صفحات الرأيطارق عزيزة

الشيعة بين العقيدة والإسلام السياسيّ: إيران نموذجًا

 

طارق عزيزة

شغل الإسلامُ السياسيّ، منذ صعوده بدايةَ الربع الأخير من القرن الماضي ثم انتعاشه مطلعَ الألفيّة الثالثة، حيّزًا كبيرًا من الكتابات المتعلّقةِ بشؤون الشرق الأوسط والمجتمعات العربيّة والإسلاميّة. وتضاعفَ ذلك مع وصول الإسلاميين إلى السلطة في عددٍ من بلدان الربيع العربيّ.

غير أنّ السمةَ العامّة كانت تناولَ الإسلام السياسيّ السنّيّ، سواء بتيّاراته الحركيّة، وأبرزُها جماعة الإخوان المسلمين بمختلفِ مسمّياتها، أو باشتقاقاته من السلفيّة الجهاديّة التي تشكّل «القاعدة» وتفرّعاتُها تعبيرَها الأوضح. وهكذا، غالبًا ما يُغفل الجناحُ الشيعيّ من الظاهرة، على الرغم من كونه، بحسب كُثر، السببَ الأساسَ في «الصحوة الإسلاميّة» التي شهدتها المنطقةُ بعد انتصار ثورة الشعب الإيرانيِّ وإسقاط نظام الشاه عام 1979. ومن هنا تأتي هذه المحاولة لتسليط الضوء على جوانب من ظاهرة الإسلام السياسيّ بشقّه الشيعيّ، على اعتباره أحدَ العوامل المؤثّرة في مرحلة التحوّلات الكبرى التي دشّنتْها ثوراتُ الربيع العربيّ، وقد تُطاول ارتداداتُها قلعةَ الإسلام السياسيّ الشيعيّ نفسه: الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، وحلفاءها من أنظمةٍ ومنظّمات. لكنْ لا بدّ أولاً من التوقّف عند ظروف النشأة، ثمّ الإيديولوجيا الشيعيّة، وصولاً إلى التطبيق العمليِّ ممثّلاً بالنموذج الإيرانيّ.

مذهبٌ فقهيٌّ أمْ حركةٌ سياسيّة؟

يُرجع الشيعةُ تاريخَهم إلى حياة النبيِّ محمّد، استنادًا إلى حديثِ ابن عبّاس: «لمّا نزلَ قوله تعالى }إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خيْرُ البَريّة{ قال النبيُّ لعليّ: هم أنت وشيعتك.»

وفي روايةِ جابر بن عبد الله: «كنّا عند النبيِّ فأقبلَ عليٌّ فقال النبيُّ: والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعتَه لهم الفائزون يومَ القيامة. فنزلَ قوله تعالى: }إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ أولئك هُم خيرُ البريّة{.» ولفظةُ «الشيعة» الواردةُ في الحديث، هي «لقب أربعةٍ من الصحابةِ: أبي ذرّ، وعمّار، ومقداد، وسلمان الفارسي…»(1)

غير أنّه، خلافًا للرأي الشيعيِّ الرسميّ، تعدّدتْ آراءُ الباحثين حول تاريخ ظهور «الشيعة» في الإسلام. فمنهم من يَنسب ظهورَهم إلى الفترة التي تلت حادثةَ السقيفة، حين امتنعَ «شيعةُ» عليّ عن مبايعةِ أبي بكر. وآخرون يروْن أنّ بدايةَ التشيّع ظهرتْ في خلافة عثمان، لِما شهدته تلك المرحلةُ من صراعاتٍ سياسيّةٍ فتحت البابَ لظهور الفرق في الإسلام. ويرى فريقٌ ثالثٌ أنّها كانت زمنَ خلافة عليّ نفسه: «لمّا خالفَ طلحة والزبير عليًّا عليه السلام، وأبيا إلا الطلب بدم عثمان، وقصدهما عليٌّ ليقاتلهما… تَسمّى مَنْ تبعه على ذلك الشيعة، فكان يقول: هذه شيعتي.»(2) وهناك من يؤرّخُ لبدء التشيّع عقب معركةِ كربلاء، إذ «شكّلت حادثةُ مقتل الحسين نقطةَ تحوّلٍ كبرى بين شيعةِ عليّ، حيث أعادوا تنظيمَ صفوفهم ليشكّلوا فريقًا معارضًا على أسسٍ جديدة، وبدؤوا العملَ السياسيَّ وقاموا بثوراتٍ ضدَّ الحكم الأمويّ.»(3)

يمكن من الآراء السابقة الاستنتاجُ أنّ التشيّعَ هو في جذره موقفٌ سياسيٌّ من قضيّة الخلافة، عمل أصحابُه على إكسابه الطابعَ الدينيَّ، ليتحوّلَ مع مرور الوقت إلى مذهبٍ متكامل، له علومُه الفقهيّةُ وتفسيراتُه. بعبارةٍ أخرى، يمكن القولُ إنّ المذهب الشيعيّ أوّلُ مظاهر تسييسِ الدين، وتديينِ السياسة، في الإسلام ـــ وهو ما بات في صميم العقيدة والممارسة لدى الشيعة إلى يومنا هذا.

وإضافةً إلى أسبقيّة الشيعة السياسيّة كانت لهم أسبقيّةٌ في العمل التنظيميِّ أيضًا. فقد اعتمدَ أئمّتهُم على وكلاء يمثّلونهم في مناطق انتشارِ أتباعهم يقومون بدور التوجيه والتعبئة السياسيّة. كما أنّ تكريسَ «التّقيّة» أسلوبًا فعّالاً في مواجهة بطشِ السلطات التي عارضوها يُعدُّ من الأشكال الأولى للعمل السياسيِّ السرّيّ.

أمّا جوهرُ المستوى العقائديّ الخاصّ بالشيعة الاثنيْ عشريّة، والمحرّكُ الإيديولوجيُّ لنشاطهم السياسيِّ، فهو «الإمامة.» ومنها تنطلق أحقّيةُ أهل البيت بالخلافة، ومن ثَمّ قيادة الأمّة، وهو ما يعني أنّ الزعامة السياسيّة تأتي في مقدّمة المهامِّ المنوطة بالإمام. والاتّجاه الحتميّ لحركة التاريخ في الذهنيّة الشيعيّة يسير نحو ظهورِ الإمام الثاني عشر عائدًا من غيبته الكبرى ليؤسّسَ دولته العالميّة، «ويملأَ الأرض قسطًا وعدلاً كما مُلئتْ ظلمًا وجورًا.» وريثما يظهر الإمامُ، فثمّة من يمثّله ويقومُ بأعماله.

والحق أنّ قضيّة الإمامة «ليست قضيّةً شكليّةً… بل جزءٌ من عقيدةٍ مستحكمةٍ لدى الشيعة…»(4). إنها بمنزلةِ تكليفٍ إلهيٍّ لديهم لتطبيق الشرائع السماويّة، وهو الأمر الذي يفسّر المكانةَ الكبيرة التي يتمتّعُ بها «ممثّلو الإمام» من العلماء والفقهاء، ومركزيّةَ دورهم في حياة المسلم الشيعيّ، الذي لا بدَّ له من مرجعٍ يقلّده ويعتمدُ على رأيه في كلِّ أمر.

بين الإمامِ الغائب والنائبِ الحاضر

يعتمد فقهُ الشيعة نسقًا قياديًّا متسلسلاً على ثلاثةِ مستويات(5):

ـ قيادةُ النبيِّ محمّد، وقد انتهت بوفاته.

ـ قيادةُ الأئمّة المعصومين (أو «القيادة الامتداديّة»). آخرُهم محمّد بن الحسن الملقّب بـ «المهدي المنتظر،» وتنقسمُ قيادته إلى ثلاث مراحل: أ) مرحلة الغيبة الصغرى (255 ـــ 329 هـ)، وفيها مارسَ المهدي دوره القياديَّ من خلال «نظام السفراء،» وهم أربعة، آخرُهم علي بن محمد السمري. ب) مرحلة الغيبة الكبرى: بدأتْ بوفاةِ السفير الرابع (329 هـ)، وتستمرُّ حتى يعودَ المهدي إلى الظهور والبدءِ بحركته التغييريّة الكبرى في العالم. في هذه المرحلة يمارس الإمامُ قيادتَه من خلال «النيابةِ العامّة،» إذ يتولّى الفقهاءُ المؤهّلون المهمّةَ بتخويلٍ عامٍّ صادرٍ عنه (وهذا هو المستوى الثالثُ في النسق القياديِّ لدى الشيعة كما سيأتي بيانه). ج) مرحلة الظهور: وفيها يعودُ المهدي ليمارسَ الدور القياديَّ مباشرةً حينما تكتملُ الشروط لبدء هذه المرحلة، فيسودُ الإسلامُ العالمَ ويقود الإمامُ الحكومةَ الإسلاميّةَ العالميّة.

ـ المستوى الثالثُ ينبثق عن المستوى الثاني ومرحلةِ الغيبة الكبرى مباشرةً، فهو «القيادة النائبة» التي يمارسها فقهاء يجسّدون خطّ الأئمّةِ خلال مرحلةِ الغيبة الكبرى التي مرّ ذكرها. بعبارةٍ أخرى: القيادة النائبةُ هي بالضبط ما يُعرَفُ بولايةِ الفقيه.

وكان لا بدَّ لهؤلاء الفقهاء من العمل على تجديد الشرعيّة من خلال الاستجابة للمتغيّرات، فكان لزامًا أن يبقى بابُ الاجتهاد مفتوحًا ومتفاعلاً مع متطلّبات كلِّ مرحلة، ما أكسبَ المذهبَ حيويّةً وتفاعلاً مرنًا مع الزمن. وخلافًا لمذهب أهل السنّة الذين أقفلوا بابَ الاجتهاد منذ قرون، فباتت مدوّنتُهم الفقهيّة أقلَّ قدرةً على التكيّفِ مع معطيات الحياةِ المعاصرة نظرًا إلى تمسّكهم بحرفيّة النصوص، أسّس الاجتهادُ عند الشيعة لمعرفةٍ نسبيّةٍ مفتوحةٍ على المستجدّات وحركةِ التاريخ.

تختلف مؤسّسةُ الإفتاء السنّية عن الاجتهاد لدى الشيعة. فالفتوى ليست نصًّا شرعيًّا ملزمًا بالمطلق، وإنّما تعبّر عن طريقةِ فهم الشخص المستفتى لقضيّةٍ معيّنةٍ لم يَرِدْ فيها نصٌّ واضحٌ وصريحٌ، مستخدمًا قواعدَ أصول الفقهِ وأدواته، كالقياسِ والاستحسان والاستنباط، ومستندًا إلى نصوصٍ من القرآن أو السنّة تتناولُ قضايا مشابهةً ليدعمَ فتواه. أما أحكامُ المجتهد الشيعيِّ فملزِمةٌ لمقلّديه وأتباعه على اعتباره ممثّلاً للإمام المعصوم، ومخوّلاً بممارسةِ صلاحيّته.

ولايةُ الفقيه: من القاعدة العامّة إلى التطبيق الخاصّ

لا بدَّ في من يتولّى «القيادة النائبة» من التمتّع بمؤهّلاتٍ علميّةٍ ونفسيّةٍ وسلوكيّة، وأن يكونَ في المرتبة العليا من درجاتِ «الإكليروس» الشيعي.(6) الجدير ذكره أنّ ثمة ستّ مراتبَ محدّدة: طالب العلم، ثم المجتهد (أيْ من أجهد نفسَه كي يكوّن رأيًا)، فمبلّغ الرسالة، فحجّة الإسلام، فآية الله، فآية الله العظمى. والارتقاءُ من مرتبةٍ إلى أخرى لا يجري اعتباطًا وإنّما بناءً على شروطٍ صارمة.

إذا كان وجودُ الإمام الذي ينوب عن الإمام الغائب ضرورةً ملحّةً يتفّق الشيعةُ جميعًا عليها، فإنّ هناك خلافًا جوهريًّا بينهم على صلاحيّاته. وقد نتجَتْ من ذلك اتّجاهاتٌ ثلاثة:

«الاتّجاهُ الأول: يضيّق دائرةَ هذه الولاية ويحدّدها ضمن: أـ القضاء. ب ـ رعاية شؤونِ القاصرين. ج ـ إدارة شؤون الأوقافِ العامّة. د ـ الأمور الحسبيّة. الاتّجاه الثاني: يعطي للفقهاء، بالإضافة إلى المهامِّ السابقة، صلاحيّةَ إقامة الحدودِ الشرعيّةِ في عصر الغيبة الكبرى، كالقصاص وقطع يدِ السارق ورجم الزاني… الاتجاه الثالث: يوسّعُ دائرةَ ولاية الفقيه، فيعطي للفقهاء الولايةَ الشرعيّةَ العامّة في شؤون المسلمين السياسيّةِ والاجتماعيّة…»(7)

واضحٌ مدى اتّساع الصلاحيّات التي يتمتّع بها الفقيهُ في الاتّجاه الأخير، وهي تكاد تكونُ مطلقةً نظرًا إلى كونه، وإنْ طلب المشورةَ، غيرَ ملزمٍ بها، ولو خالفَ قرارُه عامّة الجمهور. «هذا المبدأ استخدمَه الخميني في إيران، وما زال متّبعًا في عهدِ الخامنئي. على أنّ هناك خلافًا كبيرًا بشأنه لدى مراجعَ كثرٍ، ومنها المراجع في النّجف الذين يحدّدون صلاحيّاتِ نائب الإمام الغائبِ بالأمور الحسبيّة وفي الإفتاء بالحلالِ والحرام من أمورِ الشرع من دون أن تكونَ له سلطةٌ تنفيذيّةٌ.»(8) ومن معارضي التوسّع في صلاحيّات الوليّ الفقيه السيّد محمد حسين فضل الله، الذي كان إلى وفاته أحدَ أهمّ المراجع الشيعيّة. فهو يقول: «وقد كان أستاذُنا السيّد أبو القاسم الخوئي يُنْكر شرعيّةَ الولاية العامّةِ للفقيه. ونحن نوافقه على ذلك، ولا نرى أنَّ للفقيهِ ولايةً عامّةً على المسلمين.»(9)

غير أنّ ثمّة خطأً شائعًا في استخدام عبارة «ولاية الفقيه» حين تحيل مباشرةً على النموذج الذي طبّقه الخميني في إيران، بغضِّ النظر عن باقي الاتّجاهات التي ما زال لها أنصارٌ في قطّاعاتٍ واسعةٍ من الجمهور الشيعيّ. كأن يُقال: «الشيخُ الفلانيُّ ضدّ ولايةِ الفقيه،» في إشارةٍ إلى معارضته لنظام ولايةِ الفقيه على ما هو متّبع في إيران، أيْ معارضتِه للتوسّع في صلاحيّات الوليّ الفقيه/القائد المرشد، في حين أنّ مسألةَ ولاية الفقيه في الأصل هي المضمونُ العمليُّ لفكرة «القيادة النائبة» التي هي من أسس العقيدةِ الشيعيّة كما مرَّ بيانُه، ولا خلاف عليها من حيث المبدأ. فهل ابتلع التطبيقُ الخمينيّ «النظريّةَ الشيعيّة» كلّها، كما ابتلعت الستالينيّةُ فيما مضى نظريّةَ ماركس؟!

«الجمهوريّة الإسلاميّة» وديكتاتوريّة القائد المرشد

شكّلت الثورةُ الشعبيّةُ في إيران نقطةَ تحوّلٍ بارزةً في التاريخ المعاصر، نظرًا إلى نتائجها السياسيّة والإيديولوجيّة التي ما تزال تبعاتُها تفعلُ فعلها في المنطقة والعالم حتّى الآن.

غير أنّ ما كان قد بدأ في الأصل حركةً شعبيّةً اجتماعيّةً تحرّريّةً، عصبُها الرئيسُ هو الشبابُ وتضمّ مختلفَ أطيافِ الشعب الإيرانيِّ وتيّاراته السيّاسيّة، انتهى إلى ما نراه اليوم من سلطة استبدادٍ دينيّ. فالشعبُ الأعزل الذي واجه أحدَ أعتى النظمِ البوليسيّة، وأسقطَ الشاهَ وأنهى الملكيّة، وجد نفسَه تدريجيًّا تحت حكمِ رجال دينٍ يدّعون العصمةَ والقداسة، تحوّلت الثورةُ في ظلّهم من ظاهرةٍ إنسانيّةٍ تندرج ضمن سياق الثورات الشعبيّة الكبرى في التاريخ الإنسانيِّ إلى «ظاهرةٍ شيعيّةٍ» تغلّف نزوعًا إمبراطوريًّا شوفينيًّا.

خلال الثورة، ثمّ بعد سقوط الشاه، عمل التيّارُ الدينيُّ الذي يقوده الخميني ورجالُ دينٍ آخرون على إزاحة التيّارات السياسيّة، ولاسيّما اليساريّة والليبراليّة، التي كان لها دورٌ بارزٌ في انتصار الثورة الإيرانيّة. بل إنّ رجال الدّين الذين لم يتّفقوا مع مشروع الخميني لإيران ما بعد الثورةِ لم يَسْلموا، هم أنفسُهم، من الإقصاء. وهكذا، لم ينعم الإيرانيّون بالديمقراطيّة، برغم تخلّصهم من دكتاتورٍ دمويٍّ أذاقهم الويلات. ولم تنتقلْ إيران بعد سقوط الملكيّة إلى نظام الحكم الجمهوريِّ بصيغه وتطبيقاته المعروفة، وإنّما كان موعدُهم مع ابتكارٍ جديد أبدعه آيةُ الله الخميني: «الجمهوريّة الإسلاميّة.» وكانت تلك هي المرّة الأولى في العصر الحديث التي يقومُ فيها نظامٌ إسلاميٌّ مستندٌ إلى المذهب الشيعيّ، ويغدو مذهبًا رسميًّا للدولة.

كشفت التجربةُ الشيعيّةُ في الحكم عن إعادة توزيع للأدوار بين الدين والسياسة في لعبة السلطة، خلافًا لما كان سائدًا في الحالة السنّيّة. يقول تهامي العبدولي: «إنّه في وقتٍ تسعى فيه الجماعةُ المرجعيّة السنّيّة إلى إلجامِ العامّة حتّى يسهلَ الأمرُ على السائس وتحكم استمراريّة الطرفين، تَعْمد الجماعةُ المرجعيّة الشيعيّة إلى إلجام السائسِ ومحاصرتِه كي تستمرَّ هي وتسوسَ العامّةَ في النهاية.»(10)

وقد واجهَ الملالي تحدّيًا أساسيًّا يتمثّل في مدى قدرتهم على إدارةِ مجتمعٍ يعيش في القرن العشرين من خلال نصوصٍ وأحكامٍ فقهيّةٍ تعود إلى قرونٍ خلت. والحال أنّ المؤسّسة الدينيّة غيرُ قادرة على ممارسة السلطة السياسيّة مباشرةً، فكان لا بدَّ من إعطاءِ السياسيين دورًا ظاهريًّا يستطيع آياتُ الله من خلاله فرضَ سيادتهم. فدستورُ الجمهوريّة الإسلاميّة ينصّ في المادة 113 على أنّ رئيس الجمهوريّة هو أعلى سلطةٍ رسميّةٍ في الدولة وهو يرأس السلطةَ التنفيذيّة، إلا أنّ ثمّة موضعًا آخرَ من الدستور يوضح كيف أنّ «الجمهوريّةَ الإسلاميّة» جعلتْ من الدولةِ أداةً بيد المؤسّسة الدينيّة: فالمرشد هو القائد الأعلى للقوّاتِ المسلّحة، وهو مَن يعيّن الفقهاءَ المراقبين على صيانة الدستور والقوانين التي يسنّها مجلسُ الشعب، وهو أيضًا من يقوم بتعيين أعلى سلطةٍ قضائيّةٍ في البلاد، وينصّب ويعزلُ رئيسَ أركان الحرب وقائدَ الحرس الثوريّ، كما يعيّن قادةَ القوّات المسلّحة (البرّية والجوّية والبحريّة)، وله إعلانُ الحرب والصلح، وتنفيذُ رئاسةِ الجمهوريّة، وعزلُ رئيس الجمهوريّةِ إذا اقتضت مصالح الأمة، والعفوُ عن المحكومين في حدودِ قوانين الإسلامِ وباقتراحٍ من المحكمةِ العليا!(11)

ورغم هذه الصلاحيّات المطلقة، فإنّ الأدوات الإجرائية لعمليّةِ إنتاج السلطة (الانتخابات) لم تَسلم من الانتهاك. ورغم أنّها لا تقيّد صلاحيّات القائد المرشد، فإنه يبدو أنّه لم تعد لإرادةِ الشعب الإيرانيِّ أهمّيةٌ تُذكر ولو من الناحيّة الشكليّة. وهذا ما أثبتته تجربةُ الانتخابات الرئاسيّة عام 2009 ــــ فالسلطةُ المطلقة مَفسدةٌ مطلقة!

«الديمقراطيّة الإسلاميّة» في طبعتها الإيرانيّة

في منتصفِ حزيران عام 2009 فاز المرشّحُ «الثوريُّ» ـــ كي لا نقولُ مرشح الحرس الثوريّ ـــ محمود أحمدي نجاد بالانتخابات الرئاسيّةِ الإيرانيّة متغلّبًا على منافسهِ الإصلاحيِّ (مير حسين موسوي). وقد أُعلنت النتائج وسط تشكيكٍ دوليٍّ في نزاهة الانتخابات، ووسط اتّهاماتٍ واسعةٍ للحكومة بالتزوير لصالح نجاد، بالإضافةِ إلى دور «آيات الله» في التأثير في خيارات الناخبين عبر الفتاوى والتكاليف الشرعيّة أو تكفير الخصوم السياسيّين. يومها علّق «القائدُ المرشد» علي الخامنئي بالقول: «فوز الرئيس المنتخب بأربعةٍ وعشرين مليون صوتٍ تحقّقَ بفضل الإرادةِ الإلهيّة»(12)! واستبق غضبَ الشارع بالقول: «نتوقّعُ أنْ يقومَ العدوُّ بتحويل حلاوة النصرِ إلى مرارة.»(3)

وبالفعل نزل أنصارُ موسوي إلى الشوارع اعتراضًا على نتائجِ الانتخابات. وما لبث هذا الاعتراضُ أن تحوّل إلى حركةٍ احتجاجيّةٍ واسعة، عُرفتْ بـ «الثورة الخضراء،» تنادي بالديمقراطيّة وتطالبُ بالتغيير السياسيِّ الجذريّ. وامتلأت الساحاتُ بالمتظاهرين، في استعادةٍ لمشاهد ثورة 1979 ضدّ الشاه.

تَعامل الإعلامُ الرسميُّ مع الحركة الاحتجاجيّة بوصفها مؤامرةً، واتّهم المتظاهرين بالعمالة للغربِ وأمريكا وقوى الاستكبار العالميّ، وعمل النظامُ بكلِّ قوّته على إجهاض التحرّكِ الشعبيِّ مستخدمًا ذراعَه الضّاربة، «الحرس الثوريّ.» فسقط المئاتُ من القتلى والجرحى، فضلاً عن الاعتقالات الواسعة في صفوفِ المحتجّين. وقد جذبتْ هذه الثورةُ أنظارَ العالم إلى بطولات الشعبِ الإيرانيِّ في مواجهة القمع الوحشيّ، وكشفتْ فشل النّظام في تدجينِ الشارع خلال ثلاثة عقودٍ من عمر «الجمهوريّة الإسلاميّة.»

على أنّ كلا التيارين، المحافظ والإصلاحيّ، لا يختلفان في قضايا إيران الكبرى (الملفّ النوويّ، الدور الإقليميّ، الموقف من القضيّة الفلسطينيّة)، بل في طريقة إدارتها وموازنتها مع القضايا الداخليّةِ الملحّة. كما أنّ التشيّعَ الإيرانيّ، الذي عمل طويلاً على بلورةِ هويّةٍ قوميّةٍ للشعب تتّكئ على الدين، قد يجد نفسه بلا عملٍ في حال صعودِ تيّاراتٍ قوميّةٍ حداثيّةٍ تسعى إلى الديمقراطيّة كما أنتجتها الدولُ القوميّة في أوروبّا.

ورغم سيطرةِ التيّارات المحافظة على المشهد السياسيِّ الإيرانيّ، لا يبدو أنّ الإصلاحيين قد سلّموا بهزيمتهم. ذلك أنّ احتواءَ النظام للثورة الخضراء وتجاوزها لا يعنيان القضاءَ على بذورها التي كادت تدشّنُ ربيعًا في طهران. ولعلّ نسائمَ الربيع العربيِّ تحمل لتلك البذورِ أمطارًا تهيّئ لها فرصةَ النموِّ من جديد.

دمشق

(1) عبد الله الغريفي، التشيّع: نشوؤه، مراحله، مقوّماته (بيروت: دار الموسم للإعلام، الطبعة الثانية،1991)، ص27، وهو يوردها نقلاً عن الفهرست لابن النديم.

(2) سيف الخيّاط، العقدة والعقيدة ـــــ قصة الشيعة في العراق (القاهرة: مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى، 2006)، ص56.

(3) المصدر السابق، ص93.

(4) التشيّع،مصدر سابق، ص378.

(5) محمد حسنين هيكل، مدافع آية الله (القاهرة: دار الشروق، الطبعة الرابعة،1988)، ص112.

(6) التشيّع، ص382.

(7) العقدة والعقيدة، ص93.

(8) حوار مع (العربية.نت) والاقتباس منقول من الرابط http://www.elwdad.com/vb/t757/

(9) تهامي العبدولي، أزمة المعرفة الدينيّة (دمشق: الأكاديميّة العربيّة الآسيويّة ودار البلد، الطبعة الثانية، 2005)، ص116.

(10) المادّة 110 من الدستور الإيرانيّ.

(11) قناة العالم الإيرانيّة الناطقة بالعربيّة، بتاريخ 14/6/2009

(12) المصدر نفسه.

    عدد ربيع ٢٠١٢

كاتب سوري

الآداب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى