سمير العيطةصفحات سورية

الصراع في سوريا بين الفوضى والتنظيم/ سمير العيطة

 

 

«داعش» ليست تنظيماً إرهابيّاً، إنّها دولة إرهابيّة. وخلافها مع «جبهة النصرة» وتنظيم «القاعدة» قام أصلاً على هذا الفارق المهمّ. «داعش» لا تهدف لإسقاط نظام، بل أسّست نظاماً جديداً، أكثر فعاليّة من كثير من الأنظمة حولها. لديها مؤسّسات تُعنى بأنواع الخدمات كافة وجيش منظّم وأجهزة مخابرات تستطيع أن تصنع «علاقات دوليّة» و «مبادلات تجاريّة» ليس فقط مع السلطة وبعض أطياف المعارضة في سوريا، بل أيضاً مع بعض بقيّة الدول المحيطة بها.

هذا الفارق مهمّ. إذ إنّها تستقطب مقاتلين، بل وأيضاً أجزاءً من السكّان، لأنّها إرهاب منظّم ومدروس مع كلّ قباحته، وليست إرهاباً فوضويّاً وعبثيّاً كما يحدث في المناطق الأخرى. و «داعش» ليست صنيعة أحد الأنظمة القائمة بل هي لاعبٌ مستقلّ. إنّها نشأت من تلاقي جهاز السلطة العراقيّة السابقة وفعاليّته مع إرهاب «التقانات الحديثة» لتنظيم «القاعدة»، لتصنع دولة منظّمة في ظلّ الفشل المنظّم للدول المحيطة. وفي هذا التلاقي بالدقّة تكمن فعاليّتها. إنّها، تمثّل بمعنىً ما، الانتقام الأسمى لصدّام حسين من أعماق قبره.

فشل دولة العراق جاء نتيجة الغزو الأميركي في ظلّ جورج والكر بوش. وفشل الدولة السوريّة جاء نتيجة للانتفاضة الشعبيّة وطريقة السلطة بالتعامل أمنيّاً وإجراميّاً معها. وكذلك نتيجة فشل المعارضة في تنظيم عملها السياسي والعسكريّ. إلاّ أنّه فشلٌ مقصود نتيجة أطماع دولٍ قريبة وبعيدة ادّعت دعم الدولة السوريّة أو دعم ثورة شعبها. «داعش» إذاً هي النظام الوحيد المنظّم في ظلّ الفوضى القائمة في سوريا.

لم تنكشف حتّى الآن كلّ أسرار «داعش»، وإلاّ لكانت انهارت أمام ضربات خصومها منذ سنتين. لكنّ ما هو واضح أنّها تتغذّى من راديكاليّة دينيّة تخلق لها «عصبيّة» فعّالة – بالمعنى الذي استخدمه ابن خلدون. ومقاتلوها الأجانب كما المحليّون يخضعون لتفعيلٍ مضبوط بدقّة لهذه العصبيّة. ولهذه العصبيّة طموحات واسعة تتغذّى من الفوضى القائمة ومن الراديكاليّة التي تجذّرت في الخطاب الدينيّ في أرجاء المنطقة كافة، لدى السنّة والشيعة على السواء. وعلى خلاف إسلامٍ سمحٍ عرفه تاريخ المنطقة، تجذّرت هذه الراديكاليّة شعبيّاً لدرجة أنّ كبار الباحثين في الغرب مقتنعون أنّ الإسلام السياسيّ هو مستقبل المنطقة بعد «الربيع العربي». وكان أثر هؤلاء الباحثين كبيراً في سياسات دول كبرى دعمت هذا التيّار أكثر بكثير من دعمها لأيّ توجّه مدنيّ معتدل، بحجّة أنّ هذا ما تريده «الأغلبيّة»!

لا يُمكن مواجهة دولة «داعش» بسهولة. وحدها منظومة أكثر تنظيماً منها هي التي يُمكن أن تقدِر على مجابهتها وتحرير المناطق التي «تحتلّها»، وإثبات أنّ ما سيحلّ مكانها قادرٌ على حشد السكّان حوله. وليس المقصود بالتنظيم هنا فقط التنظيم العسكريّ التقنيّ بل أيضاً العقيدة. إذ إنّ الجيش العراقي خسر الموصل والرمادي وغيرهما ليس لأنّه غير مجهّز، بل لأنّه تصرّف تجاه السكّان بشكلٍ طائفيّ وفاسد، أي خارج عقيدة وحدة الدولة العراقيّة وحماية مصلحتها العامّة. وكذلك هو الأمر بالنسبة للبيشمركة الكرديّة في العراق.

في سوريا، لم تقم المعارضة بتنظيم نضالها. وبشكلٍ أكثر دقّة، لم تسمح الدول التي دفعت المعارضة إلى العسكرة وهيمنت عليها وعلى تسليحها وتمويلها أن يكون «الجيش الحرّ» جيشاً. لا من ناحية التنظيم العسكريّ ولا من ناحية القطيعة مع راديكاليّة فكر «داعش» والتنظيمات المرتبطة بـ «القاعدة». هذا مع أنّها كانت المستهدفة الأولى من قِبَل «داعش»، بالضبط لأنّها مشرذمة. وفي المقابل، دفعت السلطة بجيشها نحو التفكّك، واستقدمت ميليشيات متطرّفة، مثلها مثل المعارضة، بحيث لا يُمكن لمجموع هذه القوى سوى خلق فوضى هي بالضبط تلك التي تتغذّى منها «داعش».

إنّ موجة هجرة السوريين الكثيفة والتخوّف من صوملة سوريا التي تمتدّ أخطارها على الجميع خلقا مناخاً لمراجعة كثيرٍ من الدول لسياساتها، ولروسيا للدخول بقوّة في اللعبة السوريّة، كي توضع قواعد لعبة جديدة.

تمّت إزاحة موضوع مصير رأس السلطة وتفسيرات وثيقة «جنيف 1» جانباً لأياّمٍ تستعيد فيها الدولة السوريّة أنفاسها من فشلها. وتمّ وضع دور الجيش السوريّ في المقدّمة، كما إعادة الاعتماد عليه كقوّة وحيدة بقي لها نوع من الهيكليّة والتنظيم في مواجهة ليس فقط «داعش» بل الراديكاليّة المتجذّرة حولها. لكنّ هذا الدور «المنظّم» له متطلّبات لا تخفى على روسيا. إذ لا معنى أن يقصف جيش «دولة» السكّان المدنيين بالبراميل. ولا يُمكن لجيشٍ منظّم أن ينهب ويسرق عندما ينتصر في معركة، ولا أن يتعامل مع جميع المواطنين إلاّ على مبدأ أنّهم أهله. وأمر التنظيم هذا يعني المعارضة أيضاً. فلا معنى لمعارضة تستهدف الحريّة تكون «جبهة النصرة» هي حليفتها، بل أن تكون هي التي تحقّق «انتصاراتها».

سوريا مُقدِمة على أحداث جلل، وثمنٍ كبير يدفعه أهلها. ثمن الفوضى التي أثارتها السلطة كي تبقى، وغذّتها دول لمصلحتها، ووقع الكثيرون في فخّها. لكنه ربّما الثمن المطلوب لكي تبقى سوريا واحدة، برغم كلّ شيء.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى