خولة دنياصفحات الثقافة

باتجاه الرصاصة كي لا تتفجر بعيداً عنا

 


خولة دنيا

وماذا لو مزقوا ثراك وشتتوه في كل بقاع الأرض يا سوريتي؟

أو علقوا طلقاتهم على كل ورقة شجر علّها تثمر الخوف في عيون أطفالك يا جميلتي؟

تغفوا كل العيون على ابتسامتك.. ويولد الغضب…

يشفُّ ما وراءه من كارثة مافتئوا.. ينخرون بها عظامنا وعظامكِ علّها تؤجج ما لم نعهده فينا أو فيك من حقد….

هل حقاً سنحتمل مزيداً من الألم بعد اليوم..؟

وهل نحن نولد في هذه اللحظة، مجزأين ومقسمين ومهمشين كقطع شطرنج لا تتجاوز مربعها إلا بيد لاعبها…!!!

لم أكن أعلم تجزئتي على مربعي قبل هذه الأيام المدوية…

أحمل رهبة الوجوه النيئة التي أوقفتني على قارعة الطريق، أو على حدود مربعي الوهمي، لأعود إلى منتصف اللعبة … لم يحن دوري بعدُ للتحرك (على ذمة اللاعب). أعود إلى بيتي (فالبيت واحة الأمان للمواطن الصالح)، و(البيت مملكة المرأة، كما قالوا… وكما هو اليوم مملكة كل من ليس له يد في لعبة الكبار)…

كم نحن صغار كمواطنين.. كم كنا صغار دائماً.. وكم تزداد ضآلتنا يوماً بعد يوم، كما أرادونا.

أترك السومرية لأغوص في طريق العودة، لا مفر من المرور إلى دمشق المحرمة على سكان الضواحي، تبدو ثورة الأرياف اليوم مخيفة ومقلقة ولا أدري إلى أي حدٍّ هي مقلقة لمثقفينا الأشاوس.

 

أن تنطلق الرغبة في الرفض والتغيير من الريف السوري الجميل الهادئ المطاوع الذي يرسموه دوماً كرجلٍ نشيط مبتسمٍ يحمل معوله بيده، ويلف عقاله حول رأسه ويتطلع باعتزاز للسماء…

نعم، هو ذات الرجل.. يحمل ذاك المعول.. ولكنه خلع عقاله هذه المرة، وضعه على جنب، لأنه لن يلبسه مرة أخرى إلا بكرامته…

هل هذا بداية الانشقاق عن حركة المثقفين، أن لا تلحق بأبناء شعبها كما هي العادة..!!

تبدو الفكرة هزيلة، فالخوف يستشري من حركة لا تقودها الأعلام الحمراء، أو السوداء (حسب الموجة).. ولا حركة بدون أعلام! هكذا يؤكد قادة الحراك التاريخيون.

أترك فلاحي مع معوله في الزاوية اليسرى من تفكيري، وأشرد في صف الدبابات على يميني، والجنود المحيطين بها، كل زاروب من زواريب المعضمية مغلق بدبابة وأكثر من جنديين مدجيين، يلفت نظري منظر الخوذة على الرأس، منذ الصغر كنت ألاحقها في تلفزيونات الأبيض والأسود، عندما تنقل لنا أغاني البطولة والشهادة عن معارك نسينا متى قامت، وأعداء باهتين في صورة باهتة، أما الجنود فلا زالت خوذهم تلمع في ذاكرتي… خوذ أحاول استشكاف اللون الأخضر فيها من خلال الأبيض والأسود… تغطي الرأس لتحميه وتمنع غبار المعركة من دخول الأذنين والعينين ربما…

اليوم نفس تلك الخوذ تلوح على رؤوس الجنود. المعركة هنا هل هي وهمية كذلك؟.. لا تبدو اللوحة باهتة أمامي.. تبدو لامعة، مضاءةً، ملونةً.. إنها أكثر من حقيقية..

أنظر إلى امرأة تعطي بعض الخبز والجبن ربما لجندي هزيل الجسد يقف عند مفرق بابها، يقضم ما أعطته ويبتسم لطفلها…

جندي آخر يسترخي على كرسي مع مجموعة من شبان الحي الذي يحرسه..

أي معركة ستقام هنا، أين الأعداء؟ لماذا هم مسترخون هكذا؟

تبدو الصورة مبهمة، الأعداء مبهمون، ساحة المعركة مبهمة… طرف واحد فقط في معركة ضد مجهول…

لا أحد يعرف أي أبالسة سيحارب هؤلاء الجنود!

الحارة، حارتي التي أتجاوزها ليلا ونهارا، اليوم توقفني على حواجزها.. (أعطنا الهوية) نعم سؤال وجيه يوجهه شاب لم يبرعم شاربه بعد، يحمل عصا خشبية، ويضع سيجارته وراء أذنه كنجار بارع.

أعطيه هويتي، لا مجال للرفض هنا… حماية السكان ضرورية من الأبالسة المنشقين.

نعم ، أستريح في مشيتي من جديد…. أدخل بيتي… أفكر: يجب أن أضع باباً حديدياً إضافياً، وكذلك يجب إضافة حواجز حديدية للشبابيك والبرندات… كان مشروعاً مؤجلاً، أما الآن فقد أصبح ضرورة!

أفتح النافذة، ومعها أفتح التلفاز… المعركة مازالت مستمرة ضد الأبالسة المارقين.. يصدح صوت المذيعة ذات العيون الغبية والفك العريض المشدود (نفس المذيعة التي عهدناها، لا ترغب بتركنا خوفا على صحتنا من جلطة قد تصيبنا إذا هي رحلت)، تتحدث عن المعارك الوهمية إياها، عن صيد الأبالسة في غابات سورية الآمنة، عن ترويع السكان الآمنين المطمئنين في مدنٍ شتى… تنوح قليلا، تبتسم كثيراً، تلوك الكلمات وتشدد على بعض الحروف، تعرض صوراً وتقارير ولا أدري مما يدور في خاطر منتجي التلفاز…

أذهبُ لمكانٍ آخر من عالم التلفزة العجيبة.. يتحدثون عن حصار مدن..

نعم حصار مدن…

درعا محاصرة.. كلما أردت أن أقول حصار درعا، تفلت كلمة غزة باللاشعور، لم نعتد على حصار غير الحصار الذي يقدمه العدو التاريخي..

 

درعا محاصرة، مدينة ذاك الفلاح الذي وضع عقاله جانباً احتجاجاً على تعذيب أطفاله في سجون الاحتلال (أقصد في سجون المخابرات)، أي قلبٍ ذاك الذي يسكنني، لماذا لا يرتجف عند سماع كلمة حصار!!

درعا الجميلة بسهلها وطيبة ناسها… لأدعها للخالق يرى بشأنها، ولكن ماذا عن باقي ما حوصر فينا وفيكِ يا بلد؟

بانياس، البيضة، اللاذقية، حمص العدية، دوما، حرستا، القامشلي، زواريب المعضمية التي تركتها محتجزة منذ قليل….

كم يبدو الحديث عن تقاطيع القلب صعباً يا بلد…

أن تكونَ غصن زيتون أخضر بيد متظاهرٍ يطلق عليه الرصاص في شوارعكِ.

أن تكون شاباً فتياً يرفضكَ الآخرون ويرفضون موتك فقط لأنك مختلف.

أن يتهموكَ بتشويش يومهم وعيشتهم فقط لأنك اخترت التغيير في فصل التغيير..

كم يبدو المشهد مشوهاً في دواخلنا كما في شوارعنا….

تغيب معالم الناس ووجوهها، لأتوه في دواخلي ودواخلهم علي ألملم آلية ما يحركنا في اتجاه دون آخر..

تبدو وجوه الناس التعبة من خلف النوافذ، وقد فقدت ضحكاتها المعتادة، تبدو مليئة بالخوف والتشوش.. والرغبة في عدم الحديث خوفاً من مجهول قد يأتي على غير ما يعتقدون.

لماذا التغيير دائماً يختار فعله القلائل، حتى لو كان المستفيد منه الجميع؟..

لماذا تحركنا غرائزنا أكثر من عقولنا في كثير من الأحايين؟

ولماذا في لحظات الإندفاع ننسى كوننا أجساداً قابلة للعطب فننطلق باتجاه الرصاصة كي لا تتفجر بعيداً عنا..

لماذا نختار موتنا في وقتٍ كنا فيه نبتعد عنه بكل قوتنا كي يحيد عنا…

يبدو المشهد حزيناً.. وربما كئيباً، والأسوأ أن يكون مشهداً مكرراً لمشهدٍ آخر في بلدٍ آخر رأيناه جميعاً وصدقناه، ولكننا لا نريد تصديقه الآن لأنه يحدث في بلدنا.

سورية الجميلة كمدفأة في كانون، كما وصفها رياض صالح الحسين، تبدو اليوم أكثر إشعاعاً وجمالاً من أي يومٍ مضى عليها منذ خمسين عاماً، تنفض عنها طوارئ الأيام السابقة.. كما تطرد عن كاهلها الأحكام العرفية، ومحاكم أمن الدولة.. تنوء بحملها الثقيل من دماء أبنائها الذين أحبوها.. ترخي خصلات شعرها في حوران لتعوض المَحن الذي أصاب سهول حنطتها، وتُحنّيه بدماء شهدائها.. تتكئ على القامشلي لتغسل قدميها في بحر بانياس.. وترشف كأس نبيذها في كروم حمص…

فكيف لنا أن لا نكون فخورين بها كما لم نكن منذ يوم مولدنا!

كيف لنا أن لا نعتز بأننا من أبنائها الطيبين، الذين أكلنا خبزها وزيتونها وعنبها!

وكيف لنا أن لا نمسح دمعة انسكبت على خدود بناتها، أو أن لا نشارك في تكفين أبنائها!

سورية المنتفضة برغم كل الرياء.. ترسم مستقبلها الآن بالدم والدمع وقدسية اسمها في قلوبنا

فانصروها كي تنصركم

وارحموها كي ترحمكم

ولا تحكموا عليها كما حكمتم على أبنائها الشامخين للشمس

بل ضموها وضموهم الى قلوبكم وعيونكم ولا تنسوا أنكم منها وأنهم منكم

 

كاتبة من سورية

خاص بأوكسجين

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى