاحاً. بعبارة أخرى، أضعف التوريث موقف الرئيس الجديد، أضف إلى ذلك أن التوريث اقتضى تجاوز كل القيادات الكبيرة، سياسية وعسكرية، والتي شاركت الأسد الأب في بناء النظام، وإحالة بعضهم على التقاعد، ونشأ نتيجة ذلك صراع بين الحرس القديم والحرس الجديد الذي جاء مع الوريث الجديد على رأس الحكم، وهو ما يعني أن الرئيس بشار كان في سنوات حكمه الأولى يستشعر هاجس تهديد داخلي. في تلك الأثناء حصل الغزو الأميركي للعراق، وسقوط نظام صدام حسين خلال ثلاثة أسابيع من بدء الغزو. حينها بدا واضحاً أن القيادة الجديدة في دمشق وجدت نفسها، وفي أيامها الأولى، أمام تطور إقليمي ودولي لم تتهيأ له، وبدا واضحاً من تصرفات هذه القيادة أن الخوف قد استولى عليها من التداعيات المحتملة لهذا التطور الخطر. أصبح الجيش الأميركي على حدودها، وهناك من يقول بأن المحطة القادمة لهذا الجيش يجب أن تكون دمشق. في الوقت نفسه كانت الأصوات ترتفع في لبنان مطالبة بتخفيف القبضة الأمنية السورية على الحياة السياسية في هذا البلد، وإعادة انتشار القوات السورية.

وجد الرئيس الجديد نفسه تحت وطأة شعور متمكن بأنه بين ثلاثة مصادر للتهديد: أولها داخلي، واثنان من الخارج، واستقر رأيه على أن الموقف يفرض الإمساك بالورقة اللبنانية بأي ثمن، للمساومة بها إذا ما فرضت التطورات ذلك. اتخذ الرئيس قراره تحت وطأة الشعور بالخوف والضعف، وليس بناء على حسابات سياسية متوازنة. بدا للرئيس أن السبيل الوحيد للإمساك بالورقة اللبنانية هو فرض التمديد للرئيس اللبناني حينها، إميل لحود، حليف دمشق القديم، بالتعاون مع الحليف الآخر، «حزب الله»، ففعل ذلك بالقوة والتهديد، وكأنه ليس في لبنان من صديق لسورية إلا لحود، وتم التمديد بالفعل. بعد التمديد بقليل اغتيل رفيق الحريري، ثم «كرت» سبحة الاغتيالات اللبنانية. هل هناك من علاقة بين التمديد وموجباته، وبين هذه الاغتيالات؟ التمديد فرضته دمشق، والاغتيالات بدأت بعد التمديد. أخذت الأسئلة والاتهامات تزعج عاصمة الأمويين، وهنا بدأ التخبط السياسي للقيادة السورية، الذي أفقدها كل أوراقها الإقليمية والدولية. اعتبرت هذه القيادة الورقة اللبنانية أهم بالنسبة لها من أي شيء آخر، وأهم شيء في هذه الورقة هو «حزب الله» بقدراته العسكرية الضاربة. وهذا مؤشر على شعور حادٍ بضعف موقفها الداخلي. أولوية تحالفها مع «حزب الله»، تعني أولوية تحالفها مع إيران، وهو ما يوحي بأن هواجس دمشق مع الرئيس الجديد ومخاوفها تتجه للخارج. لكن جاءها التهديد من حيث لم تحتسب: ثورة شعبية من الداخل تريد التخلص من النظام ومن رئيسه، وعندها وجد الرئيس الشاب نفسه أمام الثورة أعزل في الداخل إلا من قوة عارية، ومن دون أي غطاء إقليمي أو دولي في الخارج، إلا غطاء طهران وموسكو. وهذا على عكس ما كان عليه والده عام 1982. طهران تعاني من العزلة والعقوبات، وغطاء موسكو لم يحمِ كل من حاول تغطيته من أفغانستان، مروراً بالعراق، وأميركا الجنوبية، وانتهاء بأوروبا الشرقية.

ما آلت إليه أوضاع سورية مع الرئيس الجديد تؤكد الخطأ القاتل للتوريث الذي وقع فيه الأسد الأب، فبسبب هذا الخطأ تغيرت حسابات دمشق وأولوياتها الإقليمية، وأوقعتها أخيراً في الأخطاء القاتلة على يد الرئيس الجديد، وهي أخطاء حاذر الأسد الأب من الاقتراب منها على مدى ثلاثة عقود. الخطأ الأول هو الدخول في محور إقليمي يقيد النظام بخيارات مغلقة، ويحد من حركته إقليمياً، ويخل بتوازنات إقليمية لا يستطيع النظام السوري بتركيبته المحافظة على استقراره، بل والبقاء من دونها. الخطأ الثاني القطيعة مع السعودية ودول الخليج العربي من ناحية، ومع مصر من ناحية أخرى، فالقطيعة مع السعودية ومصر معاً، مع بقاء الحالة العراقية كما كانت عليه في عهد صدام، أو وهي تحت النفوذ الأميركي الإيراني المزدوج، تعني أن سورية تصبح معزولة إقليمياً ودولياً. الخطأ الثالث السماح لعلاقة سورية مع إيران أن تكون على حساب علاقاتها العربية، أو العكس. والخطأ الرابع الارتهان لفريق واحد في لبنان، لأن هذا يضيق من خيارات سورية لبنانياً وإقليمياً، والغريب أن الرئيس الجديد وقع في كل هذه الأخطاء مجتمعة، وهو يدفع ثمنها هذه الأيام. وقبل ذلك يدفع ثمن أولوية الخارج على الداخل، وتعامله مع هذا الداخل بطريقة انتهت إلى ثورته عليه، وعلى نظامه الذي أتى به الى الحكم.

* كاتب وأكاديمي سعودي

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى