صفحات الحوار

الصحافي السوري الهارب اياد عيسى: أكتبوا عن الخوف

 


سناء الجاك،

لحظة… أياد لم يغادر… أياد هرب بطريقة شرعية. صحيح أنه لم يتسلل عبر الحدود. يوضح أنه “دبّر حاله”، وحط رحاله في بيروت كالشبح، لم يحمل معه حقيبة أو متاعا. إكتفى بمتاع الخوف على زوجته وطفلته… وهرب لتلحق به حقيبته في اليوم التالي، فحملها وغادر لبنان.

الصحافي “الهارب” هو أول المستقيلين من اتحاد الصحافيين في بلاده ولا يريد أن يكون الأخير، لذا سعى إلى مكان آمن يستطيع أن يعمل فيه بحرية. يطيب له أن يقول إنه كسر حاجز الخوف وقرر أن يحكي بصوت عالٍ.

من هنا يبدو الفضول مبرراً للتعرف إليه أكثر. صفحات الإنترنت تفيد أنّ الرجل كان يطبق مقولة “مهنة البحث عن المتاعب” قدر المستطاع الذي يبيحه الإعلام الرسمي في سورية. يجيد السير بين النقاط الساخنة ليتحايل على الرقيب ويكشف المحظور كونه صحافياً ميدانياً… ودائماً قدر المستطاع.

في بيروت تجول قليلاً، وبحذر، مع رفاق يثق بهم ويشكرهم كل حين. كان يدرس الأمكنة بنظرة سريعة ثم يخفي أي انفعال عن ملامحه. يتكلم بصوت منخفض، وعندما يبدأ بسرد “الفظائع التي عايشها منذ اندلاع حركات الإحتجاج في سورية” يرتفع صوته قليلاً. لكن الرقيب القابع داخله سرعان ما يغلبه ليعود الصوت إلى طبقته المنخفضة. فالحذر واجب في العاصمة اللبنانية حيث لا يغيب “شبح النظام الأمني”.

يقول: “بداية، لم أهرب لمجرد الهروب، لكن حتى لا أرغم على التراجع عن استقالتي من الاتحاد كما أرغم غيري على ذلك، ومنهم النائب في مجلس الشعب ناصر الحريري ومفتي درعا رزق أبا زيد. أنا فتحت الباب ولا أريد أن يغلق إذا تراجعت أو إذا اعتقلت وزعموا كذباً أني استقلت”.

عيسى وبعد تقديمه استقالته إستدعاه فرع المخابرات في منطقته مراراً. إتهموه أنه ينتمي إلى تنظيم محظور وسلفي وما الى ذلك من أبجديات منظومة “ضرب الاستقرار والتآمر على الوطن”. بعد مشاركته في مظاهرة جمعة الشهداء في السادس من أيار، تلقى اتصالاً يأمره: “شرِّف هلّق” إلى الفرع. لهجة من اتصل به كانت كافية ليفهم. تحجج بأنه مريض جداً واستمهل محدثه إلى اليوم التالي ليتمكن من الهرب. كان يمكن أن يبقى في سورية ويكتفي  بالتواري عن الانظار كما فعل غيره. لم يفعل… “لأن لديّ واجباً كصحافي تجاه أهلي الذين يُذبحون بلا سبب”.

أكثر ما أوجعه بعد استقالته، أنّ بعض أصدقائه الذين تعود أن يجلس وإياهم منذ 15 عاماً في مقهى “CHEZ NOUS” خافوا منه وتجنبوه. شعر أنه منبوذ.

يصعب عليه مقاربة موضوع عائلته، يختنق ويتكسر صوته ويغص ويرتعب. يحبس أنفاسه ودموعه بصعوبة. يختار كلماته لأنه يخاف على زوجته وابنته نايا التي لم تتجاوز الأشهر السبعة. “نايا معناها غزال”، يقول بحنان. ويضيف: “إشتقت إليها بعد مرور أيام معدودة على مغادرتي دمشق. تحدثت إلى زوجتي وطمأنتها إلى أحوالي ولكني مرعوب وخائف كثيراً على عائلتي”.

يحكي كيف اقترب عناصر البوليس السري من رياض سيف وضربوه على رأسه فسال دمه. يقول: “نحن ركضنا أما هو فلم يستطع. كنا حوالي 400 شخص قرب المسجد، لأنه المكان الوحيد المسموح بالتجمع فيه. حاصَرَنا أكثر من خمسة آلاف يحملون العصي الكهربائية والعادية. إستعان النظام بالموظفين وعمال التنظيفات وكل من يستطيعون جلبه.  همهم منع المتظاهرين من الوصول إلى الساحات والإعتصام فيها. إذا نجح المحتجون سيتوافد الملايين ويعتصمون. لذا النظام مستعد لقتل الآلاف منعاً لذلك”.

كيف يرى صورة ما يجري في بلده من الخارج؟

يجيب: “المواطن العادي يستطيع أن يعرف أكثر عما يحصل في سورية إذا كان في الخارج. التعتيم الاعلامي أقوى مما يتصوره أي كان. أما بالنسبة لي لم يتغير شيء. في دمشق كانت لي اتصالاتي وكنت أعرف كل ما يجري. ليتني كنت أستطيع أن أبقى وأغطي ما يحصل. لكن الإعلام الرسمي السوري تحول إلى أداة من الأدوات القاتلة للنظام. وأنا لا أريد أن أصبح سفاحاً. هربت لأنني أريد أن أعمل صحافياً”.

يطيب له أن يستعيد الذكريات القريبة، فيقول إنّ الرفاق كانوا يتوزعون على المقاهي الدمشقية، ومنها “الروضة” و”النوفرة”. يجلسون إلى طاولة واحدة فيبادر كل منهم إلى طلب رقم رفيقه. يرن الهاتف المحمول والمحموم بأغنية سميح شقير “يا حيف” فتصدح الثورة في المقهى. ويستفز رجال الأمن والمخابرات الذين يملأون المكان.

هذا الحنين الذي استدعى سرد الذكريات بعد أيام على المغادرة يرسم ألف علامة عن أفق تحرك أياد عيسى ورفاقه… هل يشعر بأنّ عودته أصبحت مستحيلة، لا سيما بعد أن أعلن عبر وسائل الاعلام عن أسباب هروبه؟

يقول: “لم يكن أمامي إلا أن أطلع من البلد. ولكني سأعود. فهذا النظام مهما واصل القمع والقتل لن يستمر. ولن تتكرر التجارب السابقة فالزمن غير الزمن والدنيا غير الدنيا وتفكير الشباب غير تفكير أهلهم ووسائل الاتصال الحديثة كفيلة بفضح الجرائم التي تحصل”.

وسائل الاتصال التي استشهد بها الصحافي “الهارب” تحمل رسائل تأييد له بعد خطوته هذه. إحدى هذه الرسائل يقول صاحبها إنّ “اياد عيسى شرب حليب السباع و أعلن انسحابه من اتحاد الصحافيين السوريين احتجاجا على الدجل الذي يمارسه رئيس الاتحاد الياس مراد، والإساءات والأكاذيب التي يطلقها بحق الشباب السوري المنتفض”.

لقاء أياد في بيروت يدل على أنّ “شرب حليب السباع” مرعب إلى درجة لا يستهان بها. صوته من القاهرة حيث استقر حالياً إكتسب قوة وثبات. لعله بإبتعاده عن دائرة تأثير النظام كسر فعلاً حاجز الخوف، أو لعله استوعب هول ما يعانيه الآخرون في الداخل السوري، وقرر أن يراود الحاجز عن نفسه بقوله: “أكتبوا عن الخوف”.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى